منهج النبوة عند الإمام علي بن موسى الرضا
قبل أيام احتفى المسلمون الشيعة بالذكرى السنوية لحفيد النبي الأكرم ﷺ الإمام علي بن موسى الرضا ، وها نحن نحتفي بذكرى سيد الخلق محمد بن عبد الله ﷺ، فأحببت أن أترجم معالم النبوة من خلال ما تركه الإمام الرضا من أقوال. وسنتناول بعضها في هذه الأسطر..
حركة النبوة:
معتبرة علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن الرضا ، قال: ”إِنَّمَا سُمِّيَ أُولُوا الْعَزْمِ أُولِي الْعَزْمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ وَالْعَزَائِمِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بَعْدَ نُوحٍ كَانَ شَرِيعَتَهُ وَمِنْهَاجَهُ، وَتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ . وَكَّلَ نَبِيٍّ كَانَ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ، وَتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ مُوسَى . وَكَّلَ نَبِيٍّ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَمِنْهَاجِهِ، وَتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى أَيَّامِ عِيسَى . وَكَّلَ نَبِيٍّ كَانَ فِي أَيَّامِ عِيسَى وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى وَشَرِيعَتِهِ، وَتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ أُولُوا الْعَزْمِ، فَهُمْ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَ الرُّسُلِ . وَشَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ لَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنِ ادَّعَى بَعْدَهُ نُبُوَّةً أَوْ أَتَى بَعْدَ الْقُرْآنِ بِكِتَابٍ فَدَمُهُ مُبَاحٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ“ [عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 86 - 87].
يؤكد الإمام الرضا في هذا النص «المهم» على حركة النبوّات والشرائع التي سبقت النبي ﷺ حتى اختتمت به، ولأهمية هذا الموضوع وضع الشيخ الكليني في كتاب الكافي فصلاً مهماً يحمل عنوان «الشرائع»، ونحن نحتاج إلى أن نلمّ بهذه الأحاديث حتى نلتقط بعض اللقطات التي تضيء لنا معاني بعض المفردات.
فهذا الحديث الرضوي يختصر جملة واحدة أوردها الإمام الصادق قال فيها: ”ِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً ﷺ شَرَائِعَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى“.
فقد جمع الإسلام كلّه؛ باعتبار أنّ الإسلام كان يتحرك في الشرائع التي أنزلها على رسله، فكلّ رسول من رسل الله كان يحمل الإسلام وهذا ما عبّر عنه النبي إبراهيم : ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131].
وقد حدّثنا القرآن أنّ إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين من قبل، فانطلقت هذه التسمية.. فقيمة الإسلام بين الأديان كلِّها أنه يحتضن في داخله العناصر الأساسية للرسالات السماوية كلِّها ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: 285].
ولهذا تأتي أهمية النص عن الإمام الرضا لترد على شبهة اختلاف العلماء في حقيقة أولي العزم، فقد اختلف علماء المسلمين سنة وشيعة إلى ستة أقوال:
القول الأول: أنَّ أولي العزم هم جميع الرسل؛ ذلك لأنّ العزم يعني الصبر، ولم يبعث الله رسولاً إلا وكان واجداً لملكة الصبر، وقد نُسب هذا القول الى ابن زيد والجبائي وآخرين.
ويشترك مع هذا القول، فرعان آخران:
أ. أنهم أولوا الصبر والثبات. وهم جميع الرسل لأنَّهم جميعاً من أولي الصبر والثبات.
ب. أنهم أصحاب الوفاء بالميثاق، وهم جميع الرسل.
القول الثاني: أنَّ أولي العزم هم مَن أُمروا بالقتال من الرسل، وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وقد نُسب بعضهم هذا القول لابن عباس.
القول الثالث: أنّ أولي العزم أربعة، وهم: إبراهيم وهود ونوح ومحمد، وقد نُسب هذا القول لأبي العالية.
القول الرابع: أنَّهم تسعة وهم: نوح، وإبراهيم، وأيوب، وإسحاق أو إسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وعيسى.
القول الخامس: إنّ أولي العزم هم المذكورون في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
[للأقوال أنظر: مجمع البيان: ج 9 ص 157، جامع البيان للطبري: ج 26 ص 49، الدر المنثور: ج 6 ص 45، فتح القدير للشوكاني: ج 5 ص 27، تفسير الثعلبي: ج 9 ص 26، تفسير الرازي: ج 28 ص 35، الكشاف للزمخشري: ج 3 ص 528، تفسير الميزان: ج 18 ص 218].
القول السادس: أنهم أصحاب الشرائع وهم الأنبياء الخمسة المذكورين في نص الرضا .
وعليه يكون مفاد الآية ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ - بناءً على ما ورد عن الإمام الرضا - هو: فاصبر كما صبر أصحاب العزائم أي الشرائع من الرسل، وأصحاب الشرائع هم الخمسة المذكورون في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾.
الرسول ﷺ يحذر من القومية والعصبية:
لا شك أنّ الاختلاف هو صناعة الخلق في الحياة، ولولاه لما تفتحت أبواب الاستكشاف والتطور، والله يقول موضحاً سر الاختلاف: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، فهدف الإنسانية أن يرقى المجتمع الإنساني إلى مستوى التعارف القائم على أساس قبول الاختلاف والتنوع.
بل إنّ الآية تعتبر أنّ التقوى في العمق هي الانسجام مع هذا التنوع والتي تعكس علاقة متميزة مع الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلا إذا اقتنعنا بأنّ الاختلاف والتنوع يمثل نقطة قوة لا نقطة ضعف، الأمر الذي ينعكس احتراماً للاختلاف مع الآخر، وعندها تبدأ بالبحث عن سبل التعاون.
وعلى هذا الأساس ليس هناك تشريع للعرب يختلف عن التشريع للفرس أو الكرد أو الترك أو غيرهم، بل هو تشريع موحّد يتساوى فيه الجميع، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
ولكن نقف على بعض النصوص التي تأخذنا إلى تساؤلات عميقة، تخالف المنهج الذي خطه القرآن الكريم، وسار على منهاجه الرسول الأكرم والأئمة المعصومين .
فقد جاء بسند صحيح عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن الرضا، عن أبيه، عن جدّه، عن آبائه : ”أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُحِبُّ أَرْبَعَ قَبَائِلَ: كَانَ يُحِبُّ الْأَنْصَارَ، وَعَبْدَ الْقَيْسِ، وَأَسْلَمَ، وَبَنِي تَمِيمٍ. وَكَانَ يُبْغِضُ: بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي حَنِيفٍ، وَبَنِي ثَقِيفٍ، وَ بَنِي هُذَيْلٍ. وكان ﷺ يقول: لَمْ تَلِدْنِي أُمّي بَكْرية ولا ثقفيه، وَكَانَ C يَقُولُ: فِي كُلِّ حَيٍّ نَجِيبٌ إِلَّا فِي بَنِي أُمَيَّةَ“ [الخصال: ج 1 ص 256 ح 46].
ونجد مثل ذلك في أحاديث السنّة أيضاً، فقد روى الحاكم النيسابوري بسنده، عن أبي برزة الأسلمي قال: ”كَانَ أَبْغَضَ الأَحْيَاءِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو حَنِيفَةَ، وَثَقِيفٌ“ [المستدرك: ج 4 528 ح 8482]. وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعلّق الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
وذكره ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: عن أبي برزة قال: ”كان أبغض الناس أو أبغض الأحياء إلى رسول الله ﷺ ثقيف وبني حنيفة“. رواه أحمد وأبو يعلى، وزاد إلا أنه قال: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة. وكذلك الطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير عبد الله بن مطرف بن الشخير وهو ثقة.
وجاء في رواية الترمذي: ”مات النبي ﷺ وهو يكره ثلاثة أحياء: ثقيفاً، وبني حنيفة، وبني أمية“.
فهل كان رسول الله ﷺ يحمل أفكاراً قبلية أو قومية، ويتخذ من مواقفه على ضوء ما يحمله من أفكار؟!
أولاً: الروايات الواردة عنه ﷺ تؤكد على بغضه للعصبية [الكافي: ج 2 ص 307]؛ فعن علي بن الحسن بن فضال، عن أب الحسن علي بن موسى الرضا ، قال: حدّثني أبي، عن آبائه، عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: ”دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلَكُمْ الْبَغْضَاءُ وَالْحَسَدُ“ [عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 279].
فالنبي ﷺ يتحدث، وهو يراقب أمته التي أراد أن يبني لها قاعدتها على المحبة والتراحم، ليصنع منها أمة متحابة ومتآخية، تتكامل في طاقاتها، وتتوحد في مواقفها، ولكنه ﷺ رأى أنّ بعض الناس من حوله يعيشون البغضاء من خلال عصبية عائلية أو شخصية أو ما إلى ذلك من العصبيات التي تثير الحقد في النفوس.
فيرى ﷺ في خطابه للأمة أنّ هذا المرض الذي أردت أن أنقذكم منه، قد دبّ إليكم، فأصبحتم تتباغضون وأنتم المسلمون، وتتحاقدون وأنتم المؤمنون، يحمل كل واحدٍ منكم روح التدمير والإسقاط للآخر، فأصبحتم تحسدون بعضكم بعضاً، ويتحرك الحسد من أجل أن يدفعكم للبغي على بعضكم البعض، ولو كنتم مؤمنين جيداً، لعرفتم أنّ الله تعالى إذا أعطى بعضكم نعمة، فإنّه يمكن أن يعطيكم هذه النعمة من دون أن يزيلها عن الناس الآخرين، فلماذا تضيّقون رحمة الله.
وقد انعكس كلُّ ذلك سلباً على الواقع الإسلامي العام الذي سيطرت عليه العصبيات المنتجة للبغضاء والمثيرة للحسد، فتحرّكت السلبيات النفسية والكلامية والحركية على كل صعيد، فلم يعد الحوار والجدال بالتي هي أحسن هو الطابع الذي يتمثّل فيه الاختلاف الفقهي والكلامي والاجتماعي، بل أصبح الطابع طابع التكفير والتضليل والسباب والشتائم، مما ينطلق فيه الحقد والحسد ليعبّر عن نفسه بهذه الوسائل الخبيثة.
ثانياً: يعتبر العامل القومي أحد العوامل القوية في وضع الحديث؛ وهنا ننقل كلاماً نفيساً للإمام السيد علي السيستاني - دام ظله - في هذا الشأن حيث يقول: ”فقد كان بين الشعوب الإسلامية تفاخر وتباغض مع أنّ أساس الفضيلة في الإسلام هو التقوى كما في الآية الشريفة، ولكن هناك تفاخر بين الشعوب وخاصة في تلك الفترة، مما أدّى إلى وضع بعض الروايات التي تتضمن ذم شعب ومدح آخر، فكثيراً ما نجد في كتب الرجال كتباً تحت عنوان «كتاب فضل العرب على العجم»، و«كتاب فضل العجم على العرب». وورد في الروايات أيضاً فقد جاء في مصادر متعددة كالكافي والتهذيب والفقيه والعلل عن أبي الربيع الشامي - وسند الفقيه إليه صحيح - عن أبي عبد الله C قال: «لا تخالط الأكراد فإنّ الأكراد حيّ من الجن كشف الله عنهم الغطاء»، وأبو الربيع لم يوثق. وفي الوسائل أيضاً باب تحت عنوان «كراهة مناكحة الزنج والخزر والخوز والسند والهند»، وفيه «لا تسبوا قريشاً ولا تبغضوا العرب ولا تذلّوا الموالي»... والعجب أن يتسرب أمثال ذلك إلى الكتب الفقهية والرسائل العملية، فيفتي الشرائع والجواهر والوسيلة بكراهة معاملة الأكراد، مع كونهم في الغالب من المسلمين بل من الشيعة وفيهم الأعاظم والعلماء. وفي روايات أهل السنة وردت أحاديث في ذم الأتراك وربما كان هدف بعض الوضاعين من وضع هذه الروايات التي تذم بعض الشعوب، ونسبتها لأئمتنا المعصومين لأجل أن يشمئز أبناء تلك الشعوب من التشيع، وفي بعض روايتنا يشير إلى أنّ وضع الأحاديث لأجل ذلك“ [تعارض الأدلة واختلاف الحديث: ج 1 ص 362 - 362].
وفي الحديث المعتبر قال إبراهيم بن أبي محمود، قلت للرضا : ”إنّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين وفضلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أفَنُدين بها؟ فقال:“ يابن أَبِي مَحْمُودٍ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ 2 قَالَ: ”مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلٍ فَقَدْ عَبَدَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ“.
ثُمَّ قَالَ الرِّضَا C: ”يابن أَبِي مَحْمُودٍ: إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا: التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا: التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا. فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهم إِلَى الْقَوْلِ بِرُبوبِيَتِنَا، وَإِذا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعتقدوه فِينَا، وَإِذا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجِلَ: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. يابن أَبِي مَحْمُودٍ، إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالًا فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا فَإِنَّ طَرِيقَتَنَا هِيَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهِيَ الْمَحَجَّةُ الْبَيْضَاءُ وَهِيَ الْجَادَّةُ الْوُسْطَى، فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ، وَمَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ، إِنَّ أَدْنَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ نَوَاةٌ ثُمَّ يَدِينُ بِذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، يابن أَبِي مَحْمُودٍ احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ“ [عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 272].
وقد صرّح الإمام السيد حسين البروجردي رحمه الله مثل هذه الأمور وذهب إلى أنّ: ”الأصل الأول في أغلب الأخبار والروايات الواردة في مدح وذم البلدان، وفي خواص الفاكهة، وفضائل الأفراد والأيام، هو عدم الحجية؛ لأنّها موضوعة من جانب الشيعة والسنّة لما يحقق مصالحهم“ [فلسفة الفقه: ص 59].
ثالثاً: تحقق في كثير من النصوص أنّ الإيمان قولٌ وعمل. ولا علاقة لقرابة أو عرق أو لون في الإيمان؛ فقد روى الإمام الرضا عن رسول الله ﷺ: ”الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ“.
فالإيمان هو أن تعقد قلبك منفتحاً على الله، وأن ينطق به لسانك، فلا يكفي أن تعيشه في عقلك، بل لا بد أن تؤمن في هدى قوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 13]. وهو ليس في نبضات القلب ولكنّه في حركة الواقع ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31].
إذاً كيف نؤول النص النبوي في بغض النبي لبعض القبائل؟
نعلم أنّ البغض موقف إنساني أو سياسي بحد ذاته، وإذا تم طرحه بكيفيته السابقة سيكون تحيزاً لا مبرر له، ومن هنا لا بد من تسليم الضوء على النصوص التاريخية بشكل عام، واستخراج أنماط سلوك وأخلاقيات القبائل بشكل مدروس، وهذا بلا شك سيوضح خفايا هذا الموقف.
ولا يمكننا أن نتصور بأنّ رسول الله ﷺ كان يبغض تلك القبائل من أجل العصبية أو القبيلة وهو الذي حذّر من تناول هذه الأمور غاية الحذر، في نصوص كثيرة [الكافي: ج 2 ص 307].
ولذا حاول المباركفوري توجيه هذه النصوص حيث قال: ”قال القاري في المرقاة نقلاً عن الأزهار: قال العلماء إنما كره ثقيفاً للحجاج، وبني خليفة لمسيلمة، وبني أمية لعبيد الله بن زياد. قال البخاري: قال ابن سيرين أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست وجعل ينكته بقضيب. وقال الترمذي في الجامع قال عمارة بن عمير لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه في رحبة المسجد فانتهيت إليهم فقالوا قد جاءت فإذا حية قد جاءت حتى دخلت في منخر عبيد الله بن زياد فمكثت ساعة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. انتهى ما في المرقاة“ [تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي للمباركفوري: ص 4535].
وإن كنا نعتقد بأنّ فتن بني أمية فاقت وفاضت، والأحداث التاريخية كثيرة لا حاجة بنا إلى التفصيل، ولم يكن الأمر خاصاً بعبيد الله بن زياد فقط.
أيها الأحبة..
إنّ القرابة وحدها لا تعطي الإنسان فضلاً قيمياً، بمعنى أن تكون قيمته أكثر من الناس الآخرين، فأبناء رسول الله ﷺ قد تكون لهم قيمة النسب، ولكنّ النسب لا يمثل قيمةً في الإسلام، وهكذا نجد أنّ أهل البيت لا يريدون أن يؤكّدوا على أنّ الانتساب قيمة تجعل إنساناً ما أفضل من بقية الناس؛ لأنّ النسب شيء لم نختره، وإنما هو شيء عشناه، وإنّ ما نختاره هو عملنا وطاعتنا لله ”إِنَّ وَلِيَّ مُحَمَّدٍ مَنْ أَطَاعَ اللهَ وَإِنْ بَعُدَتْ قَرَابَتُهُ، وَإِنَّ عَدُوَّ مُحَمَّدٍ مَنْ عَصَى اللهَ وَإِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ“.
وقد قال بعض أصحاب الرضا : كُنْتُ مَعَ الرِّضَا فِي سَفَرِهِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَدَعَا يَوْماً بِمَائِدَةٍ لَهُ، فَجَمَعَ عَلَيْهَا مَوَالِيَهُ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَوْ عَزَلْتَ لِهَؤُلَاءِ مَائِدَةً؟ فَقَالَ : مَهْ إِنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاحِدٌ، وَالْأُمَّ وَاحِدَةٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَالْجَزَاءَ بِالْأَعْمَالِ".
وقد تكلم معه بعض أصحابه بما تكلم به هذا الشخص، فقال له : ”حَلَفْتُ بِالْعِتْقِ أَلَّا أَحْلِفَ بِالْعِتْقِ إِلَّا أَعْتَقْتُ رَقَبَةً، وَأَعْتَقْتُ بَعْدَهَا جَمِيعَ مَا أَمْلِكُ إِنْ كَانَ يَرَى أَنِّي خَيْرٌ مِنْ هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى عَبْدٍ أَسْوَدَ مِنْ غِلْمَانِهِ - بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِي عَمَلٌ صَالِحٌ فَأَكُونَ أَفْضَلَ بِهِ مِنْهُ“.
إنَّ هذه الوصايا، هي الذي يقرّبنا من الله زلفى، وهو الذي يجعلنا نسير في الصراط المستقيم.
وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حينما وصف رسول الله ﷺ فقال: ”طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ؛ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ“.
وفي ذكرى وفاة رسول الله، علينا أن نتحسس مسؤوليتنا عن الإسلام كله، لأنّ المسلمين بأجمعهم معنيون أن يعملوا في سبيل أن يكون الإسلام قوياً في كل ساحات الحياة، وأن نعمل جميعاً من أجل أن لا نرى ثلماً في الإسلام ولا هدماً، أن نعمل على أساس الوحدة بين المسلمين، وأن نكون صفاً كالبنيان المرصوص في مواجهة كل التحديات والأوضاع الصعبة.