أزمة إدارة الثقافة
في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة، أو ما يسمى بثقافة النخبة وثقافة الجماهير.
وتتكون الثقافة العليا «ثقافة النخبة» بطريقة واعية، مما يجعلها أكثر دراية ببنيتها العميقة؛ لأننا نكتسبها عن طريق: القراءة، والتأمل، والحوار، والمقارنة، والسؤال.. فهو خاضع لأمرين:
1. فهم عميق للاحتياجات المعرفية والحياتية للناس.
2. تلمس مستمر للتحولات التي تطرأ على الذائقة الثقافية والمعرفية.
أما الثقافة الشعبية «ثقافة الجمهور» فتتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، فهي ألصق بأبناء المجتمع عضوياً؛ فيتشبعون بها ويتنفسون من خلالها.
فهو يتمركز حول الخطاب التبليغي العام، ويشكل أداة مهمة لتوحيد الثقافة عند حدودها «الدنيا»، كما أنه يعد الوسيلة الأساسية لتذكير الناس بالمبادئ والأصول والأدبيات الإسلامية. ولهذا فإنّ رقعة تداوله واسعة جداً، ومن هنا فإنه يكتسب صفة «الشعبية».
وبالتالي فنقطة ضعف «الثقافة الشعبية»، هي نقطة قوتها؛ لأنّ اختراقها من قبل الثقافات الأخرى المنظمة يكون عسيراً؛ بسبب عشوائية الثقافة الشعبية، وتوجسها، ورقابة المجتمع المشدّدة عليها.
أما «الثقافة العليا»، فهي - بطبيعتها ومنهجيتها - مرنة وقادرة على التكيف مع الثقافات الأخرى، بل هي متآلفة مع الثقافات الأخرى من خلال الاقتباس والتطوير.
ولكنَّ المشكلة في مجتمعاتنا، أنّ «الثقافة الشعبية» لا تملك معايير منهجية، ولا أسساً منطقية، والتي تمكنها، من خلالهما، الحكم برشد على تصرفات النخبة، بل أغلب مواقفها تكون عاطفية وتبتعد كثيراً عن أن تكون عقلانية. وقد يدفعها خوفها وتوجسها من عدم التأثير، أن تلجأ في نجاح قضيتها إلى تيارات نخبوية، ولكنها أكثر محافظة وتقليدية، فتقدم لها العون في كبح اندفاع الثقافة التحديثية..
وهذا ما نلاحظه، ففي حين نرى «الثقافة الشعبية» متوحدة في النسيج الاجتماعي، إلا أنها استطاعت أن تكون عاملاً مهماً في الانقسام بين تيارات «الثقافة العليا».
فتطوير «الثقافة الشعبية» وتخليصها من العادات والسلوكيات الخاطئة يقع على عاتق صفوة من أصحاب «ثقافة النخبة»، ولكن من الصعب أن يستجيبوا لطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.
وهنا يبدأ دور الخداع المبرمج بين فصائل اجتماعية كثيرة، وعبر عدة محطات، سميت بالتحالفات.. فعلى سبيل المثال:
- لا تستطيع ثقافة النخبة أن تصبح قوة محركة في المجتمع الإسلامي ما لم تتحالف مع الدين.
- ولا يستطيع المثقف السياسي أن يفرض برنامجه ما لم يتحالف مع الثقافة الشعبية.
- ولا يستطيع المثقف الديني أن يفرض برنامجه ما لم يتحالف مع قوى اجتماعية مالية.
..... وهكذا تتداخل بقية التحالفات السرية، تبعاً للظروف والمواقف والأهداف.
إنَّ حرج المفكر النخبوي أنه يحتاج في كل دور إصلاحي إلى ولاء الناس وتضحياتهم؛ لأنّ المفكر - بطبيعته - لا يملك أكثر من التنظير، ولهذا لا بدّ له أن يستحوذ على رضا وإعجاب الجماهير التي تتحمل عبء التنفيذ. وستعيش النخبة وهماً كبيراً إذا ظنت أنها تستطيع إحداث تغيير كبير من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من* أبناء الأمة.
وقد أثبتت التجارب أنّ كل تغيير يتم من خارج الأمة فهو تغيير كاذب، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
فالمعادلة العقيمة على مستوى الشارع العربي والإسلامي:
- إن طاقة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها..
- وأنّ عقل الأمة ورشدها في المستوى النخبوي..
وهذا التفاوت قد يكون مصدر التوتر والنزاع، ويمكن أن يكون مصدراً للتطوير أيضاً؛ بشرط أن ندير العلاقة بين الشعبي والنخبوي بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.
وليس من العبث أنَّ أولويات الخطاب الإسلامي في عهد الرسالة متكئ على ما نسميه ب «خطاب المرحمة»، متمثلاً في قوله: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾.. وهذه القيمة في أعلى قيم المنظومة القرآنية، والآيات المركزية لهذه الدلالة: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ «الأنعام: 55»، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ «الأعراف: 156».
إنّ المطلوب أن نقدّم «الله» إلى الناس بما قدّم به نفسه، قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾ «الحجر: 49 - 50»، حيث نلاحظ أنه تعالى في هذه الآية قد نسب صفة الرحمة إلى نفسه، فقال: ﴿أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ بينما نسب صفة العذاب إلى فعله لا إلى نفسه، فقال: ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾، في إشارة بليغة ولطيفة إلى أنّ الرحمة تلائم ذاته أكثر مما تلائمها صفة العذاب، كما أنّ الآية من جهة أخرى قدمت صورة الرحمة على صورة العذاب في إيماءة واضحة وجميلة إلى أهمية الابتداء في الخطاب التبليغي بما يبعث على السرور والانشراح وبما يجتذب النفوس والقلوب.