آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:58 م

الْفِتْنَة‎

طاهرة آل سيف

يصيحُ العبد عاجزاً في كل مرةٍ يخطيء أين أنت ياربي لا تُريني الصواب، حبذا لو طائر في السماء كما ذاك الغراب الذي علم الأخ كيف يدفن أخاه، فلينبهني هنا قبل الخطيئة، لمَ لي نفس أمارة وللخطيئة عقوبة!، أفأخلق هاهنا ثم أعذَّب!، ماذا لو قدرت لي أن أكون مَلَكَاً ذو عقلٍ محض لامساحة للشهوات الميالة للهاوية، ثم أعيش الحياة وختامها الجنة بكل تأكيد!، يعلو صوته يامالك الجنات ألا تأمر بنا للجنة جميعاً دون أن نعبر طريقها الوعر، بيدك القدرة قبل إقرار القدر لمَ نعذب هاهنا! يكاد يأكل بعضنا بعضاً ضاقت بنا الدنيا بظلمها!

تخفي الفطرة الجواب عن الإنسان في ذلك الوقت، فهذه دار اختبار ولكل مختبر ورقة فهل يأتي الأستاذ في كل مرة ويشيرُ لك على أخطائك وتصححها!، هذه الدنيا دنيا تنافس، وتلك الجنة جنة مراتب إن نبه الله البشر جميعاً قبل أخطائهم فأين الفضائل ومراتبها التي وعد الله بها، أنت خلقٌ مكرّم عند الله، الملائكة التي يغريك قدرها هم بلا إرادة يفعلون مايؤمرون، كرامٌ لا يعصون الله ما أمرهم لكنهم سجدوا لطينتك الخطاءة، وقف الجميع وقفة جدل مع الله حين خلقك حتى سجد لك من سجد وكفر من كفر، ألا تكون خلقاً عظيماً عند الله.

ثم تراه يصعد أعلى قمة من كبريائه ويشهر كفرانه فتتساقط من رأسه كل قيمة سماوية وتتهشم كل الحدود الربانية يستديرُ بظهره عن ربِّهِ غضبان، ويسترضي غروره حين ينادي في الناس: أيها الناس العلم ينقض دينكم، والدهر ينقض الشرائع، فتهبُّ الرياح هوجاء تعصفُ بالناس فمن يخجل بالأمس أن يجاهر بالحرام يشار اليوم إلى حريته الشخصية، ومن كان صابراً بالأمس على بلائه يُصاح به: حياتك مرةً واحدة فخُض غمارها كما تشتهي سفنك واترك البحر رهواً خلفك، انظر للأمم كيف استطاعوا النهوض حين عزلوا الدين عن حياتهم وعلمهم، انظر إلى أوطانك وبلادك يأكلها طاعون التعصب والجهل، ثم يُقلَّبُ الدين على أهله ويخلط الأعراف والجهل والمباديء على بعضها، والأوطان على ساكنيها، ويموج الناس في بعضهم موجاً، وحين تسمعُ الجبال أن تلك الأمانة قد انقضت ظهر الإنسان حين حملها، وهاهو يشهر كفرانه، تقهقه عليه مستهزئة استدر عن ربك ماشئت فما بكت عليك السماء ولا الأرض.

ويشيح بوجوههم من يحرسون دين الناس عن ذلك العبد الذي ماعرف عن ربه في سنيه الأولى إلا أنه إن أخطأ فإن الله سيعاقبه، في حينٍ كان له أن يعرف فقط أن الأطفال أحباب الله، فتبدأ أولى الصور الضبابية حول ربه، وتكون العقوبة قبل الرحمة كأول معرفة بينه وبين خالقه، ثم يكبر ويشدد الحراس القبضة حول شرائعه وحلاله وحرامه وصحة مذهبه ودينه وبطلان ماسواها، ويفني عمراً وهو يحاول الإستقامة، خوفاً من ربه تارة، ورغبة في جزائه تارة، ولا يعرف أن الإستقامة حباً وعرفاناً، حتى يستفيق مارد الفتنة في قلبه وتتقلب عليه ظواهر الدهر، ولكن تبقى سحابة الله تظلل الجميع، فلايرسل غضبه على من هم لا دينيون، ولا رحمته على من هم متدينون.

ظل إبراهيم يبحث عن معبودٍ حق، فيحبه ويملأ قلبه تصديقاً به ثم بعد ذلك يأتمر لأمره وينتهي لنهيه حباً لذلك المعبود الرحيم، لكننا لم نعد على ذلك الأمر، ليت كان لنا درساً واحداً في البحث عن الله في نفوسنا عندما كنا صغاراً، سيكون بحثاً ملتحماً بالفطرة ضاربةً جذوره في القلوب الصغيرة، وحين نكبر لن تستطيع أن تميل به عواصف الدهر، يكاد الآباء والأمهات _ إلا من رحم ربي يضربون وجوههم وأدبارهم رعباً وخوفاً على دين أبنائهم من مواكبة المدن والحضارات والتي ظلوا عليها عاكفين سنين من الأماني والآمال.

مرت عصوراً طاحنة من الحروب مابين الأديان والعلماء خوفاً من العلم أن يشكك الناس في دينهم، فما كان النصر في الأخير إلا للعلم ولكنه أصبح عارياً وحيداً بلا دعامة ربانية، ركائز الأمم والفضائل حين يجتمع العلم والدين معاً، وهذا مايقره الإسلام، كل مافي الأمر نظرةً ممن أحب أن يمسك على الناس دينهم أن ينظر في عقولهم وتواترها مع الزمن أولاً، فضيلة البحث عن فكرة وجود خالق لهذا الكون وفكرة الإله وعلل الشرائع قد تكون كفيلة أن يقبض الجيل القادم على دينه دون أن يقبض الجمر، أتمنى لو يطفأ الجمر في قلب كل من اشتبهت عليه صورة الرب، فلن يحارب نفسه حين يسكنها الله، بل سيخوض الحرب في وجهتها الصحيحة على جبهة واحدة فقط مع الشيطان.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 25 / 7 / 2018م - 8:41 ص
فكرٌ طاهرٌ مثل الماءِ الجاري وواضحٌ مثل حد السيفِ الصقيل. بورك من قلمٍ نير وبيانٍ قل نظيره فيما قرأت.
الإنسانُ هو ذاك "الجرمُ الصغير الذي انطوى فيه العالم الكبير" ويجادل في كل شيء "وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" وهذه الصفات التي تعطيه مكانةَ الملائكة أو تنزله منزلة الشياطين.

أحسنت، بين العلم الناقص والمربي البعيد عن الكمال وانشغال العبد بحاله يصبح القابضُ على دينه كالقابض على الجمر.
سؤال حيرني كثيرا: هل تبقى الملائكةُ يطيعون الله تكويناً لا تكليفاً فأين الثواب والعقاب مع غياب الإرادة.؟