المستضعف ما له وما عليه
المستضعف هو الذي لا يهتدي إلى الإيمان سبيلاً؛ لعدم استطاعته، ومن لم تصل الدعوة إليه.
أي: مَنْ لم يتمكن من الإيمان إما لضعف العقل. وإما لعدم اطلاعه على اختلاف النّاس في المذاهب.
قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ «النساء: 97 - 99».
وكأنَّ الآيات تتحدث عن فريقين من المستضعفين:
الفريق الأول: الذين عندهم قدرة على التخلص ممن هم في من استضعاف، بحيث يملكون العقل الواعي بحيث يشملهم السؤال المباشر: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، ولكنهم لم يفعلوا ذلك ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾.
الفريق الثاني: الذين ليس لهم قدرة على التخلص من الاستضعاف بحيث ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾. فهؤلاء من المستضعفين - أيضاً -؛ بدليل الاستثناء المذكور قبله؛ أي: مستثنون من القسم الأول ﴿فَأُولَئِكَ عَسَىاللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾.. فهم أقرب للعفو والمغفرة. وفي نص آخر: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ «براءة: 106».
وقد ورداستحباب أن يدعوللميت إذا كان مستضعفاً بدعاء خاص: ”اللهماغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم“ «الروضة البهيةفي شرح اللمعة الدمشقية: ج 1 ص 138».
وقد جاءت النصوص عن أئمة أهل البيت على هدي ما جاء به القرآن الكريم..
من هم المستضعفون:
جاء في الصحيح عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر ، قال: ”الْمُسْتَضْعَفُونَ: الَّذِينَ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾“ قَالَ: ”لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَكْفُرُونَ؛ الصِّبْيَانُ وَأَشْبَاهُ عُقُولِ الصِّبْيَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ“ «الكافي: ج 2 ص 404 الحديث 2».
وفي الصحيح عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله الصادق : ”مَنْ عَرَفَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فَلَيْسَ بِمُسْتَضْعَفٍ“ «الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 7».
وسأل علي بن سويد الإمام موسى الكاظم : عن الضعفاء؟ فقال : ”فالضعيف من لم يرفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف“ «الكافي: ج 8ص 124».
فالمستضعف هو الشخص المعذور، والذي لا يستحق العقاب؛ وذلك لقبح إدانة مَن لم تقم عليه الحجة، أو مَن كان قاطعاً بصحة معتقده ولا يخطر في باله صحة الدين الجديد، شريطة أن لا يجحد ما لم يقتنع به؛ لأنَّ عدم الاقتناع بشيء لا يبرر نفيه، كما أنَّ عدم الوجدان لا يدخل على عدم الوجود..
فلا مبرر - منطقياً وعقلياً - لمن لم يقتنع بإمامة أهل البيت أن يجحدها وينفيها، فهم وإن لم يقتنعوا بخلافتهم ولكنهم لا ينكرون إمامتهم في الدين والعلم، وفي الحديث عن الإمام الصادق : ”لَوْ أَنَّ الْعِبَادَ إِذَا جَهِلُوا وَقَفُوا وَلَمْ يَجْحَدُوا لَمْ يَكْفُرُوا“ «الكافي: ج 2 ص 388»، وفي صحيحة أبي بصير قال : ”إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ“ «الكافي: ج 2 ص 399».
مناط العذر واسع:
لقد كان هدي الإمام علي ساطعاً كالشمس، ومع ذلك عميت عنه أبصار الخوارج الذين لم يكونوا - أو بعضهم على الأقل - من ذوي النوايا السيئة بقدر ما كانوا مضلَّلين، كما تُنبئ بذلك كلمة الإمام علي الخالدة في شأنهم: ”لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ“ «نهج البلاغة: خطبة 61؛ علل الشرائع: ص 18». فأمير المؤمنين كان يحكم بإسلام الخوارج رغم إنكارهم لإمامته وخروجهم عليه بعد وقعة التحكيم.
ويؤكده الحديث عن إسماعيل الْجُعْفِي، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَنِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَسَعُ الْعِبَادَ جَهْلُهُ، فَقَالَ: ”الدِّينُ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ“. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأُحَدِّثُكَ بِدِينِيَ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: ”بَلَى“ قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَتَوَلَّاكُمْ، وَأَبْرَأُ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَمَنْ رَكِبَ رِقَابَكُمْ وَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَظَلَمَكُمْ حَقَّكُمْ، فَقَالَ: ”مَا جَهِلْتَ شَيْئاً، هُوَ - وَاللهِ - الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ“. قُلْتُ: فَهَلْ سَلِمَ أَحَدٌ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ؟ فَقَالَ: ”لَا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ“، قُلْتُ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ”نِسَاؤُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ“، ثُمَّ قَالَ: ”أَرَأَيْتَ أُمَّ أَيْمَنَ؟ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ“ «الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 6».
وقوله : ”الدِّينُ وَاسِعٌ“ يراد به أنّه لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد والأعمال كما هو مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي وخاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من أجزاء الإيمان.
واستثناء المستضعفين في كلام الإمام الباقر إنما هو ناظر إلى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿... فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ «النساء: 97 - 99».
إشكال وجوابه:
رب قائل يقول: إنّ دائرة المستضعف - كما يستفاد من الآية والروايات - أضيق مما ذكر بكثير، فهو لا يشمل إلا ذوي القدرات العقلية المتواضعة من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً كما في الحديث الصحيح عن زُرَارَة المتقدم. وأما مَن كان ذا قدرة على التمييز ولديه معرفة باختلاف الأديان وتعددها فلا يكون مستضعفاً ولا يتناوله حكمه، وقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله : ”مَنْ عَرَفَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فَلَيْسَ بِمُسْتَضْعَفٍ“ «الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 7». وفي ذلك إشارة واضحة إلى ربط الاستضعاف بالمستوى الثقافي والعقلي.
ولنا أن نعلق على ذلك: بأنَّ هذه الروايات ناظرة إلى الآية الشريفة، ولو سلمنا أنَّ هذه الروايات تفسيرية وليست مصداقية، لكن يبقى: أنَّ الآية كالروايات لا مفهوم لها يدل على نفي العفو عن غير المستضعف، وحيث إنَّ الدليل قائم على عدم مؤاخذة الجاهل القاصر فيكون مشمولاً لحكم الآية وإن لم يكن داخلاً في موضوعها ومنطوقها.
إنَّ أكثر الناس ممن لا يؤمنون بالحقائق الدينية المتشعبة قاصرون إلا في معرفة الله سبحانه، فإنَّ الجاهل بوجوده تعالى أو وحدانيته مقصِّر لا قاصر - غالباً -؛ لأنَّ معرفته تعالى وكذا توحيده - على نحو الإجمال دون تفاصيل التوحيد - من الأمور الفطرية، كما أنَّ التأمل في السماوات والأرض وما فيهما من أسرار ونظم تهدي إلى الإيمان به تعالى والإقرار بوحدانيته، أما فيما عدا ذلك من العقائد كالنبوة والإمامة والمعاد فإنَّ وجود الجاهل القاصر بشأنها كثير.
وهذا ما أشار له الإمام الخميني بشأن الكافر أيضاً، فقال: ”إنَّ أكثرهم - إلا ما قلَّ وندر - جهَّال قاصرون لا مقصرون. أمّا عوامهم فظاهر لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هل قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب، نظير عوام المسلمين، فكما أنَّ عوامنا عالمون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب من غير انقداح خلافٍ في أذهانهم لأجل التلقين والنشوء في محيط الإسلام، كذلك عوامهم من غير فرقٍ بينهما من هذه الجهة، والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصياً أو آثماً ولا تصح عقوبته في متابعته.... وبالجملة: إنَّ الكفار كجهّال المسلمين منهم قاصر وهم الغالب، ومنهم مقصِّر... والكفار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجة عليهم لا مطلقاً، فكما أنَّ كون المسلمين معاقبين على الفروع ليس معناه أنهم معاقبون عليها سواء كانوا قاصرين أم مقصِّرين، كذلك الكفار طابق النعل بالنعل بحكم العقل وأصول العدلية“ «المكاسب المحرمة: ج 1 ص 133 - 134».
مراتب المستضعفين:
نعم، رغم نجاة هؤلاء المستضعفين، فإنهم بحسب بعض الروايات ليسوا سواء في مراتب الجنة؛ ففي الصحيح عن جميل بن دراج قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ : إِنِّي رُبَّمَا ذَكَرْتُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَأَقُولُ: نَحْنُ وَهُمْ فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ؟! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ : ”لَا يَفْعَلُ اللهُ ذَلِكَ بِكُمْ أَبَداً“ «الكافي: ج 2 ص 387».
وقد أجاز أئمة أهل البيت الدعاء للوالدين وإن كانا على خلاف مذهبهم: ففي صحيحة مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ، قال: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا : أَدْعُو لِوَالِدَيَّ إِذَا كَانَا لَا يَعْرِفَانِ الْحَقَّ؟ قَالَ: ”ادْعُ لَهُمَا، وَتَصَدَّقْ عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ لَا يَعْرِفَانِ الْحَقَّ فَدَارِهِمَا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالرَّحْمَةِ، لَا بِالْعُقُوقِ“ «الكافي: ج 2 ص 166».
وعلّق الشيخ المجلسي على هذا الحديث فقال: "يدل على جواز الدعاء والتصدق للوالدين المخالفين للحق بعد موتهما، والمداراة معهما في حياتهما؛ «بحار الأنوار: ج 71 ص 47؛ مرآة العقول: ج 8 ص 417».
ومع أنَّ أئمة أهل البيت يوجهون شيعتهم إلى الرحمة في القول والفعل مع المخالفين، إلا أنه في كل زمان يوجد أفراد من الشيعة ممن لا ينصاعون إلى تلك الوصايا والتوجيهات الرحيمة، وما ذلك إلا لجهلهم وعصبيتهم.
ولذا تظهر لنا بعض رواياتنا أنّ هناك صراعاً داخلياً بين أئمة أهل البيت وبين بعض أتباعهم، فهذا زرارة بن أعين وبعض أخوته يدخلون على الإمام الباقر ، والرواية حسنة أو صحيحة سنداً، فكانوا يجاهرون بعصبيتهم فيقولون للإمام : مَنْ وَافَقَنَا مِنْ عَلَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، تَوَلَّيْنَاهُ؛ وَمَنْ خَالَفَنَا مِنْ عَلَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، بَرِئْنَا مِنْهُ.
فقال له الإمام : ”يَا زُرَارَةُ، قَوْلُ اللهِ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ، فَأَيْنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾؟ أَيْنَ الْمُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ؟ أَيْنَ الَّذِينَ ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾؟ أَيْنَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ؟ أَيْنَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ؟“ «الكافي: ج 2 ص 365».
وهذا الخطاب يظهر لنا تسامح أئمتنا مع من خالفهم، فلم يكفروهم ولم يتبرؤوا منهم، ولم يخرجوهم من دين أو ملة، في حين يظهر تعصب الكثير ممن يتشدقون أنهم أتباع لأهل البيت؛ فيسوقون من خالفهم سوقاً واحداً بلا ورع ولا دين.
فإذا لم يقم الدليل عند إنسان على وجوب الإمامة فكيف يُكبّ على منخريه في النار؟! والحال أنَّ القاعدة المسلمة تقول: ”قبح العقاب بلا بيان“ فبعض الناس لم يصله بيان قط.