مئات من المرويّات في سيرة الحسين لم يكن لها وجود قبل القرن العاشر الهجري..!
”مئات من المرويّات في سيرة الحسين لم يكن لها وجود قبل القرن العاشر الهجري..!“
هذا هو المختصر البسيط الذي أراد الشيخ علي الفرج قوله في كتابه ”العباس بن علي بين الأسطورة والواقع“. وهو محور محاضرته في منتدى الثلاثاء. وقد يُحمَل هذا القول على محمل التمرير إجمالاً، لكن شياطين التفاصيل جاهزة للانقضاض على كتاب الشيخ الفرج، وعلى الشيخ نفسه، إذا استدعى الأمر..!
الشيخ قال لجمهور محاضرته منذ البداية ”لو اعترض عليَّ أكثرُ الناس؛ يجب عليّ أن أكتب“.. ويبدو أنه ماضٍ في الكتابة. لقد قالها نصاً ”يجب علي شرعاً“ قاصداً التحقيق في سيرة الحسين والذهاب إلى نفي ما علق بها من اختلاقات القرن العاشر الهجري، قرن ازدهار الدولة الصفوية. في ذلك القرن والكلام للشيخ الفرج ”لحق بسيرة الحسين 70% من الروايات المختلقة“.. هذه النسبة صادمة لجمهور الشيعة.. الصدمة بل الصدمات تأتي من تقشير مئات من المرويات التاريخية وصولاً إلى ”قصص شعبية“ بلا لبٍّ ذي حقيقة..!
وضع الشيخ الفرج ”اللهم تقبل منا هذا القربان“ على محك البحث التاريخي، والنتيجة هي انعدام أيّ مصدرٍ تاريخي يُعتدُّ به في نسبة هذه المقولة للسيدة زينب وهي ترفع جسد الحسين المقطوع الرأس على رمضاء كربلاء. استفزّ هذا التقرير واحداً من الجمهور.. احتدّ الكلام قليلاً، واحتد مقدم الحفل، عبدالباري الدخيل، مع المُداخل. ثم ردّ الشيخ بهدوئه ”أنا لا أرفض المعنى.. أنا أرفض الفقرة“.. عبارة قصيرة قالها الفرج، بيد أن الناس لن يرحموه. والمصدومون لن يروا أنه يواجه معلوماتٍ مغلوطة، بل يُريب الناس في عقائد راسخة.. تلك هي المعضلة المرشّحة لمزيد من الجدل والغضب.. والهجوم بدأ عملياً، حسب كلام الشيخ من على المنصّة..!
خيالات حكّائين، انتشرت فأصبحت فلكلوراً شفاهياً بين الناس. بعد زمنٍ طويلٍ استحال الفلكلور تاريخاً مدوّناً في كتبٍ. ثم اعتُمِد هذا التاريخُ المُدوّن بوصفه شأناً عقَدياً صرفاً لا يجوز المساس به. هذا التفكيك المبنيّ على تحقيق تاريخيّ هو ”الجريمة“ التي سوف يُتّهم بها الشيخ علي الفرج في القادم من الأيام، إن لم تكن التهمة قد وُجّهت فعلاً.
”والله العظيم.. سلبيّاتها ضخمة“.. الضمير المتصل في كلام الشيخ يعود على الدولة الصفوية. وفي القرن العاشر تحديداً؛ اختُلقت روايات، ووُضعت خرافات. في ذلك القرن ظهرت كتب ”المجالس“ و”المقاتل“.. إنها أوعية معلومات تلقّفها الخطباء و”الملالي“.. هؤلاء والكلام للشيخ أيضاً ”ليس لديهم خبرة في البحث“.. معنى كلام الشيخ، لا نصه، أن 70% مما يُذكر في الكتب والمنابر ليس أكثر من ”قصص شعبية“، ولا يمكن نسبتها إلى صفحات التاريخ. هذه القصص أُريد منها إبكاء الناس.. إبكاؤهم بالوضع، بالاختلاق.. بل بالكذب.
صوت الشيخ هاديء، ونبرته ليّنة، وابتسامته شفيفة. مع ذلك؛ كان يعي أنه ربما يقول ”كلاماً ثقيلاً على النفس“.. لقد قال ذلك نصّاً وفصّاً..!
”الحسين ثورة إنسانية، لا ثورة شيعية“.. القصص الشعبية غيّبت قيم هذه الثورة، وصبغتها بالبكاء.. البكاء ليس اللبّ.. بل اللبّ هو رفض العبودية وظلم الجبابرة. والدين يُقام بالصدق، لا الوضع، ولا الكذب.. الكذب يُسقط الدين.. الخطباء يوسعون ويوسعون ويوسعون.. حتى يحدث الانفجار..!
وكتاب ”العباس بن علي بين الأسطورة والواقع“ انفجارٌ صريحٌ.. انفجار يسمّي الأشياء بأسمائها. تلك ”مغامرة“ على حد وصف الشاعر عدنان العوامي في مداخلته. وتفكيك للتشابك المعقد بين المخيال الشعبي والسرد التاريخي حسب إشارة مداخلة محمد الشافعي. ومبلغ الحسّاسية عميق في رسم دهشة الشيخ من انبهار فقهاء على مستوى مراجع بقصص لا سند لها ولا أصل في التاريخ.
استشهد الفرج بقصة نزول العباس إلى النهر وشروعه في شرب الماء، ثم رمي الماء بعد تذكره عطش الحسين. إنها قصةٌ راسخة في وجدان الشيعة. وأحد المراجع قال للشيخ الفرج إن العبّاس خُلق لهذا الموقف.. موقف الوفاء. لكنّ القصة لم تُدوّن، تاريخياً، إلا في ”بحار الأنوار“ في القرن العاشر، نقلاً عن كتاب مجهول..!
إنه مأزقٌ أحس الشيخ بعمقه وهو جالسٌ على منصته، وأحس الجمهور به في قاعة منتدى الثلاثاء.. بدا الشيخ وكأنه يُريد انتقاء عبارةٍ دقيقة.. تردّد قليلاً.. ثم قالها صريحة ”المراجع فنّانون في الفقه والأصول.. عوامٌّ في التاريخ والسيرة“.. استفزّ هذا التوصيف بعض الجمهور، فاقترح بعضهم تعديلاً على الصيغة.. ”لنقل غير متخصصين في التاريخ“.. ربّما خفّف هذا الاقتراح بعض سخونة النقاش، لكنّ الشيخ الفرج أشار إلى ما يمكن وصفه تساوياً بين العاميّ والمرجع في فهم وبحث السيرة التاريخية.. لم يقل الفرج ذلك نصّاً، بل هو معنى قوله..!
جاء الشيخ علي الفرج من القديح إلى حيّ التركية؛ ليؤكد على منصة منتدى الثلاثاء مسؤوليته البحثية عن مضمون كتابه الذي صدر في محرم الماضي، وأيقظ غضباً وجدلاً حول استنتاجاته. الأكثر من هذا التأكيد هو تصريحه بوجود سعي لاستئناف التحقيق في سيرة الحسين، بمشاركة مجموعةٍ من الباحثين. تلك مهمة شاقّة في وسطٍ يحمل إرثاً هائلاً من المُمَررِ تمريراً عبر منقولات المؤلفين وارتجالات الخطباء. المنقولات والارتجالات راكمت إفاداتها بعضها فوق بعض، حتى استحالت قصصٌ خيالية جزءاً من الإيمان...!
كان الشيخ هادئاً وباسماً، وكانت الليلة ساخنة، ولسوف تزداد الأمور سخونة، بل حرارة، حين يُثبتُ الشيخ أن المرويات المختلقة حول شخصية السيدة زينب بنت علي أكثر، بكثير، مما أحاط بأخيها العباس...!