آخر تحديث: 10 / 10 / 2024م - 10:16 م

مثقفو ما بعد النخبوية «شعبنة المثقف»

كمال الدوخي * صحيفة اليوم

ارتهن الواقع الثقافي لسلطة الجمهور، لم يعد للمثقف قدرة على تقديم نقد يخلق وعياً للجمهور. لذا؛ لم يجد بعض المثقفين مادة يقدمونها سوى التعليق على الأحداث وتحليلها دون قدرة على توليد الأفكار. بعضهم انتهى به الزمن من برجه العاجي إلى اليوتيوب والسناب لتقديم جرعات ثقافية؛ لعله يستطيع أن يهتف وسط زحام الجمهور أنا موجود. لا أعلم هل صدق علي حرب بإعلانه موت النخبة؟ أم أن الأخير لا يزال يصبغ الواقع الثقافي بسوداويته التي أنهت كل منجز ثقافي عربي. النخب الثقافية على قيد الحياة، لكن هناك محاولة لتوسيع تعريف المثقف لتحميله مالا يطيق. فلا يمكن أن يكون الوعي النسبي للجمهور وتفاعله مع ما يقدمه بعض المثقفين يعكس ثقافة الفرد. الجميع مارس لعبة كرة القدم، وهناك من لديه معلومات عن كرة القدم والفرق المتنافسة واللاعبين ولكننا لسنا لاعبي كرة قدم. وكذلك المثقف، ليس كل من لديه معرفة ومعلومات ثقافية يدعى مثقف، لكنها إفرازات عصر ما بعد الحقيقة ”Post - truth“.

فعندما تصبح «الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في صياغة الرأي العام مقارنة بالاحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية» ينتج لنا المشهد الثقافي مثقف رقمي في أدنى تعاريفه. لعل المثقف الرقمي الشعبوي هو أدنى أشكال المثقف الرقمي، وليس بالضرورة أن يكون الشعبوي يتبنى أيدلوجيا محافظة، يكفي أنه يتلاعب بعواطف الجماهير للوصول لغاياته أو لمجاراة رغبات المجتمع الرقمي. المثقف الحقيقي يقدم نقداً وتحليلاً للمجريات، يُنتج ويعيد صياغة الأفكار، منشغل في إيجاد المقاربات، وعندما يستجد حدث يضعه على طاولة التشريح ثم يعلن موقف. أما المثقف الرقمي فتائه بين التشاؤم والتطبيل استجابة لما يطلبه المتابعون، تجده في تناقض سلبي مستمر مع ذاته؛ فالتناقض الإيجابي مع الذات وارد.

المثقف النخبوي لم ينحدر للشعبوية ولكن الشعبوي اعتلى صهوة الثقافة، ليتقدم المتثاقف على المثقف في المشهد الرقمي مستخدماً ثقافته الموسوعية أو مستنجداً بالعم «جوجل». من يردد معلومات «كالكاسيت»، من يتحدث بمجال تخصصه - المتعلم - لا يمت بصلة بكل تعاريف المثقف على الرغم من إشكالية وتعدد تعاريفه.

بعض المثقفين الرقميين - الحداثيين «كما يزعمون أو كما يبدون» نسخة مقابلة للمتدينين المتطرفين بما يحملونه من موروث ديني، لكن بأفكار وموروث الحداثة وبعدياتها.

هو ينتقد إقصاء المتدينين للمخالفين، وتمسّكهم وتقديسهم للنص على حساب روح الدين والعصر. وفي المقابل تجده موغلاً في التطرف والإقصاء والتمسك بأفكاره، ومُقدس للنص الحداثي وأقوال الحداثيين على حساب روح الحداثة والدين. لذلك الصدام الرقمي الذي يحدث على منصات مواقع التواصل الاجتماعي هو صراع بين التطرف وذاته، بعضٌ يمزق بعضه بذات الأدوات ومن ذات المنطلق. المثقف الرقمي الحداثي يقوم بعملية اجترار للنصوص الحداثية وإعادة إنتاج التطرف بلغة مقابلة للمتطرف الديني. وبعض المثقفين الرقميين المتدينين تائهين بين محاولة الحفاظ على أصالة الدين في المجتمع وبين إعادة إشكاليات فقهية وعقائدية للواجهة في محاولة لإيجاد مخارج شرعية لأزمة التطرف، هي محاولة جيدة في ذاتها، ولكن البحث عن حلبة صراع جماهيرية لعرض تلك الأفكار تحط من قدر تلك الجهود. هناك نماذج ثقافية ودينية تطرح فكرها دون الخوض في صراعات للفت النظر وتحشيد الأنصار، وأجزم أنهم هم من يحملون شيء من الحقيقية للباحثين عنها.