الشاعر الصحيح: «رمضان الحداثة» يختلف في جوهره كثيرا عن «الماضي»
أصبح الإنسانُ داخلَنا مقفراً من الوجد، أصبحنا نمارسُ ما تبقَّى من تلك الطقوسِ ممارسةً عابرةً كي نترجمَ ما تبقَّى في نفوسِنا من حنينٍ إلى «رمضاننا» الأوَّل.
في حواره مع «جهينة الاخبارية» يطل علينا الشاعر جاسم الصحيح ليأخذنا في جولة مع شهر رمضان «رمضانه» في صورته القديمة والحالية، وكيف نفهمه فيؤثر في وعينا، طقوسا وحركة.
في الماضي، كان «رمضان» يختلف كثيرا في طقوسه عن بقيَّة الشهور..
كان «رمضان» منذ يومه الأوَّل يعلنُ حَظْرَ تَجَوُّلِ الطيشِ في شوارعِ النفوس ويحرسُ هذا الحَظْرَ المقدَّسَ بكتيبةٍ من الطقوسِ المدجَّجَةِ بالفضيلةِ والقِيَمِ كُنَّا نمارسُها بعمقٍ وصدقٍ ومودَّة من أجل أن نضخَّ في أوردةِ إنسانيَّتنا كثيرا من الماء والعشب والهواء النقيّ.
أما الآن، وبعد أن طَرَقَ الزمنُ وجوهَنا بعنفٍ شديدٍ وصارخٍ، وأصبح الإنسانُ داخلَنا مقفراً من الوجد، أصبحنا نمارسُ ما تبقَّى من تلك الطقوسِ ممارسةً عابرةً كي نترجمَ ما تبقَّى في نفوسِنا من حنينٍ إلى «رمضان» نا الأوَّل.
مثلا، بدلًا من الزيارات العائلية التي كانت تجمع أفراد الأسرة الكبيرة، أصبحت تطغى علينا الزيارات الواتسبيَّة في مجموعات الواتساب.
هذه الطبيعة تمنحنا تَوَجُّهًا موضوعيًّا إلى الكتابة الروحانية التي تتَّفق وطبيعة رمضان. ولا شكَّ أنَّ الإنتاج الإبداعي يتأثر في رمضان بسبب الصوم والأجواء الرمضانية على عمومها، ودائما ما يكون التأثير سلبيًّا على الكتابة وقد يكون إيجابيا بالنسبة للقراءة.
«رمضانُ يا رمضان».. لن أقف في حضرتك وقوفَ الوعَّاظ والخطباء المفوَّهين.. سوف أقف بوصفي صديقا قديما ترعرع في حديقتك طوال ما يربو على «خمسة وأربعين» عاما خلت.. أيْ منذ أن كان طفلا صغيرا في قامة العشب حتى أصبح رجلا كبيرا في قامة النخلة. «خمسةٌ وأربعون» عاما يا رمضان.. أليست كثيرة على الصداقة الحميمة لدرجة تحويلها إلى مجرَّد ألفة عاديَّة حيث تتخفَّف العلاقات الإنسانية من حرارتها.
أتذكَّر أنني بدأتُ معك طفلا لا يعرف من معناك سوى الإمساك عن الأكل والشرب. لذلك، كان كثيرا ما يجلد بي الحياءُ أرضا حينما أجرحك في النهار بسكِّين الغفلة. وحينما يتدفَّق الليل من منابعه العلويَّة، يترجَّل ذلك الطفلُ عن صهوة إمساكه على مائدتك الموفورة، مجذوبا إلى أكلاتك الشعبية بكلِّ أشكالها المتعددة حتَّى ترتوي فيه شهوة الطعام. ولم يكن لديك ما يجذبه إلى أحضان السهر بعد أن ينفرط عقدُ المائدة.. لم يكن لديك سوى القرآن الكريم جالسا على عرشه، مفتوحا أمام الطفل الذي يقرأه على نِيَّته حيث تتعثَّر الكلمات بين شفتيه مثلما تتعثر الشمسُ بين الغيوم، بينما أصداء لياليك تعلو فيما الظلامُ يتكسَّر على رائحة فوانيسك ويطويني ما بين أذرعة النوم على عجل لتظلَّ تلك الفوانيس تلهث حتى آخر أنفاس الحياة في فتيلتها.
تركض أيَّامك يا «رمضانُ» وأنا أركض خلفها في مهرجانٍ مهيب من الآيات المحمولة على هودج الترتيل آناء الليل وأطراف النهار. تركض أيَّامك وأنا أركض خلفها حتى نرتطم جميعا بجدران الوداع. وهناك، لا تستطيع أن تمنعني عن وداعك «جِنِّيَّةُ» الليل التي تقفز خارج الأسطورة كلَّ ليلةٍ وتزرعني في الفراش مبكِّرا. يوقظني الهزيع الأخير على صوت «المسحِّر» فأقفز على حاجز الخوف وعقبة الظلام وأتبعه مندفعا في لجَّةٍ من الصبيان والكبار، نضيء معا الأزقَّة التي لم تصلها الكهرباء بعد، بمصابيح التكبير والتهليل، بينما «المسحِّر» ينقش أشكال آلامنا لفراقك على جلدةِ طبلته.
حين فَتَّشْنَا بريدَ الروح
في أعماقِنا الأولى
وَجَدْناَ دعوةً من عاشقٍ جاءَتْ بلا عنوانْ
وادَّعَينا حينَها أنَّ الهوى عنوانْ
فانطلقنا خارجَ الأجسادِ
في غيبوبةٍ ممتدَّةِ السُّلطانْ
كلُّ شيءٍ في المدى المخمورِ بالعشقِ
تجلَّى «هدهداً» نشوانْ
مفعماً بالخبرةِ الفيحاءِ
في الدربِ التي تُفضي إلى بوَّابة الإيمانْ
لم يغبْ عنَّا «سليمانُ»
ولكن بعضُهُ غابَ
فلم نعثرْ على «بلقيسَ»
إلا ومضةً في باطن الوجدانْ
كم جَرَحْنَا «هدهداً» بالشكِّ
حين اخْتَلَّتِ النجوَى وشِيبَتْ خمرةُ العرفانْ