آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 3:50 م

التَّسلط وأثره في تكوين شخصية الطفل المستقبلية

ابراهيم الزاكي

تحدثنا في المقالة السابقة عن أهمية البيئة الحوارية التي ينشأ فيها الطفل، فالأسلوب الحواري الهادئ الذي يهدف إلى تنمية حواس الطفل وعقله، وإيقاظ ذهنه وذكائه، كما وإرشاده وتوصيل المعلومات إليه، وتوضيح الأفكار والمفاهيم له بيسر، فضلاً عن إعطائه الفرصة للتعبير عن آرائه ومشاعره، يشجع الطفل على المبادأة ويفجر طاقته الحيوية بشغفٍ واهتمام، وينمي إمكانياته، ويكسبه أيضاً الثقة بنفسه، ويشعره بالأمان، ويشجعه على التفاعل بشكل إيجابي وسريع مع محاوريه، وينمي شخصيته، ويشعره بأن له كيانه الخاص والمستقل، فلا يكون إمعة لغيره، وتابع لما يقوله الآخرون من حوله.

وعلى النقيض من الأسلوب الحواري، فإن الأسلوب التسلطي مع الطفل باستعمال قوة يد البطش، بقصد التأثير في اتجاهاته وميوله وسلوكياته، أو بهدف توجيهه وتصحيح سلوكه والرقي بتصرفاته، والتعامل معه بلغة الضرب والشتم، أو الاستهزاء به، وتسفيه رأيه وكلامه، أو بإلقاء الأوامر عليه، وتوجيه التعليمات إليه، وكأنه آلة صماء عليها التنفيذ فقط، عوضاً عن التحاور والنقاش والتشاور معه، ستنعكس بشكل سلبي عليه، وتلحق الأذى به، وستؤدي به إلى التعاسة والشقاء، ويصبح شخصية مهزوزة وخانعة، وتجعله ينظر إلى العالم نظرة متشائمة.

فحين ”يعتمد الأب والأم على العشوائية والمواقف الانفعالية وردود الأفعال غير المدروسة في تربية الأطفال، فإن ذلك يسبب تراكم الكثير من العقد النفسية، والمواقف السلبية التي تنطبع في شخصية الطفل، وتؤثر عليه في مراحل عمره المختلفة وتكبر معه، لنرى في النهاية منتجاً غير طبيعي، غير متسق ولا منسجم مع محيطه المجتمعي. وهذا ما يسبب العديد من المشاكل والعنف والجرائم، ويخلق شخصيات انتهازية وسلبية وعنيفة ومضطربة نفسياً، وتحمل من الحقد والغل وحب النفس والاستحواذ، مما يجعل هناك خللاً واضحاً في المجتمع، وأمراضاً نفسية تكلف المجتمع الكثير من الوقت والجهد والمال لإصلاح هذه الأخطاء، والتي تتسبب فيها مواقف بسيطة وصغيرة في حياة الطفل، نتيجة تربية خاطئة، وتصرفات غير صحيحة نفسياً، اعتمد فيها الآباء على اجتهادات شخصية، ومورثات بالية لا تمت للتربية بصلة، ونصائح غير مسؤولة من أشخاص محيطين، لا تنبني على أدلة علمية، أو معلومات نفسية وتربوية صحيحة“. [1] 

إن سعي الآباء إلى الرقي بأبنائهم، وتنمية مستوى تصرفاتهم، لن يتحقق باستخدام الأساليب العنفية، والشدة المفرطة، وإلحاق الأذى بهم، بل على العكس من ذلك ستؤدي إلى نتيجة معاكسة لما هو مأمول. في حين أن أهداف الآباء وآمالهم يمكن أن تتحقق من خلال تعليم الأبناء وتثقيفهم وإرشادهم بالطرق التربوية الصحيحة، وطرق الإقناع المنطقية، البعيدة كل البعد عن أساليب الجبر والإكراه، ومنطق التأديب والعقاب، والبعيدة عن القسوة في التعامل، وأساليب التجريح والسخرية والضرب والشتم.

إن استعمال القوة والعنف ضد الطفل له انعكاساته السلبية على شخصيته في الكبر، كما يقول الاستشاري الأسري والخبير النفسي خالد باحاذق، ”فالأطفال ينسون أحياناً إذا كبروا العقوبة التي تعرضوا لها، ولكن تظهر كردود فعل أخرى كآثار جانبية من هذه العقوبة، ومنها العقوبة اللفظية، والبدنية، والتي تصنف كعنف يظهر في فترة لاحقة من العمر بما يسمي «رهاب الاجتماعي»، وهذا يظهر في مرحلة الكبر، وقد يتطور إلى درجة أنّ الطفل عندما يكبر لا يستطيع التعبير عن مشاعره مع أبنائه وزوجته، وذلك نتيجة انتقاص الوالدين له في الصغر، وبعضهم يصاب ب «التأتأة»؛ نتيجة العنف اللفظي في محاولة ارغام الطفل، وهو الأمر الذي يحتاج إلى العلاج لإعادته للكلام الطبيعي“. [2] 

وعليه فإن التربية التي تقوم على أساس التسلط والترهيب والهيمنة من خلال العنف اللفظي والجسدي الذي يتعرض له الطفل في مراحل تنشئته سينعكس سلباً على شخصيته مع الكبر، وتؤدي إلى فقدانه الثقة بنفسه، وتدنِّي مفهوم الذات لديه، وتضعف استقراره النفسي، وعدم قدرته مستقبلاً على التكيف مع محيطه الاجتماعي، والتواصل بثقة مع الآخرين، وانخفاض المهارات الاجتماعية التي تُكتسب في العادة من خلال عملية الاندماج والاختلاط والتعارف والتواصل مع الناس والتحاور معهم.

وغني عن القول بأن شيوع المظاهر العنفية والقهرية التي يتعرض لها الأطفال والناشئة دائماً ما تؤدي إلى ضمور إمكاناتهم الإبداعية وشيوع العقل التابع المطيع. ففي بعض المجتمعات يتعرض الإنسان "منذ التنشئة الأولى داخل الأسرة، ثم خلال مراحل تعليمه، وصولاً إلى اكتمال قدرته على المشاركة في إدارة شؤون مجتمعه، إلى منظومة محكمة تستهدف تثبيت مفهوم الطاعة وترسيخه حتى يصبح جزءاً عضوياً من عقله ووجدانه. فالطفل المختلف يُعاقَب ويهمّش بسبب اختلافه وتميزه، عكس الطفل المطيع الذي يوصف عادة بأنه «ولد شاطر، يسمع الكلام». وكذلك الطالب المتمرد يقصيه المعلمون، بدلاً مِن محاولة اكتشاف أسباب تمرده. وتتبنى مؤسساتنا التعليمية والتربوية مناهج عقيمة ترسخ التقليد والتلقين وتجعل الحفظ أساساً لقياس التحصيل والتمييز بين الطلاب. فالطالب المثالي هو الخاضع المطيع الذي يتقبل دائماً سلطة المعلم أو الأستاذ.

ولا شك في أن السياسات التعليمية السائدة تحرص على تخريج دارسين مقموعين فكرياً، عاجزين عن الإبداع، حاملين مفهوم الطاعة وتنفيذ التعليمات الصادرة من المستويات الأعلى من دون نقاش أو جدل. وهكذا تتشكل الأجهزة الإدارية المترهلة المعوقة لأي تقدم أو تغيير. وتشير الخبرة التاريخية إلى أن أعظم الإنجازات البشرية لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا مطيعين. إن الطاعة المتفشية بين الأجيال العربية المعاصرة وغياب القدرة على الاختلاف والنقد يمثلان جوهر المعوقات الفكرية التي تحاصر العقل العربي وتحول دون انطلاقه إلى المستقبل. [3] 

خلاصة القول هي أن انعدام ثقافة الحوار والتشاور، وإهمال الأسلوب الحواري في الإقناع، وسيادة ثقافة التسلط والهيمنة والترهيب والتهديد، لها عواقبها الوخيمة على الأجيال. فالتربية القائمة على الأوامر والنواهي والتهديد والتوبيخ والضرب والإهانة ستجعل المُتعرِّض لها إما خاضع مستكين ذليل حقير لا يملك من أمره شيء، وإما أن تجعله يتمرد ويمارس أفعالاً غير سوية، أو ربما يصبح شخصية ازدواجية في علاقاته وسلوكه وأفكاره، ويتعلم مهارات الكذب والخداع، ويصبح ذو وجهين، واحد في العلن وآخر في السر والخفاء.

غير إن الأسلوب الحواري في التربية والتنشئة، وممارسة طرق الإقناع المنطقية مع الطفل، لها تأثيرها في اتجاهاته وميوله وسلوكياته، كما أن لها آثارها الإيجابية في نضج شخصيته اجتماعياً أثناء الكبر. فالحوار مع الصغير والتشاور معه دائماً ما يؤدي إلى تنمية ثقته بنفسه، ويعزز شخصيته المستقلة، من دون أن يشعر بالنقص والضعف وسط البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها. فيما سيكون من الصعب عليه التواصل مستقبلاً مع الآخرين، وبشكل سليم، إذا لم يكن عنده القدرة على التحدث، وملكة الحوار، وإبداء الرأي، لأن الكثير من المهارات الاجتماعية تُكتسب في العادة من خلال التواصل مع الآخرين والحوار معهم.

 

 
[1]  - كيف نصحح السلوكيات السيئة لدى الأطفال. ملحق صحة وطب. جريدة الخليج الإماراتية.

[2]  - لا تضرب أطفالك أمام الآخرين. تحقيق من إعداد منى الحيدري. جريدة الرياض.

[3]  - مسألة الطاعة وأزمة العقل العربي. عواطف عبد الرحمن. جريدة الحياة.