الفقه الرشيد
في هذه الورقة جملة من العناوين:
- هل يشترط تحقق عنوان الرشد أم لا؟
- هل للمشرع مقاصد في التشريع؟
- أسباب التمسك بمقاصد الشريعة.
- المنحى المقاصدي في القرآن الكريم والسنة النبوية.
- أنواع المقاصد «مقاصد الخلق من الخالق، مقاصد الخلق من الخالق».
- إدراك المصالح بالعقل.
- هل يمكن الوقوف على فلسفة الأحكام.
- الشريعة والأخلاق.
- التوصيات.
«1» هل يشترط تحقق عنوان الرشد أم لا؟
عند بلوغ سن الرشد والزواج، يصبح الفارق بين القدرات الشرعية لكل من الرجال والنساء أشد وضوحاً. فمن وجهة نظر إسلامية، يعتبر الراشد شخصاً مسؤولاً على الصعيدين القانوني والأخلاقي، بلغ النضج جسدياً ويتمتع بعقل سليم ويمتلك الأهلية للتعاقد والتصرف بالممتلكات، وخاضعاً للقانون الجنائي.
ويقع «الرشد» في كل ما يقابل «السفه»، فالرشيد هو الذي يملك القابلية على تحمل المسؤوليات والوظائف، وهذه الكلمة يعالجها الفقهاء في مبحث «الحجر» فإنّ الفرد يرفع عنه الحجر إذا كان كامل التمييز وراشداً.
فالفقهاء وإن لم يعتبروا «الرشد» من شروط التكليف بشكل عام، ولكنه يعتبر شرطاً لبعض الأحكام الوضعية، وشرطاً لقبول بعض الوظائف والمسؤوليات.. فالقرآن الكريم يتحدث حول اليتامى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ «النساء: 6».
«2» هل للشارع مقاصد من التشريع؟
إنّ الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية ليس بالجديد، فهو مطروح في كتابات بعض العلماء المسلمين منذ أمد بعيد. ولو ألقينا نظرة على التراث الشيعي، لوجدنا أنّ أصول الفقه الشيعي، كان ولا يزال مقفلاً أمام التفكير المقاصدي لمبررات سنأتي على ذكرها. وأول من ذكر المقاصد من علماء الشيعة هو الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي «ت 786» «القواعد والفوائد: ج 1 ص 38». وجاء من بعده الفاضل المقداد «ت 826» «التنقيح الرائع: ج 1 ص 14 - 15».
وما عدا هذين الموردين لا توجد أعمال وكتابات تتطرق لأهداف الفقه ومقاصد الشريعة بمنحى شمولي مستوعب. لكن ثمة إشارات فرعية تحت عناوين «تنقيح المناط» أو «ملاك الحكم» متوزعة في كتب الأصول والفقه. وما يدعو إلى الأسف والاستغراب، أنّ نظرية الشهيد الأول هذه لم تتابع من الأصوليين والفقهاء الذين أتوا بعده، فبقيت يتيمة ولا علاقة لها بالتشريع.
ولا يزال منهج فقهاء الشيعة الإمامية في تعاملهم مع النص واستنباط الحكم الشرعي ”ما يمكننا أن نطلق عليه «الطريقة البنيوية»، وأعني بها الاقتصار على دراسة بنية النص وتركيبه من خلال القواعد التي وضعها العلماء لذلك، كقواعد الصرف والنحو والبلاغة والرجوع إلى المعجم العربي من دون ربط النص بقرائنه العامة والخاصة“ «قضايا إسلامية معاصرة، ع 9 - 10، حوار مع الدكتور عبد الهادي الفضلي، ص 75 - 76».
ولكن هناك اتجاهاً فقهياً جديداً مثّله بعض الفقهاء وأخذت بشائره تلوح في الأفق الحوزوي وهو يدعو إلى ضرورة ولوج عالم المقاصد والاستفادة من المنحى المقاصدي في العمل الفقهي الاستنباطي. «أنظر: الاجتهاد والحياة: ص 21 - 22 و44 - 45؛ فلسفة الفقه، مهدي مهريزي: ص 36 - 37».
«3» أسباب التمسك بمقاصد الشريعة:
- إنّ الفقه العام - وخاصة المعاملات منه - هو عالم عقلائي وفطري بقواعده وأسسه العامة، بل إنّ العبادات ليست طقوساً جوفاء أو أفعالاً لا تحمل روحاً أو معنى، بل إنّها ترمي إلى أهداف ومقاصد عديدة.
- إنّ ابتناء أحكام الشريعة على المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات يدعونا إلى فتح باب المقاصد ومحاولة اكتشاف علل الأحكام ومراميها، لأنّ الشارع الذي لا يأمر إلا بما فيه المصلحة ولا ينهى إلاّ عما فيه المفسدة.
- إنّ اهتمام القرآن الكريم والسنة والشريفة ببيان مقاصد الشريعة وعللها وحِكمَها وما ترمي إليه، يدعونا إلى ولوج عالم المقاصد ومحاولة الإفادة منه.
«4» المنحى المقاصدي في القرآن الكريم والسنة النبوية:
إنّ المتأمل من التشريعات القرآنية يلحظ ظاهرة بارزة فيها، وهي أنّها لم تُطرح بطريقة فتوائية جامدة، بل بطريقة تعليلية توجيهية تقربها إلى الأذهان وتشير إلى فوائدها وفلسفتها، هذا على الرغم من أنّ القرآن هو صاحب شعار ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ الأحزاب: 36، وهذه الظاهرة القرآنية التعليلية نلحظها على مستويي الواجبات والمحرمات معاً «أنظر: العنكبوت: 45، البقرة: 183، الحج: 27 - 29، البقرة: 219، المائدة: 90 - 91، البقرة: 275، الإسراء: 32...». وأما بالنسبة للأحاديث فهي بالمئات.
ويستعمل فعل «قَصَدَ» - بحسب مدلول الضد - كلفظ مشترك بين معان ثلاثة:
- ضد الفعل: ”لغا“ ”يلغو“. واللغو هو الخلو عن الفائدة أو صرف الدلالة، فإنّ المقصد يكون على العكس من ذلك، هو حصول الفائدة أو عقد الدلالة.
- ضد الفعل: ”سها“ ”يسهو“. والسهو هو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فإنّ المقصد يكون على خلاف ذلك، هو حصول التوجه والخروج من النسيان.
- ضد الفعل: ”لها“ ”يلهو“. واللهو هو الخلو عن الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع، فإنّ المقصد يكون على العكس من ذلك، هو حصول الغرض الصحيح وقيام الباعث المشروع.
وقد وضع الشارع هذه المقصودات من أجل تحصيل الأخلاق كما يشهد بذلك الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في سياقات تبرز الغاية الأخلاقية لتشريع الأحكام. ومنها: قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ﴾ العنكبوت: 45، وقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ التوبة: 103.
ولو تتبعنا النصوص القرآنية لرأيناها مليئة بالآيات الحِكَمية، ومنها: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ المؤمنون: 115. ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ﴾ الدخان: 38.
«5» أنواع المقاصد:
المقاصد نوعان: مقاصد الخالق من الخلق، ومقاصده من التشريع.
1. مقاصد الخالق من الخلق:
وتتحدد مقاصده من الخلق في أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. حيث قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 56. وهذا المقصد عام في جميع الرسالات السماوية كما جاء ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم: النحل: 36، الأنبياء: 25.
والعبادة - هنا - بمعناها الواسع لا بمحتواها الطقوسي فقط، لذلك ورد عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾. قال: ”خلقهم للعبادة“. قلت: خاصة أم عامة؟ قال: ”لا بل عامة“... فتتمثل العبادة في كلّ حركة من حركات الإنسان الإيجابية البناءة لإعمار الكون وتحقيق كلمة الله في الأرض وتطبيق منهجه في الحياة..
2. مقاصد الخالق من التشريع:
ونعني بها الغاية التي يرمي إليها التشريع والأسرار التي وضعها الشارع الحكيم عند كلّ حكم من الأحكام، وبذلك تكون الشريعة مستهدفة تحقيق مقصد عام، وهو إسعاد الأفراد والجماعة، وحفظ النظام، وتعمير الدنيا بكل ما يوصل إلى الخير والكمال الإنساني حتى تصير الدنيا مزرعة للآخرة فيحظى الإنسان بسعادة الدارين.
فقد قام الإسلام على اليسر، ورفع الحرج، ودفع الضرر، ووجوب العدل والتشاور والاعتصام بحبل الله، ورعاية الحقوق، وأداء الأمانات إلى أهلها والتزام الصدق والوفاء بالعهد، ونحو ذلك من الأسس التي نزلت الشرائع السماوية من أجل تحقيقها: «أنظر: النساء: 165، يونس: 57، طه: 123 - 124، النحل: 90، النساء: 58، الأنفال: 24، النحل: 97، البقرة: 204 - 205، البقرة: 185، المائدة: 6».
«6» إدراك المصالح بالعقل
هل الأحكام تابعة لمصالح الأشياء ومفاسدها؟
الأحكام التكليفية الخمسة بأسرها تابعة للمصالح والمفاسد التي في متعلقاتها، وهذه المصالح ولمفاسد بمنزلة علل الجعل، فإنّ مقتضى العناية الربانية هو أن تسوق الأشياء إلى كمالها ويؤدي ذلك إلى إعلام المكلفين بصلاحهم وفسادهم، وأنّ الشارع يريد منهم أن يتحركوا في دائرة الصلاح والرشاد وأن يبتعدوا عن دائرة ما فيه الفساد.
فعندما يحكم الشارع بوجوب شيء ينكشف لنا أنّ في متعلق هذا الشيء مصلحة ملزمة. وإذا حكم بحرمة شيء ينكشف لنا أنّ في متعلق هذا الشيء مفسدة ملزمة.
وكذلك إذا توصل العقل إلى أنّ في متعلق شيء ما مصلحة ملزمة نحكم من هذا الأمر أنّ الشارع - هنا - أقر الوجوب، لأنّ الشارع لا يوجب ولا يحرم شيئاً إلا أن يكون في متعلق الشيء مصلحة أو مفسدة ملزمة فيحكم بالوجوب أو التحريم، ويأتينا منه خطاب بذلك. ولكن في وقت ما لا ندرك الخطاب، ولكن نصل بعقلنا إلى أنّ في متعلق هذا الشيء مصلحة ملزمة، فنقول إنّ الشارع المقدس لديه حكم وجوبي في هذه الحالة.
«7» هل يمكن الوقوف على فلسفة الأحكام؟!
إنّ علم الإنسان محدود، يقول تعالى: ﴿وَما أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلا﴾ الإسراء: 85. فهل يمكن بهذا العلم والعقل المحدودين أن ندرك فلسفة الأحكام الإلهية؟ وعلى فرض إمكان ذلك، هل يجوز لنا أن نخطو في هذا الوادي؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من مراجعة القرآن، والسنة، والسيرة، ومن خلال مراجعة القرآن والسنّة يمكننا استنباط دليلين على الجواز، وهما:
- الدليل الأول: لقد بيّن القرآن الكريم للناس فلسفة الأحكام والتعاليم وعللها النفسية والاجتماعية والأخلاقية والصحية.. ولم يكتفِ بتقديم النصائح الجافة؛ ليقف الناس بأنفسهم على المفاسد التي تكمن في المناهي وأضرار المعاصي وإلى هذا يشير ما قال الرضا : ”إن قال قائل: لم أمر الله تعالى العباد ونهاهم، قيل: لأنّه لا يكون بقاؤهم وصلاحهم إلا بالأمر والنهي والمنع من الفساد والتغاصب“.
- الدليل الثاني هو سيرة المعصومين ، فعندما يسأل الإمام عن علل الأحكام، نجد أنّه لا يمتنع عن بيانها، فلو أنّ هذا الأمر كان محظوراً لما أقدم عليه الأئمة، وسيرتهم حجّة.
ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الأحكام الشرعية من جهة بيان فلسفتها تنقسم إلى أربعة أقسام:
- أحكام شرعية لها فلسفة واضحة، ويمكن اعتبارها من المستقلات العقلية، كتحريم السرقة، والكذب، والغيبة، وظلم الآخرين، وغيرها من الأمور التي يمكن للعقل البشري أن يدرك أنّها نوع من الظلم، وقبح الظلم من المستقلات العقلية.
- الأحكام الشرعية التي لا تعتبر فلسفتها من المستقلات العقلية، فهي فلسفة غير بيّنة، إلا أنّ القرآن الكريم والروايات هي التي تكفلت إبداء فلسفتها، وهذه الأحكام كثيرة، مثل فلسفة الصلاة والزكاة والصوم.
- الأحكام الشرعية التي ليست فلسفتها من المستقلات العقلية، وليست من الأحكام التي بيّن القرآن أو الروايات فلسفتها، ولكن على أثر مرور الزمان وتقدم العلم اتضحت لنا فلسفة وحكمة تشريعها، مثل فلسفة حرمة أكل لحم الخنزير التي توصل العلم اليوم إلى اكتشاف فلسفة تحريمه.
- الأحكام الشرعية التي لم تتضح فلسفتها بأي من الطرق الثلاثة السابقة، مثل عدد ركعات الصلاة، ومقادير سهام الإرث، ونصاب الزكاة، ومقادير الديات وغيرها من الأحكام التي لم نتوصل لحد الآن إلى معرفة فلسفتها، والنتيجة هي أنّ الأحكام الشرعية أربعة أقسام، ثلاثة منها يمكن التعرف على فلسفتها، ويحق لنا البحث فيها، وأما القسم الرابع فلا يمكن الوقوف على فلسفته.
ويوجد ثلاثة فوائد لمعرفة فلسفة الأحكام وهي:
- يثبت أنّ الله تعالى حكيم لا يفعل عبثاً.
- يزيد من اطمئنان المسلم بحكمة الله تعالى، وعمق وأصالة التشريع الإسلامي.
- يكتسب الشرع مرونة كبيرة تجعله قادراً على التكيُّف مع جميع العصور والظروف.
- يكرس في وعي المسلم بأنّ كل هذه الأحكام إنّما هي لمصلحته وتحقق سعادته.
- يسهل على المسلم الإطاعة، ويدفعه إلى الامتثال بشوق ورغبة.
يقول الفيلسوف هادي السبزواري: ”كل ما أدركه العقل وعرف وجه الحكمة في فعله مال الطبع اليه ميلاً ما، فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً على الفعل..“ «شرح دعاء الجوشن: 103».
وعلينا أن نتنبه إلى شيء مهم وهو أنّ فلسفة الأحكام والتي تقع في مدار المعرفة البشرية لا تكون شاملة وعامة لمختلف الأفراد، وفي جميع الظروف والمتغيرات، بل هي مبتنية على أساس مصلحة الأكثرية من الناس وهي جارية في الغالب من الأفراد لا الكل.
وتوضيح ذلك هو: أنّ فلسفة أي حكم من الأحكام لا تكون متجانسة مع خصوصيات كل الأفراد، كما أنّها ليست منسجمة مع خصوصيات الفرد الواحد على الدوام وفي كل الحالات، بل هي مبتنية على أساس أغلب الحالات وأغلب الأفراد.
ولكن هذا الأمر لا يقدح بعمومية الحكم، أي أنّ هذا الحكم يجب أن يطبق حتى على الأفراد والحالات الفاقدة لتلك الفلسفة والحكمة. ولا فرق في هذه المسألة بين الأحكام الشرعية والمقررات والقوانين الاجتماعية.
«8» الشريعة والأخلاق
يحمل الإنسان من الغرائز والشهوات والمطامع والمطامح ما لا تعرف الحدود، ولو تُرك وشأنه أسيراً لشهواته وغرائزه لتضاربت المصالح والمطامع والطموحات فيه، ولعجز عن الوصول إلى أي هدف سام ونبيل. ولهذا تطرح مسألة الأخلاق لتعديل هذه الغرائز، أو لتحدّ من تطرف الغرائز وميلها عن المسار الصحيح.
وخير سبيل إلى تقوية الروح الإنساني ودعمها التسلح بالأخلاق، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿أفَمَن أسسَ بُنيَانَهُ عَلَى تَقوَىً مِنَ اللهِ وَرِضوَانٍ خَير أم من أسسَ بُنيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنمَ وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الظالِمِينَ﴾ التوبة: 109.
فالآية تؤكد على أنّ البناء الأخلاقي لا يقوم إلاّ على أساس السير في طريق طاعة الله تعالى وتطبيق أحكامه الإلهية، وهي بلا شك عامل الثبات والبقاء، فإنّ كل بناء أقيم على غير التقوى يكون بنياناً منهاراً لا محالة، ”وتلك هي القصة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في كل مواقفه في الحياة، لينطلق الموقف من القاعدة الثابتة في العقيدة والشعور والإرادة،.. فلا حركة إلا من فكرة، ولا فكرة إلا من قاعدة. وكلما اقترب الإنسان من الله، كلما كانت حساباته دقيقة في كل شيء، لأنّه الأساس في كل خير وحق وثبات“ «من وحي القرآن: ج 11 ص 213». فينتج أنّ الدين هو أفضل دعامة للأخلاق، ومن هنا يتبين خطأ من يقول: إنّ القانون وحده قادر على تنظيم العلاقات، أو رسم الحدود أو تحديد الحقوق والالتزامات المختلفة.
والقانون وإن كان مزوداً بأجهزة السلطة المختلفة إلاّ أنّه لا يكون كافياً لسدّ حاجة البشر أو تنظيم ما لم يوجد في روحه رادع نفساني، ولهذا نلاحظ أنّ «البوليس» الظاهري للقانون لا يحقق أي نظام متكامل، بل لا يضبط العلاقات ولا يحدد الحقوق، وعليه فالبشر بحاجة إلى رقابة باطنية، أو فلنقل: إنّه يحتاج إلى «بوليس» داخلي بحيث تكون هذه الرقابة رادعة له عن الوقوع في الجريمة.
ولا يتكفل بهذا النبع الحيوي إلاّ أن يعيش الفرد تحت مظلة العقيدة لكي تحفظه من المعصية وتقوّي فيه مواجهة الشهوات والمغريات.
وإذا كان القانون الأخلاقي هو الذي ”يرينا الخير والشر ويأمرنا وينهانا جزء من طبيعتنا... ففي باطن الإنسان شعور بالواجب، وأمر بعمله، وعقوبة على مخالفته، ومكافأ ة على طاعته... وكل إنسان مسؤول أمام ضميره عن إطاعة هذا القانون الأخلاقي ومسؤول كذلك أمام الله، فقد ربط الله الثواب والعقاب بهذا القانون، وجعل الجنة جزاء العدل والصدق والشجاعة ونحوها من الفضائل، كما جعل النار عقاباً لأضدادها من ظلم وكذب وجبن“ «الأخلاق: ص 56».
وفي قصة نبي الله يوسف أكبر الدروس، حيث قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتهُ التِي هُوَ فِي بَيتِهَا عَن نَفسِهِ وَغَلّقَتِ الأبوَابَ وَقَالَت هَيتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إنهُ رَبِّي أحسَنَ مَثوَايَ إنهُ لاَ يُفلِحُ الظالِمُونَ﴾ يوسف: 23. فإنّ الرادع الداخلي في وعي يوسف هو الذي حفظه من أن ينزلق ويتهاوى. ومن هنا نقول - بضرس قاطع - إنّ هناك دعائم مترابطة بين الأخلاق والدين قبل أن تتجه لأي شيء.
وللأخلاق جانبان: جانب اضطراري نفسي، وجانب اختياري سلوكي ظاهري.
من الأمور الاضطرارية: الغريزة، والوراثة.
ومن الأمور الاختيارية: العادة، والبيئة، والمحيط..
ويشير إلى هذا الأثر المهم رواية إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق قال: ”إنّ الخلق منيحة «عطية» منحها الله خلقه. فمنها سجية «جبلة وطبيعة» ومنه نية «أي: يكون عن قصد واكتساب»“.
فقلت: فأيتها أفضل؟
فقال: ”صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره، وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبّراً، فهو أفضلهما“ «الكافي: ج 2 ص 107 ب 49 ح 11».
وعليه فإنّ المفهوم الأخلاقي ليس صفة بعيدة عن أي مبدأ أو عن أي قواعد منظّمة، وبعضهم أشار إلى أنّ الأخلاق ما هي إلاّ صفة نفسية، وليست عملاً من الأعمال.
إلاّ أنّنا نقول: إنّ المفهوم الأخلاقي في الإسلام هو عبارة عن المبادئ والقواعد المُنظِّمة للسلوك الإنساني، والتي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه.
يقول الشيخ محمد جواد مغنية: ”الوحي عندنا مصدر من مصادر الأخلاق، ويكفي في الدلالة على ذلك أنّ كلها سلوك وعمل حتى ضبط النفس، فإنّه نوع من العمل، ونحن نهتدي بكتاب الله وسنة نبينا في سلوكنا معه سبحانه، ومع الأسرة والمجتمع وسائر الكائنات، وأيضاً كل من دعوة الإسلام وعلم الأخلاق إنسانية عالمية لا تتقيد بزمان أو مكان، ولا بأمة ولا طائفة“ «فلسفة الأخلاق في الإسلام: ص 15».
والسرّ في اهتمام الإسلام بالأخلاق هو أنّه أمر لا بدّ منه لدوام الحياة الاجتماعية، وأنّ الحياة الاجتماعية لا تتقدم مادياً أو معنوياً إلاّ عن طريق هذا السلوك الأخلاقي، فهل يمكن للإنسان أن ينسجم مع مجتمع أهملت فيه المبادئ الأخلاقية بحيث تسود فيه الخيانة، والكذب، والفسق، والغش، والسرقة، وسفك، الدماء، والتعدي على الحرمات والحقوق؟!
وبطبيعة الحال لا يمكن للسوي أن ينسجم مع مثل هذه المبادئ الهابطة، ولو طالعنا ما يكتبه المتخصصون عن الحالات الاجتماعية والأخلاقية في الدول الغربية فسوف نلاحظ أنّ القانون والأخلاق يتجهان في مسارين مختلفين.. كما نرى أنّ القانون والجزاء القانوني ما هو إلاّ مجموعة من القواعد العامة الملزمة بتنظيم سلوك الفرد في المجتمع، ولهذا هو يثيب المسيء ولا يثيب المحسن، لأنّه يستهدف الردع والتحذير من ارتكاب الجرائم فقط.
فالقانون قد يعاقب الفساد في بعض أشكاله إذا وصل إلى حالة الاغتصاب، ولكن هذا القانون يمتنع عن المساس ببعض أشكال الفساد الجنسي كالزنا، واللواط، وممارسة الحب بين البالغين إذا كان ذلك عن رضا بين الطرفين.
كما أنّ القانون لا ينص على عقوبة الكذب أو النفاق أو الغيبة أو عقوق الوالدين، والتي تدخل تحت قانون التعزيرات في الإسلام، بل في بعض الدول المتمدنة كأستراليا يجوّز للولد أن يقدم شكوى ضد والديه إذا أستعمل معه بعض الحقوق الطبيعية من ضرب تأديبي، وأنّ الرجل في ظل القانون الأمريكي والبريطاني غير مُلزم قانوناً بإنقاذ شخص مشرف على الغرق والهلاك.
نعم، بدون أي حاكمية للضمير وللوازع الديني لا يمكن للإنسان أن يستشعر أي ذنب مهما كان هذا الذنب، وهذا هو الفارق الجوهري بين المؤمن والمنافق، حيث يقول الرسول الأكرم ﷺ: ”المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره“.
وهنا نسأل: ما هي أسباب عناية المسلمين بالأخلاق؟
لقد كانت عناية المسلمين بالأخلاق لأسباب مختلفة:
- الدعوة إلى مكارم الأخلاق التي جاء بها الشرع الإسلامي.
- التوجه العملي للمعرفة الإسلامية الذي يجعل أهلها يتأثرون بما كان من العلوم المنقولة متعلقاً بالعمل أكثر من تأثرهم بما كان منها نظرياً.
- الاعتقاد في وجود كليات عملية فطرية.