آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 6:12 م

الشاعر الصحيح: «رمضان الحداثة» يختلف في جوهره كثيرا عن «الماضي»

جهات الإخبارية سوزان الرمضان - الاحساء

أصبح الإنسانُ داخلَنا مقفراً من الوجد، أصبحنا نمارسُ ما تبقَّى من تلك الطقوسِ ممارسةً عابرةً كي نترجمَ ما تبقَّى في نفوسِنا من حنينٍ إلى «رمضاننا» الأوَّل.

في حواره مع «جهينة الاخبارية» يطل علينا الشاعر جاسم الصحيح ليأخذنا في جولة مع شهر رمضان «رمضانه» في صورته القديمة والحالية، وكيف نفهمه فيؤثر في وعينا، طقوسا وحركة.

ما هو مفهوم رمضان؟ وهل نغتنم حقيقته في نظرك؟

اكتسبَ «شهرُ رمضان» قدسيتَهُ التي نؤمنُ بها الآن من الدين الإسلامي، وكلُّ طقوسِهِ التي نمارسُها عامًا بعد عام تحاولُ أن تزرعَ الروحانيَّةَ في النفوس، وتعمِّق الإنسانية في البشر، وتجعل الإنسانَ يشعر بمآسي أخيه الإنسان.

في الماضي، كان «رمضان» يختلف كثيرا في طقوسه عن بقيَّة الشهور..

كان «رمضان» منذ يومه الأوَّل يعلنُ حَظْرَ تَجَوُّلِ الطيشِ في شوارعِ النفوس ويحرسُ هذا الحَظْرَ المقدَّسَ بكتيبةٍ من الطقوسِ المدجَّجَةِ بالفضيلةِ والقِيَمِ كُنَّا نمارسُها بعمقٍ وصدقٍ ومودَّة من أجل أن نضخَّ في أوردةِ إنسانيَّتنا كثيرا من الماء والعشب والهواء النقيّ.

أما الآن، وبعد أن طَرَقَ الزمنُ وجوهَنا بعنفٍ شديدٍ وصارخٍ، وأصبح الإنسانُ داخلَنا مقفراً من الوجد، أصبحنا نمارسُ ما تبقَّى من تلك الطقوسِ ممارسةً عابرةً كي نترجمَ ما تبقَّى في نفوسِنا من حنينٍ إلى «رمضان» نا الأوَّل.

هل ساهمت التكنولوجيا في غياب العادات عن هذا الشهر؟

«التكنولوجيا» ساهمتْ في صناعةِ «رمضان» آخر غير رمضان الذي نعرفه؛ إنَّهُ «رمضان الحياة المعاصرة»، أو «رمضان الحداثة» الذي اختلف كثيرا في جوهره عن «رمضان الماضي»، وهذا هي سُنَّةُ الحياة في الاختلاف، ولستُ هنا أُعطي حُكمًا بالأفضلية لأحدهما على الآخر. لكنَّ الاختلافَ الأكثر وضوحا يتجلَّى في الحالة الروحانية التقليدية التي تضاءلتْ إلى حدٍّ كبير، واندثار بعض العادات الحسنة في ظلِّ طغيان مظاهر الحياة الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي ومسلسلات التلفزيون وغيرها.

مثلا، بدلًا من الزيارات العائلية التي كانت تجمع أفراد الأسرة الكبيرة، أصبحت تطغى علينا الزيارات الواتسبيَّة في مجموعات الواتساب.

هل لهذا الشهر تأثير في نتاجك الأدبي؟ وكيف تصف سير نشاطك فيه؟

أعتقد أنَّ الإنتاج الإبداعي يمثِّل حالةً وَحْيَانِيَّة تعتمد في الأصل على التأمُّل في الحياة والطبيعة، ولا تعتمد على التقويم الزمني للشهور، سواءً كان رمضانا أو رجبا أو محرما. ولكن في الوقت ذاته، ربَّما طبيعة رمضان الروحانية التي خلقتها ثقافةُ الإسلام..

هذه الطبيعة تمنحنا تَوَجُّهًا موضوعيًّا إلى الكتابة الروحانية التي تتَّفق وطبيعة رمضان. ولا شكَّ أنَّ الإنتاج الإبداعي يتأثر في رمضان بسبب الصوم والأجواء الرمضانية على عمومها، ودائما ما يكون التأثير سلبيًّا على الكتابة وقد يكون إيجابيا بالنسبة للقراءة.

كيف تصف رمضان في طفولتك وعلاقتك بهذا الشهر؟

لقد كبرتُ مع «شهر رمضان» بوصفه صديقا قديما، وناجيته في عدَّة نجاوى، ومنها هذه المناجاة التي تجسد طفولتي معه خير تجسيد:

«رمضانُ يا رمضان».. لن أقف في حضرتك وقوفَ الوعَّاظ والخطباء المفوَّهين.. سوف أقف بوصفي صديقا قديما ترعرع في حديقتك طوال ما يربو على «خمسة وأربعين» عاما خلت.. أيْ منذ أن كان طفلا صغيرا في قامة العشب حتى أصبح رجلا كبيرا في قامة النخلة. «خمسةٌ وأربعون» عاما يا رمضان.. أليست كثيرة على الصداقة الحميمة لدرجة تحويلها إلى مجرَّد ألفة عاديَّة حيث تتخفَّف العلاقات الإنسانية من حرارتها.

أتذكَّر أنني بدأتُ معك طفلا لا يعرف من معناك سوى الإمساك عن الأكل والشرب. لذلك، كان كثيرا ما يجلد بي الحياءُ أرضا حينما أجرحك في النهار بسكِّين الغفلة. وحينما يتدفَّق الليل من منابعه العلويَّة، يترجَّل ذلك الطفلُ عن صهوة إمساكه على مائدتك الموفورة، مجذوبا إلى أكلاتك الشعبية بكلِّ أشكالها المتعددة حتَّى ترتوي فيه شهوة الطعام. ولم يكن لديك ما يجذبه إلى أحضان السهر بعد أن ينفرط عقدُ المائدة.. لم يكن لديك سوى القرآن الكريم جالسا على عرشه، مفتوحا أمام الطفل الذي يقرأه على نِيَّته حيث تتعثَّر الكلمات بين شفتيه مثلما تتعثر الشمسُ بين الغيوم، بينما أصداء لياليك تعلو فيما الظلامُ يتكسَّر على رائحة فوانيسك ويطويني ما بين أذرعة النوم على عجل لتظلَّ تلك الفوانيس تلهث حتى آخر أنفاس الحياة في فتيلتها.

تركض أيَّامك يا «رمضانُ» وأنا أركض خلفها في مهرجانٍ مهيب من الآيات المحمولة على هودج الترتيل آناء الليل وأطراف النهار. تركض أيَّامك وأنا أركض خلفها حتى نرتطم جميعا بجدران الوداع. وهناك، لا تستطيع أن تمنعني عن وداعك «جِنِّيَّةُ» الليل التي تقفز خارج الأسطورة كلَّ ليلةٍ وتزرعني في الفراش مبكِّرا. يوقظني الهزيع الأخير على صوت «المسحِّر» فأقفز على حاجز الخوف وعقبة الظلام وأتبعه مندفعا في لجَّةٍ من الصبيان والكبار، نضيء معا الأزقَّة التي لم تصلها الكهرباء بعد، بمصابيح التكبير والتهليل، بينما «المسحِّر» ينقش أشكال آلامنا لفراقك على جلدةِ طبلته.

وصفت آخر دواوينك بالواقعية، وما قبله بالصوفية والرومانسية، فكيف تصف ديوانك الجديد «قريبٌ من البحر.. بعيدٌ عن الزرقة»؟

لا أعتقد أنَّ هذه الأوصاف باتت تمثِّل لي هاجسا. ديواني الجديد يمثِّل أسلوبي الجديد في الكتابة الشعرية ويمكن اختزاله في أنَّ داخل قصيدتي كائنا يعيش حياته ويمارسها كما أمارس أنا حياتي في هذا الوجود. أحيانا تطغى النزعة الصوفية عليَّ فتطغى على ذلك الكائن في الكتابة، وأحيانا أكون رومانسيا فيصبح ذلك الكائنُ رومانسيا في القصيدة، وأحيانا أكون «كذا» فيكون هو «كذلك» في النصوص.

حدِّثنا عن تجربتك مع جائزة عكاظ؟

الأجمل من جائزة عكاظ أو أيِّ جائزة هو لذَّة السعي إليها إيمانا بالإبداع والشعر، وليس إيمانا بالجوائز. منذ بداية مهرجان سوق عكاظ قبل عقد ونصف تقريبا، لم أنقطع عن حضور هذا المهرجان والمشاركة في برامجه من خلال الأمسيات الشعرية. أما من جهة جائزة عكاظ، فقد قدَّمتُ عليها خمس مرات خمسةِ مواسم متفرقة، تتوَّجتْ ولله الحمد في هذا الموسم بالحصول على الجائزة.

هل من أبيات تُوَجِّهها لقرَّاء «جهينة الإخبارية» في شهر الخير؟

أعتقد أنَّه نصي «رقصةٌ عرفانيَّة» الذي كتبته خلال شهر رمضان قبل عقدين من الزمن، وتمَّ الاحتفاء به في وقته، ووضعتُهُ عنوانا لأحد دواويني الشعرية، وهذا مقطع من النص:

حين فَتَّشْنَا بريدَ الروح

في أعماقِنا الأولى

وَجَدْناَ دعوةً من عاشقٍ جاءَتْ بلا عنوانْ

وادَّعَينا حينَها أنَّ الهوى عنوانْ

فانطلقنا خارجَ الأجسادِ

في غيبوبةٍ ممتدَّةِ السُّلطانْ

كلُّ شيءٍ في المدى المخمورِ بالعشقِ

تجلَّى «هدهداً» نشوانْ

مفعماً بالخبرةِ الفيحاءِ

في الدربِ التي تُفضي إلى بوَّابة الإيمانْ

لم يغبْ عنَّا «سليمانُ»

ولكن بعضُهُ غابَ

فلم نعثرْ على «بلقيسَ»

إلا ومضةً في باطن الوجدانْ

كم جَرَحْنَا «هدهداً» بالشكِّ

حين اخْتَلَّتِ النجوَى وشِيبَتْ خمرةُ العرفانْ