الخصومة - أدب الخلاف «8»
تأجيج الخلاف العوامي على خلفية أزمته الراهنة، ودق إسفين الفتنة بين أطيافه واتجاهاته وخطوطه الثقافية والفكرية اعتماداً على أساليب ملتوية تعمل على إثارة الأحقاد والعصبيات وتوظيفها في تشكيل اصطفافات حزبية وفئوية تتحرك في خط البغي والعدوان، ينذر بإدخال الساحة الاجتماعية في أتون خصومات بينية، وعداوات فئوية، تقلب الأولويات، وتشحن النفوس، وتستنزف الطاقات في مواجهات عبثية يخسر فيها المجتمع وحدته وقدرته على الاستجابة للتحديات التي تفرضها المرحلة المقبلة.
ولا يفوتك أن الخصومة ومخاصمة أي شخص أو اتجاه أو جماعة، والاستغراق في منازعة المؤمنين وعداوتهم، وإيغار الصدور وتأليب الأوضاع ضدهم، لإضعافهم، أو إزاحتهم، أو الانتصار عليهم مادياً أو معنوياً، مما ينتهي غالباً إلى الخروج عن جادة الشرع الحنيف، واقتراف جملة من التعديات المحرمة التي تدخل تحت حد البغي والعدوان، والتي تقدمت الإشارة إلى بعضها في ما تقدم.
وقد شدد القرآن الكريم والروايات الشريفة النهي عن الخصومة بين الإخوان، وحذر من عواقبها السيئة التي تنحرف بأصحابها عن الموازين الشرعية والأخلاقية وتهوي بهم إلى حضيض الفجور ومستنقعاته الآسنة، التي تلوث المناخ العام بالأخلاقيات القبيحة، وتذهب بقيم الإخاء والمحبة، قال سبحانه وتعالى: «وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».
قوله تعالى: «وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» تكليفٌ موجهٌ لكم أيها المؤمنون، بأن تتمسكوا بالأوامر الإلهية والحدود الشرعية والوصايا النبوية، في كل ما ينزل عليكم من المتغيرات الطارئة والحوادث الواقعة، المرتبطة بأوضاعكم وأمنكم وشؤونكم، وتتجنبوا كل الرؤى والأفكار والمواقف التي تدفعكم إلى الارتجال أو الانفعال في مواطن الضغط والاهتزاز، فإن الطاعة لله والرسول ﷺ هي حبل عصمتكم ونجاتكم، وهي العروة الوثقى التي إن استمسكتم بها كُفيتم شرور الخلافات والنزاعات التي تذهب بقوتكم ووحدتكم.
وقوله تعالى: «وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» نهيٌ وتحذيرٌ لكم من أن تتنازعوا أو تتخاصموا في قضاياكم الدينية أو أوضاعكم الاجتماعية، فتنشغلوا بالخصومة عن أهدافكم الكبرى وقضاياكم المفصلية، وتذهبوا بقوتكم ووحدتكم، التي بها قوام أمركم وصلاح شؤونكم.
وجاء في كلمات أئمة الهدى التحذير من الخصومة وآثارها السلبية، فعن أبي عبد الله : ”إياكم والخصومة في الدين، فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن، وتستجيز الكذب“ تحذيرٌ من مغبة الخصومة بين الإخوان، وإيقاظٌ إلى إفرازاتها السيئة التي تسلب من صاحبها نور الإيمان، وتدفعه في خط الفجور والنفاق والرذيلة.
والوجه فيه أن الإيمان الذي يكمن في التسليم للحق والدخول في ولاية الله والخروج من الأنانيات والعصبيات، مثله كمشكاة تشع منها أنوار الولاية، لتنبسط في المؤمنين محبةً وقرابةً وأمناً وإخاءً، والدخول في الخصومة هو خروجٌ عن ذلك كله ودخولٌ في الأنانيات والعصبيات التي تورث الضغائن والنفاق والتلون في الأفكار والمواقف سراً وعلانية، بحسب ما تقضيه المصالح الذاتية والفئوية.
وبمجرد أن تستحكم هذه الطبيعة الشريرة على النفس يفسد الإيمان، وتتلوث هيئته الروحية النقية التي تفيض صدقاً ومحبةً وجمالاً، وتظهر معها حقائق النفاق التي تنقض الإيمان وتحبط الأعمال، إلى أن تصبح تلك الطبيعة متسلطة تستمرئ الفجور والرذيلة، وتستطيب التسقيط والتشهير والبغي والعدوان، وتستسيغ الكذب والبهتان والنميمة توصلاً إلى غاياتها الرخيصة ومآربها الدنيئة.
وعن الإمام الكاظم : ”مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم، ويدعوا الخصومة في الدين، ويجتهدوا في عبادة الله عز وجل“. وفيها دعوةٌ إلى نبذ الخصومة والكف عن تأجيج الأحقاد والعداوات بالكلمة السلبية المسيئة، التي تشغل المؤمنين عن الصالحات، وحثٌ على الانشغال بالعبادة بما تمثله من علاقة إلهية تتحرك في خط المسؤولية والتكامل الروحي والقيمي.
ويتضح مما سبق أن كل المواقف والكتابات السلبية المُسيئة التي تصب في خانة التعبئة والشحن وإشعال النزاعات والعداوات والتأليب ضد المؤمنين، تندرج تحت عنوان الخصومة بين الإخوان، فتدخل تحت النهي الوارد في الأدلة.
وانطلاقاً مما تتقدم نوصي بما يلي:
1 - ضرورة تجنب الكتابات السلبية المسيئة التي تؤجج الأحقاد والعداوات، والكف عن كل أساليب التعبئة والشحن والتأليب ضد المؤمنين.
2 - ضرورة تجنب الانزلاق في الخصومات والعداوات، والانشغال بالأعمال والمشاريع التي تساهم في بناء المجتمع وتكامله روحياً وقيمياً.
3 - ضرورة نشر قيم المحبة والإخاء والترابط بين المؤمنين.