حق الفرد في التفكير خارج عباءة المرجعيات الدينية
لا يزال النقاش مستمراً، في أوساط السعوديين الشيعة، حول الأفكار التي أثارها كتاب الشيخ علي الفرج ”العباس بن علي بين الأسطورة والواقع“، ومحاضرته ”أسطورة الرموز التاريخية.. الأسباب والنتائج“. وهو الجدل الذي ربما لم يكن المؤلف يتوقع له أن يكون بهذه القوة والانتشار!
موقعا ”جهينة الإخبارية“، و”شبكة القطيف الإخبارية“، نشرا العديد من المقالات، سواء تلك التي تنتصر للفرج وآرائه، أو المعارضة له.
الصراع عبر الكتابة، تعبير صحي عن ما يفترض أن يكون عليه موقف أي جماعة بشرية من قضاياها العامة. وهي، إذ تستعير هذه الأدوات المعرفية، فإن ذلك يشير إلى تفضيلها ”الحوار“ على ”العنف“. وإن كان البعض استخدم ”العنف اللفظي“ كما في حالة الشيخ مالك السنان، الذي اعتبر دعوة ”منتدى الثلاثاء الثقافي“ للشيخ علي الفرج، إنما هي استضافة ”مشبوهة لكل ما هو شاذ وسخيف“!. أو الشاعر علي جعفر القطيفي، الذي نظم قصيدة يهجو فيها الفرج، ”إذا أفلست من شرف وعز، ومهما قلت لم تجد اهتماماً“.
قبالة هذه الردود ”الانفعالية“، برزت عدة شخصيات دينية كتبت ونشرت بأسمائها الصريحة، دفاعاً عن حق الشيخ الفرج في إبداء رأيه دون ترهيب. ومن هذه الشخصيات: الشيخ محمد أبو زيد، الشيخ شاكر الناصر، الشيخ حسين آل قريش. في خطوة لم تكن معهودة سابقاً في الوسط الشيعي السعودي، وتشير إلى أن هنالك ممانعة حتى داخل التيار الديني لأفكار تيار ”حراس العقيدة“!.
من ضمن الكُتّاب الذين انتقدوا أفكار الشيخ علي الفرج، الأستاذ سراج أبو السعود، في مقالة نشرها بتاريخ 30 نوفمبر الماضي، وإن لم يأت على ذكر الفرج فيها. إلا أنه في مقالته التالية ”وقفة مع الأستاذ حسن المصطفى..“، كان أكثر صراحة في ملاحظاته. وهي الممارسة النقدانية التي له تمام الحق فيها، خصوصاً أنه سعى لأن يواجه الفكر بالفكر، وإن كنت أختلف معه في كثير من آرائه. إلا أننا بحاجة في المجتمع السعودي إلى مثل هذه ”المحاججات“ التي ترسخ ثقافة التعددية واحترام الآخر، وتجعلنا نقبل الاختلاف وإن نسبياً دون أن نحوله إلى كراهية وعداء.
أبو السعود في مقالته طرح العديد من النقاط التي يجدر التوقف عندها، إلا أنه لتشعبها، يمكن مناقشة المهم منها.
يعتقد أبو السعود أن ”المجددين“ في الوسط الشيعي، يرون أنه ”إذا ما أراد الشيعة ذات التقدم، فينبغي كذلك أن يقفوا في وجه الكنيسة الشيعية، وهي الحوزة العلمية ومراجعها“، مستحضراً فكرة الصراع بين الكنيسة وخصومها، معتبراً أن من سماهم ”المجددين“ يحاولون استنساخ هذه التجربة في مجتمعاتنا.
لا بد في البداية أن نعي أن لكل تجربة سياقها التاريخي، وأن هنالك محددات علمية، وظروفاً زمنية، تجعل مهمة الاستنساخ الحرفي للتجارب محكوماً عليها بالفشل.
ثانياً، إن العلاقة بين الكنيسة والمجتمع، ترتبط برؤيتنا لمفهوم ”الدولة“، والتي تعتبر أحد مرتكزاتها الرئيسة في العصر الحديث، فصل الدين عن الدولة. على اعتبار أن الأخيرة كيان مدني، ذو تنظيم ومهام خاصة. وهي لكي تقوم بدورها، من الضروري أن لا تكون ذات طبيعة عقائدية، أي أن تكون ”لا دينية“.
إن الدولة المدنية الحديثة، ليس من شأنها أن تبشر ب ”الدين“، وهي في ذات الوقت ليست مناهضة له. فهي تعمل على تحديد التداخل بين الدين و”المجال العام“. بحيث تنظم وتفك الاشتباك بين الزمني والروحي. وقد بحث عدد من العلماء المختصين هذا الموضوع في كتاب ”قوة الدين في المجال العام“، بكثير من التفصيل.
وفق ذلك، سيكون للمتدينين الحق في ممارسة عقائدهم بحرية تامة، وهو ما تكفله لهم الدولة بقوة الدستور والقانون. إلا أنه لا يحق لهم فرض إيمانهم على أحد.
الحديث السابق يقودنا إلى أمرين مهمين: الأول، ”العلمانية“ كإطار مفهومي وفلسفي يقوم على تكريس الفردانية والفصل بين الروحي والزمني، وهو ما يرسخ مفهوم بشرية الخطاب التداولي في المجتمعات، وينص مرجعية ”القانون“ لا ”الكنيسة“. والثاني، محدودية سلطة ”علماء الدين“ بوصفهم شخصيات ذات مرجعية روحية لا تمتلك حق الإكراه أو إصدار أحكام قيمية تجاه مخالفيهم.
بالعودة إلى ما سماها أبو السعود ”الكنيسة الشيعية“، والتي يقصد بها ”الحوزة الدينية“، فإن ما أعتقد أنه مهم، هو ما يسميه ماكس فيبر ”نزع السحر“؛ أي تفكيك تلك المنظومة الرمزية والخطابات الصادرة عن الحوزات، بحيث لا يتم النظر لها بطريقة تبجيلية، تقوم على الإيمان والتصديق المطلقين. وإنما يجب أن تكون هناك مناقشة ومساءلة لهذه الأفكار، وهل أنها تخدم المؤمنين في هذا الزمان، أم ستشكل نوعاً من الأغلال التي تقيد حرية تفكيرهم.
ليس من العقل المطالبة ب ”هدم“ منجزات الحوزات، أو ”شيطنتها“، أو إلقاء ما تنتجه من معارف في سلة المهملات، فذلك منطق غير علمي ألبتة. فهناك جهود علمية مهمة، ومؤلفات رصينة لأساتذة ومراجع تمتاز بالعمق والمتانة والدقة. إنما من الضروري أن ينهض القيمون على الحوزات بمهمة تطوير البيئة العلمية، ووضع معايير موضوعية للمناهج الدراسية، وأن يستمع أساتذتها وطلابها لنقد الآخرين، دون أن يتكبروا على هذا النقد أو يعتبروه شيئاً من السخف، خصوصاً أن هنالك عشرات الدعوات من مرجعيات دينية معتبرة، وأساتذة في الجامعات الإسلامية لتطوير حوزتي قم والنجف بالتحديد. إلا أنها مطالبات قوبلت بمزيد من الصد، وخصوصاً من التيار الذي يدعي أنه يحمي ”التشيع“، فيما هو يغرقه في مزيد من الماضوية!.
إن هذه المؤسسات الدينية التي يخشى ”حراس العقيدة“ عليها، إنما ”صنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة.. ولحصر امتلاكها أدوات القوة، دون الطبقات الاجتماعية الأخرى“، كما يقول ميشيل فوكو في نقده لعمل المؤسسات التعليمية. والحوزات هي واحدة منها، وممارسة منتسبيها تكرس هذه ”القوة الطبقية“، وتحديد في وقتنا الحاضر، وإن أسسها الأوائل لغايات علمية مختلفة تماماً.
الكاتب سراج أبو السعود، وفي مقالته أشار إلى أنني أتهم ”التيار المحافظ بأنه يتهاون ويتسامح مع الخطاب الغرائبي طالما لذلك مصلحة شرعية، وهكذا كلام هو اتهام لم يتبعه بدليل، بل أرسله إرسال المسلمات“.
إن الحديث عن التهاون مع ”خطاب الخرافة“، يمكن ملاحظته عبر تتبع ما تبثه الكثير من الفضائيات الدينية الشيعية، وهي قنوات قدمت صورة سلبية عن التشيع، وكأنه مذهب لا يعرف سوى البكاء والحزن والمنامات. يمكن متابعة قنوات ”الأنوار“، ”أهل البيت“، ”فورتين“، ”الأوحد“ وسواها، سنجد العديد من خطباء المنبر الحسيني يرددون كلاماً لا يتوافق مع العقل، بل يخالف منهج وسيرة آل البيت، إلا أن تيارات مثل ”حراس العقيدة“، و”الشيخية“، و”المدرسة الشيرازية“، لا تستنكره، بل تروج له وتغذيه.
وحتى إذا رجعنا لأدبيات علماء الدين، فإن هنالك قاعدة حوزوية تقول ب ”التسامح في أدلة السنن“، أي في الروايات التي تتناول العبادات والأذكار المستحبة، وهو ما أدى لأن يتسع المجال ليطال حقولاً أخرى، ويتم التسامح مع حشد من المرويات التاريخية، وإضفاء صفات على أئمة آل البيت، هم رفضوها أصلاً، واعتبروا أن من يقول بها هم ”الغلاة“ و”المفوضة“. إلا أنه تحت وطأة أحاديث ضعيفة مثل ”نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم“، أو الاعتماد على بعض الزيارات التي لم يثبت صحة سندها ك ”الزيارة الجامعة“، يتم بناء سردية عقدية جديدة، تسلب المؤمنين أي إمكانية على التفكير.
لدى جموع المؤمنين، أسهل طريق لتهشيم فكرة ما، الادعاء بأن صاحبها ”منحرف“. حينها لن يكون هنالك مستمع لأي صوت تنويري. وهو ذات الأسلوب الذي ضمنه الكاتب سراج أبو السعود مقالته، حين أشار إلى أن هنالك ”أزمة نفسية يعيشها ما يسمى تيار التجديد نتيجة أن نسبة من رموزه هم ممن لا حظ لهم بدرجة علمية متميزة في المضمار العلمي وبعضهم أفتى كبار المراجع بضلالهم وانحرافهم“.
أبو السعود يشير في حديثه إلى المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، وهو الشخصية التي يعتبرها ”ضالة“ و”منحرفة“، دون أن يتجرأ على تسميتها، مستحضراً موقف الراحل آية الله الميرزا جواد التبريزي من فضل الله، والحملة الشعواء التي شنها عليه أنصار التبريزي، وفتوى الأخير في المرجع اللبناني، واعتباره له بأنه ”ضال مضل“.
التبريزي كان مرجع التقليد الأبرز لتيار ”حراس العقيدة“، وهو أصدر عدداً من الفتاوى الدينية التي تنتقص من ”تشيّع“ شخصيات علمية عدة، مثل السيد محمد حسين فضل الله، والشيخ عبد الهادي الفضلي. وسعى لسحب وكالته الشرعية من علماء دين في القطيف، اعتبرهم ”منحرفين عقائدياً“، مثل الشيخ حسين المصطفى.
هذا المنهج الإقصائي الذي توسم الدين في حروب مرجعية وحزبية ضيقة، ربما استخدم فيها التبريزي دون دراية ووعي منه، وأدارتها شخصيات من حاشيته، مستهدفة أشخاصاً بعينهم، لتسقيطهم اجتماعياً، مستخدمة سلاح ”الفتوى“. كان يدير المعركة من خلف الستار حينها رجل الدين الكويتي عباس النخي، الشخصية ”الغامضة“، صاحب النفوذ الواسع، والعلاقات المتشعبة، والذي كان سابقاً من أقطاب تيار ”خط الإمام“، وأبرز الفاعلين في تنظيم ”حزب الله الكويت“.
هذا التيار ”الإقصائي“، وبعد موت التبريزي اتخذ من آية الله الوحيد الخراساني، مرجعية دينية له. والوحيد الذي يعد أحد أبرز أساتذة الحوزة الدينية في قم، شخصية ذات نزعة ”ما ورائية“ شاطحة، تعتمد على التأويل للنصوص العقدية بطريقة تخرجها عن سياقها ومعانيها.
هو لا يمارس تأويلاً على طريقة المتصوفة، أو العرفاء الشيعة. وإنما يجترح خطابات ذات نزعة تقديسية شعبوية، تفتقد لأي رصانة علمية أو ذوقية.
هاتان المرجعيتان بالتحديد، هما المؤسستان لخطاب ”حراس العقيدة“ الحالي. وهما ما يشير لهما الكاتب أبو السعود بالتبجيل والثناء في مقالته، متهماً ”المجددين“ - وإن كنت أتحفظ على هذه التسمية، حيث إنها تضع شخصيات وتيارات عدة في خانة واحدة دون تمييز بينها - بالسطحية وعدم العلم.
علماء عدة يحضرون كأصحاب مشاريع تنويرية، تختلف منهجيتها البحثية، إلا أنها تنطلق من رؤية فلسفية حديثة، مثل مجتهد شبستري، عبد الكريم سروش، مصطفى ملكيان، عبد الجبار الرفاعي، نصر حامد أبو زيد، محمد أركون، حسن حنفي، جورج طرابيشي، وسواهم من الفلاسفة والمفكرين الذين يمتلكون معرفة لا يمكن حتى لمن يختلف معهم في الرأي أن ينكرها عليهم.
كما أن شخصيات تحديثية من داخل ”البيت المرجعي“، مثل الراحلين السيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، لا أعتقد أنهما أقل فقاهة من التبريزي والوحيد، بل هما أكثر دراية وثقافة منهما للمسائل الحديثة، كما الشعر والأدب والسياسة، والاجتهاد الشرعي - أيضاً - بمعناه الأكثر سعة وعمقاً!.
يقترح الأستاذ سراج أبو السعود في مقالته ”عرض البحوث على كبار المحققين والفقهاء غير المختلف على جلالة قدرهم العلمي والذين يملكون من أدوات التقييم والنقد ما يجعل لآرائهم دعماً للبحث أو تنقيحاً لما به من أخطاء، حينها سيظهر البحث في نسخته النهائية في قالب علمي صرف يبعث الاطمئنان في أذهان الناس ويقودهم إلى تغيير قناعاتهم المغلوطة إن كانت بالفعل كذلك“.
هذا المقترح من شأنه أن يكرس وصاية علماء الدين على المجتمع، ويرسخهم كجهة توكل إليها أمور التفكير والحكم والتفريق بين الآراء. فيما هم بشرٌ يخطئون ويصيبون، ولا قدسية لآرائهم.
من جهة أخرى، يقدم هذا المقترح المجتمع في صورة قطيع غير قادر على التفكير، وكأن أفراده قُصَّرٌ لا بد لهم من ولي، أو سفهاء لا يصلح أمرهم دون ”فقيه“ يسوسهم!
إن وجود تراتبية في التفكير، أو وصاية على العقول، أمر مرفوض، سواء كان من مرجعية دينية أو مدنية أو سياسية.
أبو السعود، وفي عبارته يشير إلى ”الفقهاء غير المختلف على جلالة قدرهم“، وكأنه من البداية يزيح مجموعة لا يراها تمتلك هذه الصفات، في إشارة للعلامة السيد محمد حسين فضل الله، ومن يتبنى أفكاراً مقاربة له. والسؤال هنا: هل هنالك اتفاق تام في الحوزات العلمية، على جنس محدد من الفقهاء بعينه، حتى يمكن الأخذ به قطعياً. وهل هذا الاتفاق تحقق في مرحلة ما على نطاق لم يخرج عنه أحد؟
حتى في أزمنة سابقة، كالفترة التي كان فيها فقهاء ”كبار“ مثل الخوئي والخميني والكلبيكاني والمرعشي النجفي والأراكي والشاهرودي والصدر.. لم يكن هنالك اتفاق تامٌ ناجز على اسم واحد منهم، رغم الشهادة لهم بالاجتهاد المطلق والأستاذية في الحوزة، إلا أنه بقيت مسألة ”المرجعية العليا“ و”الأعلمية“ محل نقاش واختلاف بين العلماء.
إن الإحالة هنا يريدها الكاتب أن تكون لمرجعيات مثل التبريزي والخراساني، والتي هي بدورها ليست محل اتفاق. بل هنالك علماء وأساتذة حوزويون لا يرون فيها ”مرجعية علمية بارزة“، ولا يعدون كونهم ”مقلدين على دراية بالدليل“، كما يعبر عن هذا النوع من ”الفقهاء“ الراحل مرتضى المطهري. حيث يعتقد أن هذا السنخ من العلماء لا يمتلكون أهلية المرجعية، وليسوا ”مجتهدين“ بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو ذات الرأي الذي يتبناه الراحل الدكتور عبد الهادي الفضلي، حيث يشير إليهم بوصفهم ”فقهاء ترجيح“، غاية ما يقومون به هو ترجيح رأي على آخر، دون القدرة على الاجتهاد الحقيقي في المسائل المستحدثة، والتي ترتبط بحياة الإنسان المعاصر.
المرجعيات الروحية لها احترامها، ومن حقها وحق أتباعها أن تكون ناشطة ومؤثرة ضمن مجالها الخاص، دون أن يسلبها أحد هذا الحق الطبيعي. إنما إنسان هذا العصر يتطلع إلى أن يعيش إيمانه الذاتي، وأفكاره الخاصة، وأن ينسج علاقته مع ربه والكون من حوله، دون وصاية من مرجعيات ومؤسسات. لأنه يريد تأسيس تجربته الذاتية ويحقق النجاحات من خلالها. وهو يعتقد أن من حقه أن يختار أسلوب الحياة الذي يناسبه دون دفتر شروط مسبقة ووصفات جاهزة، وهو ما على ”حراس العقيدة“ أن يعوه، أن لا إكراه في الدين أو الإيمان أو التفكير أو الحياة!.