نزعةالقولبة
ثمة اعتقاد خاطىء منغرس في نفوس البعض، وهو أن التباين في الرؤى والاختلاف في النهج والتوجه الفكري أو العقدي، كفيل بإيصاد أبواب التواصل والحوار وعدم مد جسور التواصل. وهذا أمر يؤسس لثقافة الحقد والكراهية بدلاً من تأسيس ثقافة الحب والود.
التباين في الرأي والاختلاف في الفكر باعث حقيقي على انتهاج سبيل الحوار، إذ الحوار لا موضوعية ولا شأنية له إن لم تكن ثمة مادة خلافية، من خلالها يجلس المختلفون على مائدة الحوار، لعلهم يتمكنون من ردم هوة الخلاف وفجوة التباين ورتق الفتق، أو البحث عن المساحات المشتركة مع الآخر المختلف ومواطن الالتقاء، أو على أضعف الإيمان إزالة الحواجز النفسية بين المختلفين، أو معرفة كيف يفكر الآخر المختلف؟ وفيم يفكر؟ وعلام يفكر؟ ولم يفكر؟
من هذه المنطلقات مازال نهر الحوار مع صديقي _ الذي أختلف معه في الرؤى _ جاريا ومستمرا، وعلى نفس الوتيرة من الاحترام المتبادل، حيث اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
بدأنا الحوار، وبدأه صديقي بالتالي:
في حواري معك سأحاول اقتحام التابوهات التي تغلف حقيقة تفكيرك، وتجاوز الخطوط الحمراء، لعلي أكتشف الواقع الحقيقي لمتبنياتك المعرفية وأنساقك الثقافية وتوجهاتك الفكرية، وبالتالي تتضح لي صورتك الحقيقية دون ضبابية أو تشويش.
وهذا ليس من السهولة بمكان الوصول إليه إلا بنزع كفوف المجاملة. حيث المجاملة تقف عائقا من الوصول إلى حقيقة توجهاتك الفكرية، ولذا يجب الصبر علي ولا تضيق ذرعا من أسئلتي المحرجة.
وعلى هذا أرجو منك أن تكون شفافا وصادقا دون مراوغة أو مواربة في إجاباتك.
وأول سؤال أوجه إليك في هذا الحوار، هو:
هل أفكارك ذات صبغة دينية أم ذات توجهات تميل إلى اللبرلة أو العلمنة أو الحداثية ونحو ذلك من الصرعات الفكرية المختلفة؟
فابتسمت، وكانت إجابتي على تساؤله، هي:
أنا أؤمن بالعلم والمعرفة والثقافة والفكر والعمل والبناء والتطوير والعقلانية والمصداقية.
فقال: الواضح منذ البداية أنك تتهرب من الإجابة واللجوء إلى المراوغه والمواربة.
فقلت له: إذن سأجيب على تساؤلك بطريقة آخرى:
قال الله تعالى: «و قل رب زدني علما».
«إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون».
«و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير».
«إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون».
«أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى».
«و اجعل لي لسان صدق في الآخرين».
بقليل من التأمل والتفكير والتدقيق في الآيات القرآنية السالفة يتضح لنا أن المفردات التي قلت بأني أؤمن بها «فكر وعقل وعلم وعمل وصدق» يحفل بها القرآن ويحث على الاتسام بها.
فإذن أين المراوغه والمواربة التي اتهمتني بها يا صديقي؟ أعتقد بأن الصورة الآن باتت واضحة لا يكتنفها ضباب أو غبار.
ثم وجه لي سؤالا آخرا، وهو:
ألا تلاحظ بأنك تسعى حثيثا في كتاباتك على فرض قالب فكري واحد على المجتمع، وكأنك وصي عليه؟
وكان جوابي هو: المجتمع ليس بالإمكان قولبته في قالب فكري أو فلسفي أو معرفي أو عقدي أو فقهي واحد. وهذا أمر ملموس بالوجدان، إذ نلمس الاختلاف والتباين في الرؤى الفكرية والفقهية ونحو ذلك بكل وضوح. وهذا الاختلاف نلمسه في الوحدة الاجتماعية الصغيرة _ وأقصد الأسرة _ فهل من المعقول التفكير في قولبة مجتمع بقالب فكري أو فلسفي واحد؟!!
ولكن هناك خطأ يقع فيه بعض المتدينين _ وأعتقد بأنك ليس من هؤلاء _ إذ يعتقدون بأن وظيفتهم الشرعية هي العمل الجاد على قولبة الناس على قالب فكري أو فلسفي أو فقهي واحد، وهذا أمر محال. وبسبب قلة زاد هؤلاء المتدينين المعرفي وعدم معرفتهم بحركة التاريخ والعوامل المؤثرة في نشوء الظواهر يصرون على المضي قدماً في هذا السبيل.
صديقي العزيز:
إن العامل الرئيس وراء حركة الارتداد عن الكنيسة في عصر النهضة وعصر التنوير هو إجبار الكنيسة المسيحيين على انتهاج قالب واحد من التفكير إزاء تساؤلات الإنسان الكبرى التي هي موضع تحفيز للعقل الإنساني على بناء متواليات فكرية.
صديقي العزيز:
الكثير من أفراد المجتمع الآن يرفض تعليب المفاهيم الدينية. وهناك جيل جديد يحمل جينات ذات طبيعة تتسم بالنقد والتساؤل ومتعطشة للمعرفة، لا يقبل القولبة والتعليب، ويرفض أن يكون حبيسا في قالب واحد مفروض عليه، أو أسيرا لفلسفة حياتية ترسم له من الآخرين دون أن يكون له دور يذكر.
صديقي العزيز:
هذا الفئة من المتدينين التي لا تقرأ حركة التاريخ ولا تجيد التمييز بين الثابت والمتغير نستطيع أن نصفهم بالتيار اللاعقلاني. فهل هذا التيار _ الذي يعمل على تحجيم دور العقل وقيمته بدلاً من تأصيله ويسعى لتأصيل القولبة والتعليب وإقفال أبواب التفكير النقدي _ قادر على بناء مجتمع يتسم بالعقلانية والروح النقدية؟!!
أعتقد بأن هؤلاء أصحاب نزعةالقولبة يسيرون بالمجتمع نحو الظلام الدامس والتخلف والانحدار الفكري والمعرفي.