أهمية الدور التربوي للأبناء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1] .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
﴿المالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَياةِ الدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾[2] .
من نعم الله علينا أن وهبنا البنات والأولاد لتستمر مسيرة الإنسان على ظهر هذا الكوكب.
إن حسن التربية أيها الأحبة من أفضل الأمور العبادية في دار الدنيا التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى. ولنسأل أنفسنا: كم نشغل أنفسنا في سبيل تحصيل التربية الصالحة لأولادنا؟ البعض منا ربما يجنح إلى العبادات ذات الطابع التمظهر على حساب العبادات الأصيلة، فبناء ابنٍ أو بنت بناءًَ صالحاً أفضل من ألف ركعة وركعة، وألف يوم يحبس الإنسان فيه نفسه في صيام تطوعي، وعلى ذلك فقس ما سواه.
إن تربية الأبناء والبنات واحدة من أهم الضرورات التي ينبغي أن ننتبه إليها ونعطيها ما تستحق من أوقاتنا وجهودنا والتفاتنا، فالحياة اليوم مشرعة الأبواب على الكثير من الطرق والاتجاهات، فما لم نضع القواعد المحكمة ونبني عليها فسوف ينهار البناء ولو بعد حين.
ولنا أكثر من مثال ومثال عاشته البشرية ضرب أروع الأمثلة والتجسيدات العملية خارجاً، وأثمر عن نتائج طيبة. ولو أنني هنا ذكرت الإمام علياً والزهراء كمثال على ذلك لقيل لي: إن المعصوم هنا حاضر، والنشء المعصوم المتمثل بالإمامين الحسن والحسين حاضر أيضاً، وكذا الحال في زينب التي نشأت في هذا البيت ووسط تلك الأجواء، وهي المرأة الاستثنائية التي اختصت بأمور لم تكن لغيرها إلا في ما تقدمت به النساء الأربع بمفاد النص الشريف.
في ليلة الأحد القادم تحل ذكرى وفاة أم البنين وهي وإن كان يروق للبعض أن ينعتها بالمرأة العادية، وهذا شأنه، وهي امرأة عادية حقاً إذا ما أخذت من زاوية التولد والتكوّن، لكنها عندما أضيفت إلى بيت علي أخذت خصوصيتها وتقدمها على الكثير من النساء.
قد يقول قائل: كثير هنّ النساء اللاتي أُضفن إلى بيوت الإمامة فما ازددن إلا عتواً ونفوراً، كجعدة بنت الأشعث التي قتلت الإمام الحسن، أو أمثالها من النساء. فنقول: يجب أن ننظر للأمور على أساس الموجب والمقتضي، فرفع الموانع أمر مهم، وقابلية في التلقي. وأم البنين فيها هذه الخصوصية وهذا الامتياز على الكثير من نساء عصرها، لذلك قدمت أروع الأمثلة في التربية، في أبناء أربعة كُمّل كالنجوم، والعباس القمر بينهم. والعباس كان يُنعت بالعبد الصالح، وهذا النعت لبعض الأنبياء والرسل. وقد ضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء وكان ذلك على أساسين: المنبع الأصيل، حيث الإمام علي هو الأصل في ذاته وتكونه، ثم الحضن الطيب الطاهر أم البنين، فاطمة بنت حزام، وهي امرأة جليلة في أعلى مستويات التربية والشعور بالمسؤولية، والمعرفة بمقام المعصوم.
من هنا أقول: إننا عندما نطلب من المرأة اليوم أن تأخذ من الزهراء أنموذجاً تقول: إن الزهراء معصومة، وأين نحن من المعصومين؟ فماذا تقول لو طلبنا منها أن تأخذ من فاطمة بنت حزام؟ هل تقول: إنها معصومة أيضاً؟ فهذه ليست معصومة، إلا أن سيرتها وعطاءها وأدبها وحضورها كان في غاية التميز، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الحاضنة لها كانت على مستوى عالٍ من الإعداد أيضاً. فعلينا أن نستفيد من تلك السيرة العطرة.
أقول للجميع، لا سيما الأخوات الفاضلات: لا يكفينا اليوم أن نحضر «السفرة» لأم البنين ليكون فيها ما لذ وطاب، إنما علينا أن نقرأها كما ينبغي، ولتكن «السفرة» رابطاً مادياً يدفعنا لحراك معنوي في الداخل، والثاني هو الهدف.
وأقول هنا مؤكداً: إذا كانت «سفرة» أم البنين تقوم بها المرأة من مال لم تجز فيه فهي آثمة، أو أنها أجبرت زوجها على القرض فهي آثمة، وأم البنين لا تتقبل منها ذلك، أما إذا كان من خالص مالها، أو مما جاز لها التصرف فيه، أو تعاون فيه المؤمنون والمؤمنات فلا محذور في ذلك، لأن هذا لون من ألوان الاحتفاء والتكريم لتلك المرأة الجليلة العظيمة، وهي مناسبة تحل مرة واحدة في السنة.
إن دور الآباء والأمهات في هذه المرحلة دورٌ خطير في التربية والتنشئة والتكوين والتشكيل. ويقف على رأس القائمة هنا اختيار الزوجة الصالحة، ولا يعني ذلك أن تكون جميلة في الظاهر، إنما الأهم هو الداخل والمحتوى. فإن اجتمع هذا وذاك كان حسناً، أما جمال الروح وكمال النفس وحسن العشرة والمنبت الصالح فهو الأهم، لتكون صالحة في بيتها ونفسها ومحيطها لأنها سوف تكون أماً لأولاد. يقول الشاعر:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
والعكس صحيح أيضاً، إذ يكون الشعب مقطع الأوصال لا يهتدي طريق الخير، ولا يميز بين الخير والشر، لأن المرأة غير صالحة. فالحضن والوعاء الذي يفترض أن يكون مدرسة غير صالح لإعداد الجيل.
1 البيئة السليمة:
من العوامل المهمة في التربية تحصيل البيئة السليمة، ففي بعض الأحيان يكون البيت صالحاً، إلا أن المنطقة التي تنشأ فيها المرأة غير سليمة، مربكة، ليس فيها سوى المتردية والنطيحة، وعدم السلامة يكون أحياناً في الجانب المادي، وأخرى يكون في الجانب المعنوي، فربما يكون البيت محافظاً لكن المحيط متفلتاً لا يعنيه من أين جاء «الريال» ولا أين ذهب، سواء جاء بسرقة أم عدم أداء الأمانة أم بالحلية والمكر. وكذا الحال في الجانب المعنوي.
فلو أننا استثمرنا الاستثمار الصحيح في أولادنا، وهو الاستثمار الذي ينبغي أن يقدم على سائر مسارات الاستثمار، فسوف نصل إلى نتاج ضخم، عالي القيمة.
2 شكر النعمة:
ثم شكر النعمة من قبل الأبناء، أما إذا قصرنا في التربية فبدل الشكر ربما يكون اللعن والعياذ بالله، وقد يكون التبري، فكم تبرأ أبناء من آبائهم، فقبل أن تسأل الولد عن سبب براءته من أبيه لا بد أن تسأل عن الأب وما هو موقفه؟ وكيف أعدّ هذا الولد؟ فلا ينبغي أن نرمي التقصير في ساحة أبنائنا دائماً، فهؤلاء يمثلون مشروعاً طيباً في المستقبل، بل علينا أن نلاحظ ما صدر منا من تقصير. فإن كان النتاج حسناً كان وراءه مصنع حسنٌ سليم، قادر على الإنتاج الصحيح السليم القابل للإبداع والتطور.
إن هؤلاء الأبناء يقدمون لنا في الخارج واحداً من اثنين، أو كليهما، فاليوم ربما يكون الأب مقتدراً، إلا أن الدنيا تدور، وربما يصبح الفقير غنياً، والعكس صحيح، وأنت إذا أعددت الولد أعددته للمستقبل، أما الأموال فليست مضمونة، والولد أكثر ضمانة. وقد يقول قائل: إن الولد ليس مضموناً أيضاً، فربما يموت، وهذا صحيح، إلا أنك أديت ما عليك، وقمت بالمجهود الكافي.
إنك إن قدمت لولدك في الحياة فسوف يقدم لك الكثير، وإن امتنعت فسوف يمتنع. البعض يشكو عدم احترام ولده له، ولكن ربما يكون السبب هو عدم احترامه هو لولده، فلو كان قد احترمه لما تمرد.
والأمر الآخر أنه يقدم الولد لأبيه القيمة الإضافية التي لم يستطع الأب أحياناً الحصول عليها، فإذا أعددت الولد ليكون طبيباً أو مهندساً أو أستاذاً أو محامياً أو رجل أعمال كبيراً، ثم دخل المجالس فسوف يشار إليه أنه ابن فلان، فيقال: المحامي ابن فلان، أو الطبيب ابن فلان، أو الطبيبة فلانة بنت فلان، وهذا ضرب مما يقدمه الابن أو البنت لآبائهم.
إن كل ما يحدث من البحث عن مشاريع الاستثمار الحضاري القيمة الأولى والأخيرة فيه هم الأبناء، وعليك أن تخطط لتنجح في مشروعك التربوي المتمثل في الولد والبنت.
فالمرحلة الأولى هي مرحلة التعليم، فكيف نؤسس لتعليم أبنائنا؟ قد يكون أحدنا مقصراً ليس لديه معلومة في هذا الجانب، لكن معاهد التخصص في هذا الجانب، ومن قطعوا أشواطاً طويلة في هذا الاتجاه كثيرون اليوم، ومجتمع اليوم غير مجتمع الأمس، إذ تقدم في مختلف النواحي، ومنها التخطيط ورسم أبعاد المستقبل للأسر.
ثم يأتي دور التربية وتزريق الأخلاق الكريمة الفاضلة فيهم، من النخوة والشيمة والكرم والرجولة وغيرها، فلا نكتفي بالقول: كان آباؤنا وأجدادنا. وفي هذه المنطقة الكريمة بأهلها عادات لا تجاريها فيها الكثير من الأمم والطوائف.
إننا نسمع في المأثور: ليس منا من بات وجاره جائع، لكننا نجد اليوم أن الكثير من الناس لا يعبأ بما عليه جاره.
ومن الأمور المهمة هنا شدّ العلاقات والانفتاح على المناخ من حولنا، ولا بد من تربية أولادنا بهذا الاتجاه، فالمستقبل غير مضمون، ولا ندري ما فيه من متقاطع أو متلاقٍ. ونطمح أن نسمع لغة البيت الواحد، بعيداً عن لفظة الشيعي أو السني.
هذا البناء موقوف على حركة فكرية، فإذا تحركنا من مساحة الجمود إلى مساحة الحركة الفكرية، وحركنا أذهاننا فيما نريد أن نصل إليه من أهداف، وما هو الممكن الذي يوصلنا لتلك الأهداف؟ وبمن نستعين؟ فإننا سوف نصل إلى ما نصبو إليه.
علينا أن نعيد حركة التموضع وسط المجتمع، فالأحساء لم تعد كما كانت عليه في الجغرافيا في تلك الأزمنة، فالقرية اليوم مدينة، ولها أحكام المدينة، فلا بد أن ننتبه إلى أن الوضع مختلف تماماً، والبناء الديموغرافي للتركيبة السكانية حصل فيه أيضاً الكثير من التغير والتبدل. فالبلد بالأمس كانت تحاط بسور وبوابات، أما اليوم فنحن منفتحون على عالم كبير، ولا بد أن نعرف ما لنا وما علينا. وأن نعيد حركة التموضع في المجتمع على أساس من الجهة الشخصية كأفراد وكمنظومة مجتمع بكاملها.
إننا اليوم مع شديد الأسف نجتمع، ولكن لهدم شخصية معينة، ونجتمع لبعثرة الأوراق، أما أن نجتمع لحل مشاكلنا فلا، فهل اجتمعنا ولو اجتماعاً واحداً لحل مشاكل بناتنا العوانس مثلاً، أو المعلقات في المحاكم دون طلاق أو الفقراء والعوز المطبق؟ والقائمة تطول.
قد يقول قائل: هنالك مجالس الأسر، إلا أن تلك المجالس زادت الطين بلة، وأحدثت الطبقية في داخل الأسرة الواحدة، ما بين غنىً فاحش، وفقر مدقع، لكي تبقى الطبقية في الأسرة، هذا يسأل ذاك، وذاك يسأل هذا. والأنكى من ذلك أن تكون الطبقة العالية تريد أن تضع قدمها على رؤوس أولئك، رغم الشركة في الدم والنسب وما إلى ذلك من المشتركات.
بلغ بنا الكلام في الأسبوع الماضي إلى المساحة التي يشغلها المسار العقلي في حياتنا اليوم، وأخذنا الحوزة العلمية مثالاً ونموذجاً، فهل هنالك مسار عقلي يحكم توجه البوصلة في داخل الحوزة العلمية أو لا؟ وأنا هنا أتحدث عن الحوزة بما هي حوزة، لا عن حوزة بعينها. ثم إنني أتكلم هنا للحوزة وليس عليها، والغبيّ من يفهم أنني أنال من الحوزة، لأنني وقتها أنال من نفسي.
فهنالك مسار تقليدي معتدل، وسطي، والوسطية في كل شيء مطلوبة، ونحن مع المعتدل الوسطي الذي لا يكفّر الناس، ولا يضللهم، ولا يطردهم من رحمة الله، ولا ينفرد بمفاتيح الجنة والنار له ولمن معه. فنحن مع الاعتدال والوسطية أينما حلّ وكان، في قم أو الأحساء أو النجف أو الهند، أو أي بقعة من بقاع العالم. فطابور الاعتدال التقليدي لا مشكلة لنا معه.
أما المسار التقليدي المتشدد فهو منبوذ لدينا كما ننبذ بقية الطرق والمذاهب المتشددة التي لم تخلف سوى داعش وأشباهه، وإذا بقي هذا المسار على وضعه ودوران حركته فانتظروا الدواعش الشيعة، فإنهم قادمون! وإذ وصلت الأمور إلى نبش القبور التي مضى عليها ألف وأربعمئة سنة، فماذا يختلف هذا عن هدم القبور مثلاً، التي لا نرضاها نحن ونستنكرها، إن لم يكن أسوأ؟ ومن العيب أن تقول شيئاً، ثم تقول: لم أقل، لتبرر الخطأ.
ولدينا أيضاً مسار إصلاحي محافظ، يلتقي مع التقليدي المعتدل، فهؤلاء يمكن أن يندمجوا في حوزة واحدة لتكون حوزة راشدة واعية أرادها علماؤنا البررة أصحاب الفكر النير والعقول المنفتحة.
ثم المسار الإصلاحي المتمرد المتبجح، ونحن لا نتفق مع هذا المسار، فمن يريد أن يقلب الموازنات والتوازنات والمعادلات ويتجرأ على كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ لا مكان له في الحوزة، وهو مثل التقليد المتشدد، إن لم يخرج من الحوزة اليوم، فسوف يخرج منها ولو بعد حين، ولا مكان في عالم اليوم إلا لمنطق الاعتدال والمحبة وزرع روح السلام والانفتاح ضمن دائرة الضوابط الشرعية المعروفة.
يقول السيد الإمام «قدس سره»: إننا لسنا مع العمامة، بل مع الإسلام الذي يرفع من شأننا وعزتنا. إن خيانة المعمم للإسلام أشد وأشنع بكثير من خيانة غير المعمم، لأن ضرر الأول أكثر بكثير من ضرر الثاني.
عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله : «اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجل والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد ﷺ. أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها بَرّاً أو فاجراً، فإن رسول الله ﷺ كان يأمر بأداء الخيط والمِخْيَط.
صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورِعَ في دينه، وصدق الحديث، وأدى الأمانة، وحَسُنَ خُلُقُه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك، ويَدخُل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر. وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤُهُ وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر. فَوالله لحدثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي فيكون زَيْنَها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث. إليه وصاياهم وودائعهم، تُسأل العشيرة عنه فتقول: من مثلُ فلان؟! إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث» [3] .
نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.