النَّخلة والسِّدرة
كانت الفسيلات الصغيرة تثقبُ لها ثقباً برأسها المقمم، فيطلعُ برعمها الأخضر من قلب النواة التي رمت بها النخلة بعيداً عنها، ليس لها من الظل والماء إلا النزر، تُكبرها حرارة الشمس وقساوة الصحراء تصنع منها نخلةً بعد حين تؤتي أكلها بسخاء، حين كنا أطفالاً يروقنا منظر نخلة بيتنا نسقيها وعلى بعدٍ منها فسائلها الصغيرة تكبر، فنعمد إلى نواة الثمر المتساقط ونزرعه في كؤوس ونتباهى بفسائلنا حين تنمو، أما السدرة فكانت تمتد أغصانها الكثيفة وتفرش أوراقها ظلاً تستظل ببرده ثمارها المتساقطة تحتها مباشرةً، لا يصلُ إليها من الشمس إلا ماتسرب من بين أوراقها، إن مرَّ بها سائر جمع قطافها واستلذ به وإلا طافت به الأيام فذبل وتعفن تحت السدرة العظيمة.
يكمن الإبداع حيث الطاقة التي أودعها الله في بني البشر أكان يسكن كوخاً متهالك أم قصراً أشم، ولعل الراحة والإعتياد على مسالك حياة مريحة هي ماتُميت في الإنسان تلك العظمة التي غالباً مايتستهين بها، لن نعرف عن المبدعون وصانعوا النجاح كامل القصة، لكن فصل الجهد وجولات الحياة هو أولها حتماً، فحسبكَ ماتحب واجهد فيه كل الجهد وكفى بيديكِ تصفقان لك إن لم تجد غيرهما في الحياة.
يُعاب على المرء سبل الإبداع المتاحة من غير نقصان ذات اليد والحياة الأقل تعباً والأكثر ترفاً على مصافِّ رقع الأرض، فيقرعُ حظه بأرضه الصحراوية، المقفرة من الخضرة والمياه، المكسوة بالمناظر الصفراء من الرمال، ماخلت من زرقة البحر، ثم شاء الله أن يستخرج أبناؤها كنزٌ لهم من تحت أرضهم، فبدَّل الحال إلى أيسره والمال إلى أوفره والسكنى إلى أحسنها ضعناً وإقامة، ومات الفقرُ موتةً لم يُبعث من بعدها إلى أن يشاء أهلها نكران النعمة والتبجح في ذم أرضهم التي أنبتتهم وأحسنت نباتهم، حتى إذا أشتم أحد أبناؤها هواءً أنقى منها عاد وزفر عليها، وإذا أبصر من هي أجمل منها شزر إليها بعينيه ولملم أثوابه وقال إني مهاجر.
كلُّ الأرض لك أيها الإنسان ترثها إن كنت عبداً صالحاً أينما أنبتك الله في أي حضنٍ من أحضانها، لم يكن نبي الله إبراهيم بغافلٍ عن طبيعةِ أرضِ مكة المجدبة، حتى إذا حط رحاله ووضع أهله قال: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ شكر أهلُ إبراهيم ربهم، وشكرت لهم مكة شكرهم، فصارت أرضاً تورث الوفاء زمناً بعد زمن، وكأن إبراهيم حينما دعا ربه لها بالنماء والوفرة كان جميلاً وجب عليها رده، وما أحوج أرضنا للوفاء منا، تمنحنا الهوية فنمزقها عند أول عتبة نطؤها على أرضِ الغريب، فنخلط الشرائع بالحريات، والأفكار بالمدنية، ثم نأتي على الهوية نتهمها بتراجع مجتمعاتنا فنمزقها وتتطاير في فضاء واسعٍ من التيه لا اجتماع لها بعده، ثم يشار لنا بالبنان أننا بدأنا السير نحو الحضارة المفقودة في بلادنا، وما علمنا أن الحضارة إنما كانت تُقرَأ على صفحات المدن، حصونها وجدرانها، أرضها وأحجارها، جميعها تحكي لنا فصول الحروب والنكبات ومامرت به من أزمنة مظلمة، وأنها لم تولد في ساعةٍ من الغنى وراحةٍ من العيش إنما مخاض طالت عليه الأزمنة من الفقر والحروب، وظلت هويتها هي ناموسها الأثمن الذي دارت حوله أفلاكها.
تحتفظ مدينة كراكوف البولندية بحصون الحروب القديمة حول أطراف المدينة منذ مئات السنين حتى اليوم، وتحتفظ مبانيها بطراز ماقبل الحرب العالمية وكأن طائف الحرب لم يطف بها يوماً ولم يساويها قاعاً صفصفاً بالأرض، ولباريس وزهورها حكاياتِ شجن مع القذارة والرائحة النتنة التي كانت تفوح حتى أطراف المدينة، حتى أن أهل أوروبا خفُّوا المسير إليها، أما مكة فتحتفظ بدعوة نبيها فتحكي لك قصة الأيام التي يداولها الله بين الناس، كل المدن ادخرت أسرارها وآلامها من أجل مستقبلٍ أجمل لوارثٍ بعد وارث، مستقبل ركائزه الهوية والإبداع والإيمان بالجانب الأجمل.
كان نبي الله عيسى يجول الأرض مع حوارييه، فمروا بجيفةِ خنزير، قال أحدهم ما أنتن رائحته، وقال آخر ما أشد سواد جلده، وقال آخر ما أقبح وجهه، أما عيسى النبي فقال ما أشد بياض أسنانه، علموا أطفالكم البحث عن صور الجمال حتى في اللوحة القبيحة، فستكبر آمالهم وهم يجدّون السير في البحث عن الجمال أينما كانوا، فبذلك تولد الأوطان وتقوم الأمم.