الشاعر العبادي: النقاد مثل طواحين الهواء
العبادي يرى أن المشهد الشعري السعودي منفتح على الحواضر الثقافية العربية ومتصل باللحظة الكونية للإنسان.
يبقى الشعر ملاذ الآملين بمستقبل أكثر ضوءا، فمن خلاله يمكن محاكمة الإنسان والتاريخ والأرض، وعبره يمكن أن تصل الأسئلة العصية على الكشف إلى مكامن الأمن، تاركة كل العالم وراء ظهرها في مواجهة الشعر وحده. هكذا يقف الشاعر السعودي شفيق العبادي حيال نصه وأسئلته.“العرب”كان لها هذا اللقاء مع الشاعر.
صدرت مؤخرا عن دار عرب للنشر والترجمة في لندن المجموعة الشعرية الأولى للشاعر السعودي شفيق العبادي بعنوان“شيء يشبه الرقص”، وتأتي هذه المجموعة ضمن مشروع ملتقى حرف الأدبي لتبني طباعة الإبداع الشعري والأدبي، حيث سبق وأن قدّم الملتقى للقارئ العربي مجموعة إصدارات، كان منها ديواني الشاعرين عدنان العوامي ومحمد الماجد.
يعدّ العبادي «مواليد جزيرة تاروت شرق السعودية 1965» واحدا من أهم الأصوات الشعرية في الخليج العربي، لكنه اختار أن يسكن الظل، وألا يطبع شيئا من شعره إلا مؤخرا تحت ضغط الأصدقاء الذين يثق بهم، حيث مرّت على تجربته الشعرية أربعة عقود، تُرجم له أثناءها في عدّة دراسات وموسوعات أدبية، وله مشاركات على المستوى المحلي والعربي، كما أنه يعكف حاليا على مجموعة شعرية ثانية ستحمل عنوان“سماء وخمس نجوم”.
في بداية حوارنا توقفنا مع شفيق العبادي للحديث عن مناخات مجموعة“شيء يشبه الرقص”، خصوصا وأنها تأتي كصرخة أولى بعد 35 عاما من عمر تجربته الشعرية. ليقول“للحديث عن مناخات المجموعة، وسر تأخرها حتى اللحظة، لا بد من استحضار ذلك الموزاييك الثقافي الذي انتظمناه ورشة أطلقنا عليها اسم ‘منتدى الغدير الأدبي‘ حينها، والذي انبثق في ظرف فكري وثقافي ملبد بأسئلته وسجالاته ومعاركه.
حيث انعكس كل ذلك على جلساتنا وحواراتنا المطعمة بجرعات من الصدمة حملها البعض وأنا منهم، أسئلة لها استحقاقات واشتراطات فنية غذتها رؤية خاصة لحقيقة الشعر بما تشكله اللغة الحقيقية بكل ما تحمله من علائق تقربنا شيئا فشيئا لجوهر الأشياء بعيدا عن الوسائط المختلفة والتي هي عبارة عن جسور ليس إلا. كل ذلك تطلب ردحا إضافيا للاقتراب - إن لم يكن القبض - على اللحظة التاريخية”.
الشاعر لا يحبذ فكرة العمل على اتحادات للكتاب أو السعي وراء تجميعهم تحت مظلة واحدة من شأنها أن تؤطرهم
ويذكر أن منتدى الغدير الثقافي انطلق في شرق السعودية في الثمانينات القرن الماضي مع كوكبة من الأدباء والشعراء والإعلاميين متعددي المشارب والرؤى والأفكار، ولا يزال يقدّم أماسيه وفعالياته بهدوء متخذا من الأصدقاء حصنه الآمن الذي يشعل فيه أسئلته الكونية الكبيرة وحكاياته اليومية البسيط، حيث يرسمون بتوجهاتهم الثقافية المختلفة المعنى الحقيقي ل”اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية”.
وعن أثر جيل السبعينات والثمانينات من الشعراء على الأجيال التالية لهم يرى العبادي أن الحواضر الثقافية متناسلة أصلا من حواضر أخرى، كسمة بارزة لكل النتاجات الإنسانية بجميع أطيافها.
ويفصّل رأيه بالقول“الأسئلة التي تمثل عصب النص الشعري نسبيةٌ بكل ما تحمله من إشكالات وجودية واجتماعية وسياسية. تتفاعل تردداتها اطرادا وطينتها التي تشكَّل صلصالُها من بيئتها الثقافية حسب مرجعياتها. كما تكشُف عنه أنساقُنا المُشكِّلة لهوياتنا الخاصة جدا. هذا، بالإضافة إلى أن الدورة التاريخية في «مسيرة النص» الشعري لم تحمل معها قفزات مرحلية وحسب، بل انعطافة تجسَّر لغتَه، مؤْذنا لانفجاراتها الفنية أن تتعرى لأقصى طاقتها الجمالية، واشية للبعض ملامحها الجديدة التي عبَّدت الذائقةَ لاحقا لهذا الانصهار، حيث ابتدأت الحكاية بغيوم الحداثة منتظمة في سماء إبداعية واحدة دون فرز. أتفهم طبعا أن بعض الأسماء ليس لها من نصيب غير علاقتها التاريخية، وإن كان تواجدها لا يمكن إغفاله في بلورة هذا البناء كوسيط”.
وعن تحولات نصه الشعري على مستوى الأسئلة والقضايا التي تسكنه منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن، يقول العبادي“سآخد دور الناقد هنا برهة لرصد أكثر مفردتين احتلتا قاموس نصي الشعري وهما الرحيل والبحر، وكما تعلم ما لهاتين المفردتين من دلالة ‘اللاسكون‘ معتقدا أن هذه العدوى تسربت إلي من طقس مناخ الثمانينات الذي أخبرتك عنه بتحولاته وقفزاته السريعة مما تطلب مواكبته على مستوى المغامرة الكتابية”.
بالعودة إلى التاريخ، فمنذ عام 1979، عاش المثقف السعودي في المنطقة الشرقية تجاذبات دينية من قطبين كبيرين تمثّلا أولا في تيار الصحوة في الداخل السعودي، وهجومه على الحداثة ومعطياتها.
كان سؤالنا لضيفنا الذي شهد المرحلة، كيف تعامل المثقفون أيامها مع هذين التيارين، وكيف كان تأثير امتدادهما عليهم؟ وهل يمكن أن نلمسه على منابر الثقافة ومزاجها العام، لاسيما بعد الموقف السعودي الرسمي من الخطاب الصحوي مؤخرا المتمثّل في تصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان؟
يجيب العبادي“سأعبر بوابة هذا السؤال من خلال رأي للأستاذ محمد العلي وهو الشاعر والمفكر الذي خاض غمار هذه المرحلة بكل تجلياتها حول سؤاله عن انعكاس حراكهم الفكري في واقع التحديث المجتمعي، حينما صوب البوصلة على تمظهرات الحداثة في مفاصل هذه المجتمعات، والتي لم يقيض لها ذلك لولا الصدمات «الكهروحداثية»، وإذا سمحت لي بإضافة هنا سأشير إلى مسافة الضوء التي قطعتها اللغة كرحم لمختلف الأجناس الكتابية كونها فاضحة أنساق من خلال حرثها لظلال اللغة والمسكوت عنه”.
لا يجد الشاعر نفسه مدفوعا أو متناغما مع مأسسة الكتابة بكل أطيافها، والتي تتنافر - بحسب تعبيره - ومزاج المبدع العصي على التأطير. لهذا لا يحبذ فكرة العمل على اتحادات للكتاب أو السعي وراء تجميعهم تحت مظلة واحدة من شأنها أن تؤطر المبدع وتحجزه ضمن سياقات محددة.
يقول“هذا المزاج الذي استحال أجنحة لتفصيل فضاءات بمقاس شغفه للتفرد أحيانا، ورئتين إضافيتين مليئتين بأكسجين الحياة أحيانا أخرى، وإن رأى البعض أن ذلك سبيل للملمة حالة التشظي التي - باعتقادي - لم يكن غياب المظلة هو السبب الوحيد بقدر احتشاد المشهد بحالات طارئة على الكتابة الإبداعية شكلت له حالة من الترهل تعافى منها المبدعون الحقيقيون”.
وعن رأيه في مدى مواكبة الحركة النقدية في الخليج للإنتاج الإبداعي يغلب العبادي الحركة الإبداعية على الحركة النقدية، ويؤكد أن الإبداع ضارب بعيدا في الجذور، حيث يعدّ مكوّنا مهما لأي بناء حضاري مر به التاريخ البشري.
ويقول الشاعر“كانت الحركة الإبداعية هي الأكثر إفادة وانفتاحا على المنتج الإنساني في فتوحاته الأدبية الأخيرة دون انقطاع أو التقاط أنفاس، خلافا لموجة النقد التي انشغل فرسانها بالداخل تنظيرا وتأصيلا وتلميعا، ليغدوا كطواحين الهواء التي لاهي أنتجت حبا، ولا هي ألهبت صبّا”.
ويرى العبادي أن المشهد الشعري السعودي المعاصر كان ولا يزال متوائما ومنفتحا على كل ما تخفق به الحواضر الثقافية كمفردة في سياق خارطتها الإبداعية. يقول“لم يكن لا هامشا، ولا مضافا - كما يحلو للبعض تصويره - مقطورا بحساسية فنية ومعرفية لشعراء مبدعين قيضت له أن يتجاوب تقنيا وفق اللحظة التاريخية المعاصرة لرحلة النص الشعري ومسارات اللغة، ليطبع بصماته على المنجز الكوني دون مبالغة”.