من المهد الى اللحد
مسيرة بامتداد الحياة يطور فيها التعليم بذور التعلم، يشذب شذراته، فكل معرفة وفكرة... اكتشاف أو اختراع على مر العصور وفِي جميع الحضارات كان في الطب والفلك أو الكيمياء أو التاريخ وما سواها كانت تندرج تحت مصطلح «العلوم».
إذن المعرفة أساس ومبدأ العلوم وماهي إلا انعكاسات لصور معينة يدركها الذهن.
أتذكر الماضي وأقلب الذكريات لأجد أن أول ما يخطر ببالي ويتذكره ذهني كانت سنوات الدراسة، مع أنها لم تكن أول صور عايشتها أو طبعت في ذهني مذ بدأت عملية التعلم في الحياة، لكني في مَدرستي وبجهود مُعلماتها وجدت أُمهات وأخوات كُثر أشبعن نهمًا من نوعٍ مختلف، أتذكر كل تفاصيله من أساليب مختلفة، طيبتهن، تشجيعهن للمجتهدات بل وحتى حّدة نظراتهن للسلوك السلبي.
عطاؤهن لا يُنسى وجهودهن باقية لم تفن فقد كُنّ مخلصات في عملهن وعلى قدر المسؤولية، هكذا رأيت في ذكرياتهن التعليم فن على المعلم إتقانه لتتنامى به علاقة يمكن للطالب أن يستفيد منها فيما بعد، لا مجرد سرد لمعلومات يمكن تحصيلها بأي وسيلة وفي أي مكان.
فما يُشعرنا بالراحة والتمكين يبقى وتظل ذكراه مابقينا على قيد الحياة... نتلهف لأول يوم دراسي نثابر ونتعلم نودع كل عام فرحات بما أنجزنا وتعلمنا ونبدأ عامنا التالي مع معلمات أخريات، نرى ونتعلم أكثر وأكثر إلى أن كبرنا ورأينا أن العلم كماء البحر لاينتهي، ومع مرور السنين أيقنا أن العلم في تزايد مستمر ولن ينضب أبدًا ولن ينضب حبنا له لحاجتنا، لشغفنا، لسعادتنا وأحلامنا.
أتذكر ماقالته إحداهن ذات مرة في درس عن مساعدة الآخرين: «إن شاهدتِ إنسانًا بحالة حرجة؛ ولأنك تمتلكين سيارة فنقلته إلى المستشفى وتم إنقاذه من الموت، حتما ستشعرين بسعادة كبيرة وراحة بالغة وتنالين التكريم من الآخرين هذا غير الأجر والثواب الكبير من الله عز وجل لقوله ﴿..... ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.....﴾ [1]
أرى في ذلك صورة المعلم الذي يسعى لإحياء الإنسان معنويًا، وفكريًا، أداءً مهاريًا.
لكن أي معلم هذا؟
بلا شك هو من عمل على:
- تهذيب نفسه لتتمكن من تهذيب الآخرين فلا يعقل أن يستطيع شخص لم يهذب نفسه تهذيب غيره.
- القيام بواجبه بصورةٍ متكاملة، كما الجندي في الجيش والعامل في السوق لديه واجب وينبغي لكل شخص تأدية واجبه.
فهناك تكامل في رسالة المعلم بين التربية والتعليم، كما يقول القرآن الكريم ﴿..... ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة....﴾ [2]
فغرس الزرع وريه والعناية به ليس بالأمر السهل، هو لن يحتاج إلى جهد كبير بقدر ما هو محتاج لمحبة العمل، تحديد أهدافه، التخطيط له، تنفيذه بفن، تقييمه، تحسينه، تطويره، وفي كل هذا رعاية المولى الحق في تحبيب العلم في الصدور وتزيينه فيها، ليمنح العبد القدرة على التحرك نحو ما عُلم نفعه، ولولا هذه العناية الإلهية لبقي العلم عقيما لا ثمرة له، بل ربما يكون وبالًا على صاحبه.
فطرُقات المعلّم أروقة الدماغ، يفتح أبوابها ويضيء أنوارها كل نشاطه وحركاته طُرق لنيل رضا الله عز وجل.
هو القائد الأول لقيام ورفعة المجتمع، وهو النور الذي يخرج البشرية من ظُلمات الجهل، فلولاه لبقيت البشرية في ظلامٍ دامس.
هنيئا للذين يحملون على عاتقهم هذه المسؤوليّة العظيمة، هم حقًّا بعلمهم وعملهم ورثة للأنبياء يُعلمون ويهذبون ويزرعون أهداف عظيمة، وينيرون العقول لتفكر وتبدع، فجميع المهن بدونهم لا تكون.
لهذا يتّقِدُ حماسي كلّ يوم، أفكّر أي وسيلة هي الأنفع للسير في القلوب والعقول، وحين أنظر في عيون طالباتي أمتلئ شغفًا وحبًّا وتقديرًا لمهنتي العظيمة التي تبخسها بضعة حروف ”مهنة“
فهي في الحقيقة رسالة نواجه فيها التحدّيات كما الأنبياء، نحتاج فيها للحُجج والبراهين والأدلّة،
ونحتاج أن نكون ذوي عزم.
وما أبدع النتاج..