آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

عندما أصبحت أخرساً

محمد معتوق الحسين *

أفقت صباح ثاني أيام عيد الأضحى على مفاجأة غير سارة. فجأة اختفى صوتي! لم أعد قادراً على نطق أي كلمة.

لم أتوقع أن يتطور الاحتقان في حلقي والكحة المتكررة إلى حالة شبيهة ب ”الخَرَس“. بالكاد كنت أهمس بضع كلمات مستعيناً بالكثير من الإشارات التي رسمتها بيدي للتعبير عما أريد قوله، غير مصدق أنني لا أقوى على.. الكلام!

ولكنني أحب الكلام. أحب الحوارات المطولة مع أبنائي وأهلي حول الأمور الهامة.. والتافهة أيضاً. أحب أن أخاطب أصدقائي هاتفياً لأسأل عن أحوالهم. وأشتاق للحديث إلى متابعيَّ في انستجرام «لايف» ومشاركتهم بعض ”فلسفتي“ التي يتحملونها مشكورين. كل هذا اختفى فجأة. وإلى متى؟ لا أدري.

ذهبت إلى مقهاي المفضل في الظهران، متناسياً هذه الإعاقة المفاجئة التي ألمّت بي. وعندما حضر النادل، اضطررت مجدداً للهمس واستخدام لغة الإشارة. وعندما فرغت من الأكل، حاولت أن أناديه ليرفع الصحون الفارغة، ولكن دون جدوى، رغم أنه كان على بعد مترين فقط. لا فائدة من الهمس في مقهىً مكتظ.

ولعلّ قمة المعاناة كانت حين استلمت عبر «الوتساب» رسالة صوتية من صديق قديم ابتلاه الله بفقد بصره. لا أدري لماذا قرر ذلك الصديق الضرير الذي لم أقابله ولم أخاطبه هاتفياً منذ أكثر من عشر سنوات أن يبارك لي فجأة بعيد الأضحى عبر رسالة صوتية. كيف أرد عليه الآن؟ كيف أكافئ كرمه حيث خصني برسالة صوتية رغم زحمة رسائل العيد؟ تباّ لعجزي. هل أرسل له صورة معايدة؟!

مر يوم ونصف قبل عودي صوتي تدريجياً والحمد لله. إلا أنها كانت تجربة جديرة بشيء من التأمل.

.. لن تحصوها

نعلم أن نعم الله لا تُحصى، على الأقل نُدرك ذلك من الناحية النظرية. ولكننا نميل إلى التعامل مع هذه النعم وكأنها مضمونة على الدوام، مما يجعلنا نقلل من أهميتها. ننهض من الفراش صباحاً، ولا نتفكر أن الملايين عاجزون عن الوقوف. نشاهد منظراً خلاباً، ولا نحمد الله على نعمة البصر التي مكنت حدوث تلك الدهشة. وقد ننسى أن الابتسامة - على بساطتها - تشارك فيها عشرات العضلات في الوجه، كلها تتمدد أو تتقلص لتشكل هذه الرسمة البديعة.

إن قلة التفكر في نعم الله تنسينا روعتها، وتفوّت علينا استحضار السعادة بوجودها. وقد نغفل عن توفر كل الضرورات في الحياة، وننشغل بالتفكير بأمور قليلة ناقصة، فنشعر بتعاسة زائفة، ونحسب بسذاجة أننا مساكين معذَّبين. روي عن النبي ﷺ: ”من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها“.

ما رأيك أن تصبح معاقاً؟

قم بالتجربة التالية: اغمض عينيك لمدة 15 دقيقة، ثم حاول أن تزاول حياتك بدون بصر. 15 دقيقة بالضبط «لا تغش!». حاول أن تمشي إلى المطبخ، وتأكل الطعام، ثم تستخدم الحمام، وتستخدم الجوال. فقط لا تحاول المشي بالشارع «أو قيادة السيارة على كل حال».

هناك مفهوم في علم النفس اسمه «النفور من الخسارة loss aversion» وهو يعني أن الناس يميلون إلى تجنب الخسائر أكثر من جني المكاسب. لذلك فإن الخوف من خسارة شيء يزيد من قيمة ذلك الشيء في ذهن الإنسان.

وبالتالي، إذا تخيلت أنك ستخسر أي شيء مهم في حياتك «البصر مثلاً»، فإن قيمة ذلك الشيء ستزيد في ذهنك وستقدره أكثر من السابق. تخيل أن شخصاً عزيزاً عندك مات «أطال الله أعماركم جميعاً»، وتخيل كل تفاصيل خسارتك له، سبب الوفاة، العزاء، زيارتك لقبره... ستجد أنك سشتاق لذلك الشخص أكثر من السابق، بل قد ترغب بلقائه فوراً، وقد تضمه إلى صدرك.

لذلك أجدني اليوم أقدر نعمة الكلام أكثر من السابق!

ماذا لو فقدتها؟

ولكن كل شيء في هذه الدنيا مؤقت وزائل. الصحة والأهل والصحبة والمال، كلها ستزول، ويبقى ما هو لله نُكافأ به في الآخرة إن شاء الله. وكما قال الشاعر: ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ، وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائِلُ. لذلك من المهم أن نتذكر عدم ديمومة الحياة، وبالتالي، عدم ديمومة النعم. إدراكنا لهذه الحقيقة يجب أن يدفعنا للاستفادة المثلى من هذه ”اللحظة“ التي اسمها الحياة.

نحن كطفل في مسابقة مدرسية، أعطته المعلمة أدوات وطلبت منه أن يبني مجسماً جميلاً خلال وقت محدد. إذا انقضى الوقت، تُسحب الأدوات، وتقيّم المعلمة العمل. الطفل يعلم أن المدة محدودة، وبالتالي يحاول الاستفادة من كل ثانية.

في 3 دقائق

بالنظر إلى معدلات البشر، فأنت استغرقت في قراءة هذا المقال حوالي 3 دقائق، بقيت فيها على قيد الحياة.. رمشت 18 مرة.. تنفست 48 مرة.. ونبض قلبك 240 مرة..

فإن لم تكن أخرساً.. كم مرة ستقول "الحمد لله"؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
مريم
4 / 9 / 2017م - 6:04 م
الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه