آخر تحديث: 9 / 11 / 2024م - 7:55 م

السَّبُّ فِي الثَّقَافَةِ القُرْآنِيَّةِ.. مقارنة بين ابن عاشور والطباطبائي

سلمان عبد الأعلى

من خلال ما ذكراه في ذيل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

تمهيد

تكمن أهمية البحث في مسألة السب في الثقافة القرآنية من وجود العديد من الاختلافات حول هذه المسألة، ليس بين الأطراف المختلفة في شأن ثبوتها أو عدم ثبوتها فحسب، بل حتى بين بعض الأطراف المتفقة على ثبوتها في بعض الجزئيات، ومن أجل معرفة هذه الاختلافات وتفكيك التداخلات الشائكة التي بينها، فإنه يمكننا حصر الاتجاهات العامة إزاء الموقف من هذه المسألة وأهم الخصائص التي يتميز بها كل اتجاه في التالي:

الاتجاه الأول:

بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي، حيث يحاول أصحاب هذا الاتجاه وبشتى الطرق إثبات وجود السب في القرآن الكريم، بل ويعتبرونه ثقافة قرآنية أصيلة مارسها القرآن وشجع على ممارستها لمن يستحقها من أهل الضلال والانحراف، وهي ثقافة لا تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية [1] .

الاتجاه الثاني:

وهم بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي أيضاً، ولكن أصحاب هذا الاتجاه بخلاف أصحاب الاتجاه الأول، حيث يرفضون مسألة السب في القرآن الكريم وينهون عن ممارستها، بل ويعتبرونها ثقافة سلبية يجب إثبات براءة الثقافة القرآنية منها لكونها تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية[2] .

الاتجاه الثالث:

هم بعض ناقدي القرآن الكريم الذين يُروجون للقول بأن السب ثقافة قرآنية أصيلة مارسها القرآن وشجع على ممارستها رغم كونها تتنافى مع الأخلاق، وغايتهم من وراء ذلك هو الطعن في القرآن من خلال إثبات ممارسته لأمور سلبية تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية[3] .

وأصحاب هذا الاتجاه يشتركون مع أصحاب الاتجاه الأول في كونهم يعتقدون أن السب ثقافة قرآنية أصيلة، ولكنهم يختلفون معهم في عدم اعتبارها مسألة سلبية تتنافى مع الأخلاق، لأنهم في خصوص هذه الجزئية يتفقون مع أصحاب الاتجاه الثاني.

وينبغي العلم أن كلا الاتجاهين «الاتجاه الأول والاتجاه الثالث» الذين يثبتون وجود السب في القرآن الكريم ويعتبرونه ثقافة قرآنية أصيلة يستشهدون لإثبات ذلك ببعض الآيات القرآنية أو ببعضها، منها قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[4] ، و﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ[5] ، و﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[6] ، و﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا[7] ، و﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث[8] ، فكل هذه الآيات أو الأجزاء من الآيات القرآنية اعتبرها أصحاب هذين الاتجاهين شاهداً ودليلاً على تكريس القرآن الكريم لثقافة السب والشتم، فهم متفقون مع بعضهم البعض في هذا الأمر، والاختلاف بينهم ينحصر فقط في أمرين:

الأول: في كون ممارسة السب تتنافى مع الأخلاق أم لا، فالاتجاه الأول يرى بأنها لا تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية، وأما الاتجاه الثالث فيرى أنها تتنافى معها.

الثاني: أن الهدف من إثبات هذه المسألة للثقافة القرآنية بالنسبة للاتجاه الأول لا يؤدي للطعن في القرآن الكريم بخلاف أصحاب الاتجاه الثالث الذين يهدفون من وراء ذلك للطعن في القرآن الكريم.

ولو دققنا النظر في جذور هذه الاختلافات إزاء الموقف من هذه المسألة، فسنجدها تعود للاختلاف في تحديد المعنى اللغوي لمفردة «سب»، فهناك من عرفها بشكل يجعلها تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية، وهناك من ذهب للقول بأنها ليست كذلك، بل هي أمر حسن إذا تم توجيهه لأهله ولمن يستحقه من أهل الضلال والانحراف، وهذا ما كان له انعكاساته الخطيرة التي ألقت بظلالها على مسألة السب بشكل عام، وعلى مسألة السب في الثقافة القرآنية بشكل خاص، وعلى السب في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[9] بشكل أخص.

ونحن في هذا المقال سوف نركز اهتمامنا فقط بتحليل ما يتعلق بمسألة السب في هذه الآية القرآنية من خلال مقارنة ما جاء في تفسير «التحرير والتنوير» لابن عاشور بتفسير «الميزان» للسيد الطباطبائي، وسوف نجيب فيها على هذا السؤال الأساسي: ما هو موقف محمد الطاهر ابن عاشور التونسي والسيد محمد حسين الطباطبائي من مسألة السب في الثقافة القرآنية من خلال كلامهما في ذيل هذه الآية؟ كما سوف نجيب أيضاً على غيره من الأسئلة التي تتفرع منه كالأسئلة التالية: هل يعتبر ابن عاشور والسيد الطباطبائي السب متنافٍ مع الأخلاق أم لا؟ وهل هذه الآية محل البحث - بحسب ابن عاشور والطباطبائي - تنهى عن السب بشكل عام أو تنهى عن السب فقط فيما إذا تسبب ذلك سب الله أو المقدسات الإسلامية؟ حيث سنقوم بمقاربة رأي ابن عاشور برأي السيد الطباطبائي في هذه المسألة من خلال فرضيتين أساسيتين:

الأولى: أن محمد الطاهر ابن عاشور ومحمد حسين الطباطبائي كلاهما يندرجان ضمن الاتجاه الرافض لثبوت وتكريس القرآن الكريم لثقافة السب والشتم باعتبارها ثقافة سلبية تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية.

الثانية: أن كلاهما يفسر السب في الآية محل البحث بكونها تنهى عن السب بشكل عام، وليست خاص فقط فيما إذا تسبب ذلك سب الله أو المقدسات الإسلامية.

علماً بأني لم أجد من تعرض لهذا الموضوع بهذه الكيفية، وأما سبب اختياري لهذه الآية، فهو لأنها الآية القرآنية الوحيدة التي اُستعمل فيها مفردة «سب»، وهذا ما يجعل البحث فيها مباشراً ومعنياً ببيان المراد من هذه المفردة أكثر من غيرها من الآيات الأخرى. وأما سبب اختياري لهذين التفسيرين بالخصوص، فهو لموقعيتهما ومكانتهما المتميزة بين كتب التفسير في المدرسة السنية والشيعية، ولإثبات أن هذه المسألة كالعديد من المسائل المتعلقة بالتفسير وعلوم القرآن التي يشترك بها العديد من العلماء على اختلاف مذاهبهم، نظراً لكونها ليست خاضعة للتأثيرات والتوجهات المذهبية الخاصة.

الاختلافات اللغوية وتداعياتها

قبل إجراء المقارنة بين تفسير ابن عاشور وتفسير السيد الطباطبائي، لابد لنا من وقفة تمهيدية لتوضيح المراد من مفردة «سب» في اللغة العربية.

ذكر بعض اللغويين بأن معنى السب هو القطع[10] ، ولذا يسمى السيف سباب العراقيب لأنه يقطعها[11] . ويُقال مضت سبة من الدهر أي قطعة منه[12] ، بل ذهب البعض إلى أن أصل السب هو القطع[13] ، في حين ذهب بعض آخر إلى أن أصل السب هو العيب[14] ، وذهب آخر إلى أن ”أصله السبب كأنه يتسبب إلى ذكره بالقبيح“ [15] ، وذهب غيره إلى أن الأصل هو العقر، لذا يُقال سببت الناقة إذا عقرتها[16] ، في حين فسر بعض اللغويين السب بالعقر دون أن يذكر بأن ذلك هو الأصل[17] .

إذن فأصل السب عند جملة من اللغويين هو القطع، وفي ذلك يقول ابن دريد: ”وأصل السب القطع ثم صار السب شتماً لأن السب خرق الأعراض“ [18] . ومن هنا ذهب جملة من اللغويين لتفسير السب بالشتم[19] ، وهذا لا يتناقض مع تفسيره ب «القطع» إذ لا قطيعة أقطع من الشتم كما يقول ابن فارس[20]  فيقال: سبه سباً، بمعنى قطعه[21] ، وتأتي أيضاً بمعنى شتمه، والتساب التقاطع[22] ، وتفسر أيضاً بالتشاتم[23] . وكذلك الأمر في معنى السباب، إذ تأتي بمعنى قطيعه وشتيمة، لذا نجد الطريحي في مجمع البحرين يقول: ”والسب والشتم ومثله“ السباب ”بالكسر وخفة الموحدة ومنه“ سباب المؤمن فسوق وقتالة كفر ”أي شتمه وقطيته فسوق واستلاب مقاتلته وحربه كفر، أو محمول على التغليظ لا الحقيقة“ [24] .

لذا فإنه حتى لو وجد اختلاف بين السب والشتم، فهو كما يُقال في الدرجة فقط لا في النوع، وهذا ما يتضح من كلام الراغب الاصفهاني في المفردات، إذ قال: ”والسب الشتم الوجيع“ [25] . وفي معجم الفروق اللغوية: ”والسب هو الاطناب في الشتم والاطالة فيه واشتقاقه من السب وهي الشقة الطويلة“ [26] .

وأما إذا بحثنا عن المراد من مفردة «شتم» في كتب اللغة، فإنها كثيراً ما تفسر بالسب أيضاً[27] . والتشاتم: التساب. والمشاتمة المسابة. والشتامة: وهو قبح الوجه وسوء الخلق، كما جاء في لسان العرب: ”والشتامة قبيح الوجه وأيضاً السيء الخلق وشدة الخلق مع قبح الوجه“ [28] . ويُقال أسد شتيم وحمار شتيم، أي كريه الوجه[29] ، وتم اشتقاق الشتم منه لأنه كلام كريه[30] ، ورجل شتيم وشتام: أي كريه المنظر[31] .

من هنا ذهب بعض اللغويين كالزهري وابن منظور للقول بأن المراد من السب: الشتم: ”قبيح الكلام، وليس فيه قذف“ [32] ، في حين ذهب آخرون كالطريحي للقول: ”الشتم: السب، بأن تصف الشيء بما هو إزراء ونقص“ [33] .

وهذا الاختلاف بين التعريفين ليس بالأمر الهين ولا السهل كما قد يظن البعض، لأنه سيقود للعديد من الاختلافات الأخرى، وتوضيح ذلك في الآتي:

أولاً: أن من ذهب لتفسير السب بأنه ”قبيح الكلام“ أو الكلام القبيح أو الكريه ذهب لكونه في الأصل منافٍ للأخلاق، وقد يكون ذلك نتيجة اعتماده على ما اشتق منه الشتم وهو «الشتيم» الذي يعني كريه الوجه، وقد تم اشتقاق الشتم منه للكلام الكريه، أو من «الشتامة» التي تشير لقبح الوجه وللخلق السيء أيضاً، وهذا ما يظهر من كلام جملة من علماء التفسير وعلوم القرآن[34] .

ثانياً: أن من ذهب لتفسير السب بأنه ”أن تصف الشيء بما هو إزدراء ونقص“ يرى أنه لا يتنافى مع الأخلاق بالضرورة، بل ويرى بأنه أمر حسن إذا تم توجيهه لمن يستحقه كأهل الضلال والانحراف، وهذا ما يظهر من كلام جملة من علماء الفقه والأصول[35] .

آثار الاختلاف اللغوي على جوانب أخرى

إن هذا الاختلاف اللغوي في تحديد المراد من السب تترتب عليه عدة نتائج، سواءً في تفسير القرآن الكريم أو في ترتب بعض الأحكام الفقهية أو في غيرها، فمثلاً في تفسير القرآن الكريم ذهب من فسر السب بالمعنى الأول إلى أن النهي الوارد في الآية ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ بأن الأصل هو النهي عن ممارسة السب واتخاذه منهجاً وثقافة عامة، لأن السب يتنافى مع الأخلاق بصورة عامة، ولا يرتفع هذا النهي ويعذر مرتكبه عند هؤلاء إلا في بعض الموارد الاستثنائية المحدودة جداً[36] ، وإلا فإن الأصل هو النهي عن هذه المسألة بشكل عام وعدم عذر مرتكبيها.

وأما من اعتمدوا تفسير السب بالمعنى الثاني؛ فذهبوا لاعتبار السب ثقافة قرآنية أصيلة، وذكروا أن هذه الآية لا تنهى عن السب بشكل عام، بل ولا تنهى كذلك عن سب آلهة الذين كفروا بشكل عام، وإنما كل ما تشير إليه هو حرمة سب آلهة الكفار فقط فيما إذا تسبب ذلك سب الله سبحانه وتعالى أو المقدسات الإسلامية، وإلا فإن سبهم - أي الكفار وآلهتهم - والاستهانة بهم جائز في نفسه وغير منهي عنه إلا كان بهذا القيد، وهو استلزم سب الله تعالى أو الاستهانة بمقدساتنا الإسلامية[37] .

كذلك نجد أن لهذا الاختلاف اللغوي آثار تترتب على بعض الأحكام الفقهية أيضاً، كحكم من سب الرسول الأكرم ﷺ، حيث يرى بعض الفقهاء بأن حكمه القتل من دون أخذ الإذن من الحاكم الشرعي، ويلحق به من سب الأئمة والسيد فاطمة الزهراء عند الشيعة الإثني عشرية [38] ، ومن سب الصحابة عند بعض أهل السنة الذين يحكم بعضهم بكفره وقتله[39] . فإذا فسرنا السب بحسب القول الثاني بأنه ”أي وصف يشمل إزدراء وتنقيص“ فدائرة المحكوم بقتلهم سوف تتسع كثيراً، وربما تشمل مثلاً الكثير - إن لم نقل الأكثر - من أصحاب الشرائع الأخرى الذين ينتقصون من مقام الرسول الأكرم ﷺ نتيجة لعدم إيمانهم به، بعكس فيما إذا فسرنا أن السب المراد من هذا الحكم هو بحسب القول الأول، حيث ستضيق دائرة المحكوم بقتلهم وستكون محدودة جداً وفي إطار ضيق[40] .

السب في القرآن الكريم مقارنة بين ابن عاشور والطباطبائي

سوف نحاول أن نسلط الضوء على مسألة السب في القرآن الكريم من خلال مقارنة كلام ابن عاشور التونسي في تفسيره «التحرير والتنوير» بكلام السيد الطباطبائي في تفسير «الميزان» في ذيل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وسيكون ذلك في ثلاث نقاط سوف نذكرها تباعاً فيما يلي:

أولاً: «في تحديد المراد من السب»

إن من يتتبع ما ذكره الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، وكذلك السيد الطباطبائي في تفسيرهما للآية يرى بأنهما يتفقان على تصوير السب بصورة سلبية، فهم يرونه منافٍ للأخلاق وينفون كونه ثقافة قرآنية، فمثلاً نجد ابن عاشور يتحدث عن المراد بالسب بقوله: ”والسب: كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة، بالباطل أو بالحق، وهو مرادف الشتم. وليس من السب السبة إلى خطإ في الرأي أو العمل، ولا النسبة إلى ضلال في الدين إن كان صدر من مخالف في الدين“ [41] .

وكلام ابن عاشور هنا وإن كان يبدو للوهلة الأولى بأنه يقترب من أصحاب القول الثاني نوعاً ما - الذي يرى أصحابه بأن السب هو ”أن تصف الشيء بما هو إزراء ونقص“ - خصوصاً في قوله أن السب: ”كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيص أو معرة“، ولكن مع ذلك لا يمكن الاستفادة منه لإثبات وقوع السب في القرآن الكريم لديه، فضلاً عن اعتقاده بتكريس القرآن الكريم لهذه الثقافة كما ذهب لذلك البعض[42] ، بل لا أبالغ لو قلت بأن كلامه ينسجم من أصحاب الاتجاه الرافض لثبوت هذه المسألة، وذلك لأمرين:

الأول: أنه ذكر أنه ليس من السب النسبة إلى خطأ في الرأي أو العمل، ولا النسبة إلى ضلال في الدين، والمفهوم الذي تمسك به البعض لإثبات وقوع السب في القرآن الكريم يدخل في هذا الإطار[43] .

الثاني: وهو الأهم، حيث قال بعد تعريف السب مباشرة: ”والمخاطب بهذا النهي المسلمون لا الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول لم يكن فحاشاً ولا سباباً لأن خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك“ [44] . ففي هذا النص اعتبر ابن عاشور وبشكل واضح أن السب أمر سلبي يقف خلق الرسول ﷺ حائل بينه وبين ممارسته، مما يعني - كما يفهم من سياق الكلام - أن السب عنده في هذا الكلام يأتي مقابلاً للأخلاق، وهذا المعنى بخلاف المعنى الذي أراده الذين يرون أن السب ثقافة قرآنية أصيلة لا تتنافى مع القيم والمبادئ الأخلاقية.

وأما السيد الطباطبائي، فإنه في حديثه في ذيل الآية المباركة لم يقم بتعريف السب بصراحة في البداية، حيث أنه اكتفى بالتعبير عنه بقوله: ”السب معروف“ [45] ، وبعدها انتقل مباشرة لبيان ما ذكره الراغب الاصفهاني حول مفردة «العدو» التي جاءت في الآية ﴿... فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.

ومن الغريب جداً أن يعتبر السيد الطباطبائي السب أمراً معروفاً مع وجود العديد من الاختلافات حول هذه المسألة، ومع وجود العديد من النتائج التي ترتبت على ذلك كالتي أشرنا إلى بعضها آنفاً، لأن هذه المسألة باعتقادي بحاجة للتوسع في بحثها ودراستها، لأنها ليست من المسائل الواضحة والمعروفة كما صورها.

ورغم ذلك إلا أنه يمكننا القول أن السيد الطباطبائي يعتبر السب أمراً سلبياً منافياً للأخلاق وليس له وجود في القرآن الكريم، لأنه في سياق حديثه في ذيل الآية المباركة محل البحث تطرق لبعض الآيات القرآنية التي احتوت على وصف قاسٍ، وذكر بأنها ليس من قبيل الشتم، وإنما هي من الدعاء، حيث قال: ”هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً“ [46] .

ويُفهم من كلامه هذا أنه أولاً: نفى كون هذه الآيات من السب، وكان غرضه من ذلك هو نفي وجود السب في القرآن الكريم. وثانياً: أنه ذكر أن السب هو ”الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً“، فهو تحدث عن الشتم وهو بصدد الحديث عن السب المنهي عنه في الآية، وهذا ما يجعل كلامه ينسجم تماماً مع ما ذكره ابن عاشور حول هذه المسألة.

ثانياً: موقفهما من السب من خلال مناقشة روايات أسباب النزول:

يتضح الأمر أكثر في مناقشتهما - أعني ابن عاشور والطباطبائي - لروايات أسباب النزول المرتبطة بالآية محل البحث، إذ يتفق كلاهما على رفض الروايات التي توجه خطاب النهي عن السب في الآية للرسول ﷺ، فنجد ابن عاشور مثلاً قد أعلن عن رفضه لذلك وبكل صراحة ووضوح من خلال مناقشته لهذه الروايات، حيث أنه رفضها لمنافاتها مع أخلاق النبي ﷺ قبل البدء بإيراد هذه الروايات ونقدها، حيث مهد لذلك قائلاً: ”والمخاطب بهذا النهي المسلمون لا الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول لم يكن فحاشاً ولا سباباً لأن خلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك“ [47] .

ويُفهم من سياق كلام ابن عاشور هنا أنه اعتبر السب منافٍ للأخلاق، وذلك لأنه اعتبر أن خلق الرسول العظيم يحول بينه وبين ممارسة السب، ولذا فإنه حينما استعرض روايتين يفهم منها أن المخاطب بالنهي عن السب هو النبي ﷺ كرواية الطبري عن علي بن بن أبي طلحة عن ابن عباس، والتي جاء فيها قول المشركين مخاطبين الرسول ﷺ بقولهم: ”لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك“. فإنه ردها ورفض قبولها للآتي:

أولاً: لمنافاتها مع الأخلاق العالية للرسول ﷺ، وهذا هو ما يهمنا في هذا المقام، حيث أنه اعتبر السب لا ينسجم مع الأخلاق.

ثانياً: ضعف السند، لأن علي بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عباس.

ثالثاً: لعدم مناسبتهما لسياق الآية، لأنه لا يناسب أن ينهى عنه بلفظ «ولا تسبوا»، ولو كان المراد هو ما تقوله هذه الرواية لقالت الآية: ولا تجهروا بسب الذين يدعون من دون الله مثلاً، كما قال في الآية الأخرى «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً» [48] .

لذا فإن ابن عاشور يرفض هذه الرواية، كما يرفض أيضاً رواية أخرى عن السدي احتوت تقريباً على نفس المضمون، حيث قال عنها: ”ولم يقل السدي أن ذلك سبب نزول هذه الآية ولكنه جعله تفسيراً للآية، ويرد عليه ما أوردناه على ما روي عن علي بن أبي طلحة“ [49] .

وأما الرواية التي قبلها ابن عاشور في سبب النزول، فهي ما رواه الطبري عن قتادة، والتي تجعل المخاطب بالنهي في الآية هم المسلمون لا الرسول ﷺ حيث جاء فيها: ”كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم“. وسبب قبوله لهذه الرواية هو نفس السبب لرفضه للروايتين السابقتين، وهو الآتي: أولاً: لأنها لا توجه الخطاب للنبي ﷺ، لأنه لم يكن سباباً ولا فحاشاً. وثانياً: أنها صحيحة السند، ثالثاً: أنها مناسبة لنظم الآية[50] .

وهذا الأمر نفسه أو قريب منه نجده أيضاً عند السيد الطباطبائي، حيث رفض الرواية التي تذكر بأن المخاطب بالنهي في الآية هو الرسول ﷺ، وذلك لمنافات ذلك مع أخلاقه العظيمة، حيث ذكر في بحثه الروائي في ذيل الآية رواية في سبب النزول نقلها عن كتاب الدر المنثور جاء فيها مخاطبة نفر من سادات قريش للرسول ﷺ بقولهم: ”... لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ»“ [51] . وهذه الرواية رفضها السيد الطباطبائي لأمرين وهما:

أولاً: أن هذه الرواية لا يناسب صدرها ذيلها[52] .

 ثانياً: وهو ما يهمنا في هذا المقام، وهو أن الرواية «لا تناسب وقار النبوة وعظيم الخلق»، حيث قال: ”على أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته ﷺ كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول“ [53] . ولم يكتفِ السيد الطباطبائي بنقد هذه الرواية فحسب، بل بعدها نقل روايتان لم توجه خطاب النهي في الآية للنبي ﷺ ولم يقدم لهما أي نقد، مما يوحي بأنه لا يعترض على مضمونهما[54] .

ثالثاً: موقفهما من السب من خلال تفسير الآية

كذلك يتفق الشيخ ابن عاشور والسيد الطباطبائي على تصوير السب بصورة سلبية تتنافى مع الأخلاق من خلال ما ذكره في بيان المراد من الآية، حيث يقول ابن عاشور: ”والوجه في تفسير الآية أنه ليس المراد بالسب المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم مما يدل على انتفاء إلهيتها، كقوله تعالى «أولئك كالأنعام بل هم أضل» في سورة الأعراف. وأما ما عداه من نحو قوله تعالى «ألهم أرجل يمشون بها» فليس من الشتم ولا من السب لأن ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدياً للشتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذم والتعيير لآلهة المشركين“ [55] .

وهنا نلاحظ أن ابن عاشور اعتبر أن الآيات التي تضمنت إثبات نقائص لآلهة الكفار لنفي إلهيتها، وكذلك الآيات التي جاءت من أجل الاحتجاج عليهم ليست من قبيل السب والشتم، وهذا مما يدل على كونه يفسر السب بخلاف من يقول بأنه أي وصف بالازدراء والنقص، وذلك لأن بعض هذه الآيات تضمنت وصف بهذا الأمر، ومع ذلك لم يعتبرها ابن عاشور من قبيل السب والشتم.

والأمر الآخر، يلاحظ أن ابن عاشور حريص على نفي وجود السب في القرآن الكريم باعتباره منافٍ للأخلاق، وإلا لو كان ليس كذلك، فما هو الضير من إثبات وجوده في القرآن الكريم كما يذهب لذلك بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي.

وهذا ما سار عليه السيد الطباطبائي أيضاً، حيث يقول: ”والآية تذكر أدباً دينياً تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني وتتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الإهانة والإزراء بشنيع القول والسب والشتم والسخرية ونحوها... وعموم التعليل المفهوم من قوله: «وكذلك زينا لكل أمة عملهم» يفيد عموم النهي لكل قول سيء يؤدي إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى“ [56] .

ويُفهم من كلام السيد الطباطبائي هنا أنه اعتبر السب من القول السيء، بل إنه صرح بهذا في مورد آخر بقوله: ”على أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته ﷺ كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول“ [57] .

وأما الآيات التي احتوت على وصفٍ قاسٍ، والتي اعتبرها البعض من قبيل السب، فإن السيد الطباطبائي لا يراها كذلك، حيث يقول: ”والذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: الله العن فلاناً وفلاناً، وكذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: «لعنهم الله بكفرهم»: «النساء: 46» وقوله: «فقتل كيف قدر»: «المدثر: 19» وقوله: «قتل الإنسان»: «عبس: 17» وقوله: «أوف لكم ولما تعبدون من دون الله»: «الأنبياء: 67» ونظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً، والذي ورد من قبيل قوله تعالى: «مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم»: «القلم: 13» فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي ﷺ ربما أداهم المشاجرة والجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيراً بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك“ [58] .

ونلاحظ هنا أن السيد الطباطبائي ذكر أن الأوصاف القاسية في بعض الآيات القرآنية هي من قبيل الدعاء أو من قبيل بيان الحقيقة، وليس لها علاقة بالسب والشتم، وموقفه هذا ينسجم مع موقف ابن عاشور في هذه المسألة ويقترب منه كثيراً.

كلمة الختام

نخلص في ختام هذا المقال الذي تناولنا فيه مسألة السب في الثقافة القرآنية عند الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور والسيد محمد حسين الطباطبائي من خلال القيام بمقارنة ما ذكراه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ إلى أنهما يندرجان ضمن الاتجاه الرافض لثبوت وتكريس القرآن الكريم لثقافة السب والشتم، ويعتبران ذلك ثقافة سلبية تتنافى مع الأخلاق، كما أنهما يفهمان من الآية محل البحث أنها تنهى عن السب بشكل عام باعتباره لا ينسجم مع القيم والمبادئ الأخلاقية، ولقد توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال الآتي:

أولاً: في بحث المراد من السب، حيث بينا أن كل منهما يُصور السب بصورة سلبية لا تنسجم مع المبادئ الأخلاقية.

ثانياً: في بحث موقفهما من روايات أسباب النزول، حيث بينا رفضهما للروايات التي ذكرت بأن المخاطب بالنهي في الآية هو الرسول الأكرم ﷺ لمنافاة ذلك مع أدبه وأخلاقه.

ثالثاً: في بحث موقفهما من تفسير الآية، حيث ذكر ابن عاشور بأن ما ورد في بعض الآيات من إثبات نقائص لآلهة الكفار، وكذلك ما ورد للاحتجاج عليهم ليس من قبيل السب والشتم، وكذلك ما ذكره السيد الطباطبائي بأن هذه الآيات إما من قبيل الدعاء أو من بيان الحقيقة وليس من قبيل السب والشتم، وكلامهما يرفض احتجاج البعض ببعض الآيات لإثبات وجود وتكريس القرآن الكريم لثقافة السب والشتم.

[1]  حيدر السندي الأحسائي، في العمق الثقافي، مركز الزهراء الإسلامي، الطبعة الأولى 1437 هـ - 2016م، حيث يقول ص299: ”ومن خلال الطائفة الثانية من القسم التاسع، نهتي إلى حقيقة من حقائق القرآن، وهي أن ما يتداول على ألسنة المثقفين: من أن كل سب وشتم، فهو خلق ذميم، لا يلتقي مع الأخلاق الفاضلية، وهو على خلاف الفطرة السليمة، في غير محله، وأنه تصور خاطئ، تأثر فيه هؤلاء المتثيفون بالشعارات الغربية البراقة... والذي قرره القرآن الكريم من خلال هذه الآيات، هو حسن ممارسة التسقيط والنقيص والحط من أعداء الحقيقة المعاندين، وهذه تعبيرات أخرى عن ممارسة السب والشتم معهم فإن دلالة الآيات الكريمة المتقدمة على التنقيص والذم مما لا تقبل الإنكار، وليس السب إلا القول الذي يدل على التنقيص والحط والذم إذا قيل بداعي ذلك“.

[2]  انظر: محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، تونس، دار سحنون للنشر والتوزيع، ج7، ص427 - 434. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيروت - لبنان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى المحققة 1417 هـ - 1997م، ج7، ص324 - 325.

[3]  انظر: برنامج سؤال جريء الحلقة «310» بعنوان «دراسة في سورة المسد»، إعداد وتقديم: رشيد الحمامي، وهو مبشر مسيحي من أصول إسلامية، ويمكن مشاهدة الحلقة على الرابط التالي:
https: //www. youtube. com/watch?v=KV4VfaOdZjY

[4]  سورة المسد، الآية 1.

[5]  سورة القلم، الآية 13.

[6]  سورة الفرقان، الآية 44.

[7]  سورة الجمعة، الآية 5.

[8]  سورة الأعراف، الآية 176.

[9]  سورة الأنعام، الآية 108.

[10]  أبو منصور الأزهري، تهذيب اللغة، بيروت - لبنان، دار إحياء التراث العربي ج12، ص219. الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة للصاحب، تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين، عالم الكتاب‌، الطبعة الأولى، 1414 - 1994 ج8، ص254. ابن منظور، لسان العرب، بيروت - لبنان، دار صادر، الطبعة الثالثة 1414 هـ ، ج1، ص455 - 456.