سؤال التراث والحداثة بالسعودية في حوار مع المفكر زكي الميلاد
يبدو أن سؤال ”التراث والحداثة“ بالمملكة العربية السعودية من أعقد الأسئلة وأخطرها، لأنها تمثل مهبط الوحي الإسلامي، وميلاد حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية.
ولهذا قررنا ومن خلال جريدة ”الحوار“ أن نفتح النقاش مع شخصية سعودية حول هذا الموضوع الشائك والحساس، وهو الباحث في الفكر الإسلامي زكي الميلاد، صاحب المؤلفات الكثيرة والمهمة، منها: ”عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟“، و”الإسلام والمرأة.. تجديد التفكير الديني في مسألة المرأة“ و”تجديد أصول الفقه.. دراسة تحليلية نقدية لمحاولات المعاصرين“ و”الفكر الإسلامي.. قراءات ومراجعات“ و”الإسلام والعقلانية.. ضد الجمود وضد الاستلاب“، و”من التراث إلى الاجتهاد“، وغيرها من الدراسات والمقالات.
ولكن وأمام هذا الكم الهائل من الأبحاث التي تتطلب دراسة خاصة للخروج بخلاصة وافية حول موضوع التراث والحداثة في مشروع الأستاذ زكي الميلاد، وجدت أنه لا بأس من طرح بعض الأسئلة عليه لتكون مدخلا لذلك، والبداية كانت بسؤالي التالي وهو:
والتراث الذي نتحدث عنه يختلف من جهة المعنى والطبيعة والمصدر والمجال عن مفهوم النص بشكل خاص، فما هي الحدود الفاصلة بين هذه المفاهيم؟
أما النص فهو ما كان مصدره الوحي كتابا وسنة، وصفته التنزيل الإلهي، ومن حيث الطبيعة له خاصية المطلق والثابت، الذي لا يقبل إلا الصواب، وموافقة الحق والواقع.
وأما التاريخ فإن مصدره ومجاله هي الوقائع والحوادث والحوليات التي تؤرخ للأشخاص والأحداث والقضايا في كافة مجالاتها وأبعادها. ومن هذه الجهة يكون التاريخ أوسع وأشمل من التراث الذي يتقيد ويتحدد بالمجال الذي يتصل بالفكر والمعرفة والعلوم، في حين أن التاريخ يتصل بكل الحوادث والوقائع التي حصلت في الماضي على اختلاف مجالاتها وموضوعاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحربية وغيرها.
ولهذا ينبغي أن تختلف طرائق النظر ومنهجيات التعامل مع تلك المفاهيم ومسائلها وموضوعاتها، بناء على ضبط هذه الحدود الفاصلة من الناحية المعرفية.
وحسب هذه الحدود المعرفية فإن التراث يقبل الزيادة والإضافة، ويقبل أيضا النقد والنقض، وحتى الطرح والإسقاط، فلا نقبله بكليته وعموميته، وبدون فحص ونقاش، ولا نرفضه بكليته وعموميته كذلك بدون فحص ونقاش.
والحاجة إلى الفحص والنقاش لكي لا يكون الأخذ والرفض محكوما بمعايير الرغبات والعواطف، أو باقي المؤثرات والميولات الأخرى. وإنما ليكون الفحص والنقاش مستندا إلى أسس علمية ومنهجية تنظم العلاقة مع التراث.
وهذا يعني أن التراث ليست له قداسة النص، هذه هي الإشكالية الملتبسة التي أعاقت طرائق التعامل مع التراث، وجعلت من التراث يتحول إلى سلطة فكرية وثقافية ودينية يكون من الصعوبة التعامل معه.
وقد تحددت سلطة التراث في جهتين، جهة قوة حضوره وشدة هيمنته على الأفكار والمعارف الإسلامية، وجهة صعوبة التعامل معه، أو الخروج عليه، حيث اكتسب رهبة وهيبة كهيبة السلطة ورهبتها.
وتعززت سلطة التراث من خلال بعض المقولات المتداولة في مجال الدراسات الإسلامية، مثل مقولة «ليس بالإمكان أبدع مما كان»، أو مقولة «ما ترك السابق للاحق شيئا»، ومقولة «مخالفة المشهور مشكل وموافقتهم من غير دليل أشكل» إلى غير ذلك من مقولات أخرى.
فالقداسة هي للنص المعصوم كتابا وسنة، وليس للتراث، والقاعدة التي ينبغي أن تتغير هي أن تكون لدينا سلطة على التراث، لا أن يكون التراث له سلطة علينا.
أم هو مفهوم عام ظهر في كل الحضارات، وعرفته جميع المدنيات، وعبرت عنه مختلف التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني في أزمنته القديمة والحديثة، ومن ثم فهو مفهوم عام لا يحق للغرب أن يحتكره لنفسه، ويعلن تملكه، ويكون وصيا عليه، وإنما يحق للحضارات والمدنيات الأخرى أن تكون شريكة في التعبير عن هذا المفهوم، وبلا وصاية أو احتكار من أحد!
أمام هذا السؤال الجدلي والإشكالي، يمكن القول إن الحداثة هو مفهوم خاص من جهة، ومفهوم عام من جهة أخرى، بلا تناقض أو تعارض، مفهوم خاص من ناحية المبنى، ومفهوم عام من ناحية المعنى.
من ناحية المبنى، فإن الحداثة بهذا الرسم للكلمة، وبهذا النطق اللساني هي من ابتكار الغرب، وتحسب من هذه الجهة على الأدب الأوروبي الحديث، وفي هذا النطاق تحدد المعنى الخاص لفكرة الحداثة، والذي أراد منه الغرب أن يعبر من جهة عن طبيعة تجربته الفكرية والتاريخية، والتي هي بلا شك تعد واحدة من أضخم التجارب الفكرية في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، ويعبر من جهة أخرى عن طبيعة رؤيته لفلسفة التقدم والتمدن.
ومن ناحية المعنى والمفهوم العام، فإن مفهوم الحداثة قد تمثلته وعبرت عن روحه وجوهره جميع التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني، فهذه التجارب هي حالات وأنماط من التقدم، ومعبرة عن روح التقدم وفلسفته، وهذا هو جوهر الحداثة وروحه.
وما من حضارة ظهرت إلا وكانت حضارة حديثة وحداثية، ومعبرة عن الحداثة في أبها صورها، وأرفع درجاتها، وأعلى مراتبها، وليست هناك حضارة لا تعد حديثة وحداثية، ومعبرة عن الحداثة في معناها العام، وكل حضارة في عصرها هي حضارة رائدة في الحداثة، ومعبرة عن مركز الحداثة في عصرها، الحداثة بمعنى فلسفة التقدم.
وما هو ثابت أن التاريخ الإنساني قد مرت عليه وبلا توقف حضارات عدة، قبل الغرب كانت هناك حضارات، وبعد الغرب ستكون هناك حضارات أيضا، الأمر الذي يعني أن الحداثة قد مرت على كل هذه الحضارات التي كانت قبل حضارة الغرب، وستمر على الحضارات القادمة بعد حضارة الغرب.
وبهذا اللحاظ فإن الحداثة قد مرت على الحضارة الإسلامية كما مرت على الحضارات الأخرى، وأن الحضارة الإسلامية مثلت محطة من محطات الحداثة، ورافدا من روافدها، ومسارا من مساراتها.
لكن الذي يختلف بين هذه الحضارات هو نوعية الحداثة التي تتصل بها ودرجتها، فالحضارة الصينية مثلا لها حداثتها نوعا ودرجة، والحضارة الهندية كذلك لها حداثتها نوعا ودرجة، وهكذا الحال مع الحضارات اليابانية والأمريكية والإسلامية وغيرها من الحضارات الأخرى، بما في ذلك الحضارة الغربية.
والاختلاف في الحداثة نوعا ودرجة ناشئ من تأثيرات عوامل المكان والزمان وظروف البيئة من جهة، وعالم الأفكار ونظام القيم والأخلاق من جهة ثانية، وطبيعة التجربة والخبرة من جهة ثالثة، وهي التأثيرات التي تؤثر على جميع الحضارات وتكوّن طبيعتها ومزاجها وبنيتها وروحها العامة.
هذه هي صورة الحداثة بين المعنى العام والمعنى الخاص، ويتصل بهذا المنحى النقاش الفكري والنقدي العابر بين الأمم والمتمحور حول هل توجد حداثة أم حداثات؟ فهناك ميل لتقبل فكرة الحداثات المتعددة والمختلفة، الأمر الذي يفك علاقة الارتباط بين الغرب والحداثة، ويجعل طرق الحداثة متعددة لا تنحصر في طريق واحد هو طريق الغرب، ويفتح المجال أمام تبلور نماذج من الحداثات المختلفة عن حداثة الغرب.
فالخطابات الإسلامية في العموم الأغلب عرف عنها تشبعها بالتراث، ولم يعرف عنها تشبعها بالمعاصرة، والخطابات غير الإسلامية عرف عنها أو يظهر عليها تشبعها بالمعاصرة، ولم يعرف عنها تشبعها بالتراث.
وبدل أن تحرك هذه المفارقة جدلا فكريا خلاقا يكتشف فيه كل خطاب ما ينقصه ويتممه عند الخطاب الآخر، ويبعث على الانفتاح والتواصل، حصل ما هو خلاف ذلك، فقد غاب النفاش والجدل وحل مكانه النزاع والخصام، وبدل أن يحصل انفتاحا وتواصلا، حصل انغلاقا وقطيعة، تنخفض درجتهما وترتفع بحسب اختلاف وتنوع البيئات، ومستويات الخبرة والمعرفة.
ومع أن الخطابات الإسلامية عرف عنها أنها تولي اهتماما كبيرا بالتراث، بحثا وتأليفا وتصنيفا وتحقيقا، إلا أنها لم تول قدرا كبيرا من الاهتمام في بلورة منظور معرفي تتشكل على أساسه مناهج التعامل والنظر مع التراث.
وهذا من أشد ما ينقص هذه الخطابات في تعاملها مع التراث، ويؤثر على رؤيتها، وفاعلية نشاطها في هذا الحقل. فلا بد من بلورة منظور معرفي على ضوئه تتحدد المقاصد والغايات من النظر إلى التراث، وهكذا الحاجات المعرفية والمنهجية التي ترتبط به، في زمنه الماضي، وبعلاقته بحياتنا المعاصرة، وبنظرتنا إلى المستقبل. وهذا هو المدخل السليم في التعامل مع التراث. لأن حقيقة المشكلة ليست في التراث، وإنما في طريقة فهمنا للتراث، وفي طريقة تعاملنا معه.
ولبلورة مثل هذا المنظور المعرفي لا بد من الاستفادة من منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي لا ينبغي أن ننكر لها خبراتها وتجاربها وتطبيقاتها، ومنجزاتها ومكتسباتها المعرفية، وأدواتها وطرائقها التحليلية والتوصيفية والنقدية، بحيث يمكن الجزم أن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أية محاولة في النظر والتعامل مع التراث منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية.
أما بشأن مدرسة الحداثة: فقد حصل انقطاع من المثقفين والنخب الفكرية عن التواصل مع الثقافة الإسلامية، ففي الوقت الذي اندفع فيه هؤلاء وبحماس كبير نحو الأفكار والمعارف الحديثة القادمة لهم من المرجعيات الأوروبية، وتمكنوا منها معرفيا ومنهجيا، في مقابل هذا الاندفاع حصل انقطاع عن الأفكار والمعارف الإسلامية، وهذا هو منشأ الخلل والضعف في التكوين الثقافي والذهني عند هؤلاء.
وأوضح من عبر عن هذه الحالة وبشفافية صافية الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمة كتابه «تجديد الفكر العربي»، بقوله: «فهو واحد من ألوف المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي قديم أو جديد، حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون، بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواما بعد أعوام، الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ، وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة كالأشباح الغامضة، يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين... ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ، وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد».
هذا الكلام من الدكتور زكي نجيب محمود، كان يفترض أن يدفع المثقفين في مدرسة الحداثة إلى مراجعة موقفهم وعلاقتهم بالفكر الأوروبي، وتصحيح هذه العلاقة، وهذا ما لم يحدث فعلا بالنسبة للكثيرين.
ولا شك أن هذا الموقف الفكري قد أثر وبعمق في طبيعة رؤية هؤلاء المثقفين للثقافة الإسلامية، وفي طرائق التعامل معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الثقافة الإسلامية كانت بأمس الحاجة إلى خبرة هؤلاء المنهجية والمعرفية، الأمر الذي لم يحصل بسبب ذلك الانقطاع الفكري والنفسي، فتأثرت به مهمة التجديد في الفكر الإسلامي.
وعند النظر في هذه الإشكالية، نجد أنها تتفرع إلى محنتين، محنة مع التراث، ومحنة مع العصر.
المحنة مع التراث، تتحدد في كون أن الفكر الإسلامي مع أنه بقي وما زال مسكونا بهاجس التراث، إلى درجة أنه يعد من أكثر المنظومات الفكرية اشتغالا به على مستوى الثقافات الإنسانية في العالم، مع ذلك لم يتمكن الفكر الإسلامي من هضم هذا التراث واستيعابه، ولا حتى تمثله، بل يمكن القول إن التراث بوصفه منتجا فكريا ما زال متفوقا ومتقدما على ما ينتجه المفكرون المسلمون المعاصرون.
وهذه هي المحنة الحقيقية التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، الذي ما زال يفتش عن ابن سينا في عصره ولم يجده، وعن ابن رشد في عصره ولم يجده، وعن ابن خلدون في عصره، وعن الخوارزمي وابن الهيثم وابن النفيس والبيروني وغيرهم، ولم يجد أحدا منهم في عصره.
ولهذا فإن هناك من يبحث عن العصر الثاني لابن سينا، والعصر الثاني لابن رشد، والعصر الثاني لابن خلدون، وهو العصر الذي لم يتمكن الفكر الإسلامي المعاصر من إبداعه أو تمثله أو الوصول إليه.
وما لم يتقدم الفكر الإسلامي على التراث، من ناحية الإسهام النظري والمعرفي، فإن إشكالية التراث ستظل قائمة، وقيمتها أن تذكر الفكر الإسلامي بالحاجة إلى التقدم والتفوق، ومن دون هذا التقدم على التراث، ستظل مهمة التجديد متعثرة.
وأما المحنة مع العصر، فهي أكثر شدة وفداحة، وذلك نتيجة المسافات البعيدة التي باتت تفصلنا عن العصر، ونتيجة التطور السريع، والتراكم المذهل في المعرفة الإنسانية.
ومع كل هذا التطور والتقدم، ما زالت إمكانية النفاذ إلى العصر مفتوحة ومتاحة لجميع المنظومات الثقافية، بما فيها المنظومة الثقافية الإسلامية، لكنها ليست إمكانية سهلة ويسيرة، لأن النفاذ إلى العصر، بحاجة إلى الارتقاء بمستوى العصر وشروطه التاريخية والحضارية، على طريقة ما حققته اليابان في مسيرتها الحضارية، حتى وصلت إلى وضع أصبحت فيه جزء من العصر، وفرضت مستوى من الوجود والحضور، جعل منها شريكا فاعلا ومؤثرا في مسيرة التقدم الإنساني، بشكل لا يستطيع أحد مهما أوتي من قوة ونفوذ، أن يغيبها، أو لا يتفاعل معها.
ومن جانب آخر، فإن محنة التراث لا تنفصل عن محنة العصر، فلولا محنة العصر لما التفتنا إلى عمق وشدة محنة التراث، المحنة التي تتسع وتزداد كلما اقتربنا من العصر وعلومه ومعارفه، وكلما نضجت وتطورت رؤيتنا في النظر إلى العصر، ومستويات التقدم التي وصل إليها.
لهذا فلا يمكن أن نواجه علوم العصر بعلوم التراث، كما لا يمكن أن نواجه علوم العصر بالتخلي عن علوم التراث، وهذا ما يريد أن يدفعنا إليه البعض، على خلفية أن من دون التخلي عن علوم التراث لن نقترب من علوم العصر، وهذا هو الوهم بعينه، فليست هناك أمة حية تقطع صلتها بذاكرتها، وتفصل نفسها عن تراثها، وتمحي علاقتها بتاريخها.
وهذا لا يعني كذلك، أننا نقدم علوم التراث على علوم العصر، ونعطي أفضلية علوم التراث على علوم العصر، فهذا لا يحقق تقدما، ولا يبني مدنية، فالسعي لا بد أن يكون باتجاه تقديم علوم العصر على علوم التراث، باعتبار أن علوم التراث هي علوم أمة قد خلت، لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولن نسأل عن علومها، وإنما نسأل عن علومنا، وعلومنا هي علوم عصرنا.
من هنا جاءت هذه المقاربة بين الحداثة والاجتهاد، بمعنى أنها مقاربة لها أساس ولها موضوع فكري ومعرفي وليست من نمط المقاربات المفتعلة.
وتعد هذه المقاربة من المقاربات الفكرية والمعرفية الجادة والمهمة، وأظن أنها تتسم بقدر من الإثارة والدهشة ولا تخلو من طرافة، وتتسم بحس الابتكار.
وعلى ما أعلم فإن هذه المقاربة هي من المقاربات الجديدة التي لم تطرق عربيا في حقل الدراسات الفكرية والنقدية، ويصدق عليها من هذه الجهة أنها من المقاربات اللامفكر فيها، لذا فهي بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر المنهجي والمعرفي، وإلى مزيد من التذاكر والتفاكر بين المشتغلين في البحث الفكري والمعرفي.
ولعل ما يعترضنا في هذه المقاربة، هو أننا أمام مفهوم يكاد يكون منطفئا هو مفهوم الاجتهاد، أو هكذا يبدو، فهو المفهوم الذي أعلن إغلاق بابه منذ وقت مبكر في سيرة المدرسة الإسلامية السنية، في مقابل مفهوم متقد وحيوي وفعال هو مفهوم الحداثة.
كما أننا أمام مفهوم ينتمي إلى حضارة مغلوبة هي الحضارة الإسلامية، في مقابل مفهوم ينتمي إلى حضارة غالبة هي الحضارة الغربية.
لهذا من الصعب علينا، في مثل حالتنا الفكرية والحضارية الراهنة تخيل هذه المقاربة، وإعمال الخيال فيها، وجعلها في دائرة البحث والنظر، ولعل من الصعب علينا كذلك لفت انتباه الآخرين من خارج مجالنا الفكري والحضاري إلى مثل هذه المقاربة، وتقريبها إلى دائرة البحث والنظر عندهم، وفي ساحتهم الفكرية والمعرفية.
وما يعترضنا في هذه الشأن، أن هذه العناصر الثلاثة «العقل والعلم والزمن» هي عناصر واضحة ومتجلية ومنكشفة في مفهوم الحداثة، لكنها في مفهوم الاجتهاد ليست بذلك الوضوح والتجلي والانكشاف، والأمر يتوقف على إعادة الاعتبار لمفهوم الاجتهاد ومحاولة اكتشافه من جديد.
والحكمة من هذا الطرح إنما هو لتأكيد أن بناء الحداثة لا يتحقق إلا من خلال تأسيس داخلي، وليس عن طريق جلب خارجي، وبإمكاننا أن نكتشف حداثتنا المستقلة عن طريق مفهوم الاجتهاد، مع شرط التواصل المعرفي والنقدي مع الحداثة في أفقها الإنساني العام، وليس على أساس الانقطاع عنها.