العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني «9»
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1] .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عن الإمام الباقر أنه قال: «ما من شيء يعبد الله به يوم الجمعة أحب إلي من الصلاة على محمد وآل محمد» [2] .
قال تعالى: ﴿الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيْبَاً﴾[3] .
في الحديث الشريف عنهم : «وإن كان النبي من الأنبياء ليأتي قومه فيقوم فيهم يأمرهم بطاعة الله ويدعوهم إلى توحيد الله ما معه مبيت ليلة، فما يتركونه يفرغ من كلامه ولا يستمعون إليه حتى يقتلوه، وإنما يبتلي الله تبارك وتعالى عباده على قدر منازلهم عنده» [4] .
من هو الفقيه؟:
إنه عنوان بدأنا به قبل فترة من الزمن.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة الامتداد الطويل التي بدأت في القرن التاسع الهجري إلى يومنا هذا، وهي تنقسم إلى مفاصل ومواطن. فبين النقلة النوعية والتراجع الذريع مسارات كثيرة لها إسهاماتها في حال التقدم والتأخر.
فالمسار العلمي هو الحصيلة والمنتج، والمسار الاجتماعي هو الظرف الضاغط، والمسار الرسمي هو حركة المراقبة اللصيقة، والمسار الفكري هو روح الانفتاح والانعتاق من الموروث المشوّه.
في تلك المرحلة والحقبة الزمنية اشتد الصراع الفكري والعلمي والمنهجي والبحثي والتحقيقي بين مدرسة الإخباريين وما يؤمّن لها الموروث من الموقع، ومدرسة الأصوليين التي غادرت مساحة التهجي الأول لمفرداتها، متطلعة إلى الآفاق من حولها. في هذه الفترة كانت الدولة الصفوية تبذر بذورها وتؤسس القواعد في أكثر من مكان ومكان.
ابن أبي جمهور الأحسائي:
وفي هذه المرحلة أيضاً أطلّت الأحساء على المشهد العلمي من خلال واحدة من القمم السامية والهامات الرفيعة والفكر المتحرر المتقدم في نقده، إنه ابن أبي جمهور الأحسائي «رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة». فقد وضعت الأحساء قدمها الثابتة في الأوساط العلمية من خلال ابن أبي جمهور «قدس سره الشريف» فهذا الرجل يمثل نقلة نوعية في مدارس العلوم الدينية بتعددها الموقعي جغرافياً، وحساب الزمن وما كان مألوفاً ومأنوساً من التيارات الفكرية المتواصلة والمتقاطعة بسطاً على ما للزمان والمكان من أثر في ذلك.
ولد ابن أبي جمهور الأحسائي في قرية التهيمية الملاصقة لجبل القارة المعروف المشهور. وهذه القرية كان لها امتدادها العمراني الكبير حيث يعد من أطرافها وتوابعها ما يعرف اليوم بمزرعة سلطانة غرباً، والمزاوي جنوباً، وأطراف الحليلة شمالاً. فهي تمثل حاضرة ومدنية وتقدماً وحراكاً علمياً ودينياً كبيراً.
لقد حظي الشيخ ابن أبي جمهور بكوكبة من الأعلام النافذين في البحث والتحقيق صقلوا مواهبه والقدرات التي وهبه الله إياها، من ذكاء حادّ وحافظة وقّادة وحضور ورغبة جادة في التحصيل والتقدم.
فعلى يدي أبيه العالم الجليل تلقى معارفه الأولى، كأغلب الأعلام الذين يخرجون من الأسر العلمية. ثم على يد جمع من أعلام المدرسة التهيمية، ثم يمم شطر النجف الأشرف حيث الحاضنة العلمية الكبرى التي كانت تعيش أعلى درجات الرشد آنذاك، كما سأشير إلى بعض الأعلام الذين صنعوا مجد النجف السامي الرفيع في تلك الفترة.
التصق الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي بالشيخ الفتال، وهو علم من أعلام النجف المتقدمين في قراءاتهم واستنطاقاتهم الفقهية، وقد أجيز منه. ثم عزم على الحج، وطرق أبواب الشام، وحط رحله في لبنان. وكانت لبنان تمثل منعطفاً كبيراً في الحاضنة العلمية والإبداع العلمي أيضاً، ومن خلال تلك الفترة والأعلام الذين عاشوا فيها رفدت الحوزة بأهم الكتب وأكثرها قدرة على الأخذ بيد العالم الباحث إلى المسافات البعيدة.
فمن أولئك الأعلام من جبل عامل، الشهيد الأول صاحب اللمعة الدمشقية، والشهيد الثاني صاحب شرح اللمعة «الروضة البهية» والحسن ابن الشهيد صاحب معالم الدين، الذي أحدث فيه نقلة نوعية جبارة جداً في أصول الفقه. وكذلك المحقق الكركي والعلامة الجزائري.
وقد كان الشيخ يبحث عن ضالته لا في الأسماء والمسميات إنما في كنه الجواهر والمعادن أيضاً، فالتصق بالشيخ الجزائري واستفاد منه حتى أجازه. وقد كانت لبنان تزخر بالكثير من الأعلام، إلا أنه اقتنص هذه المفردة في الشيخ الجزائري، كما كان الحال في النجف الأشرف حيث الشيخ الفتال، على كثرة من كان في النجف الأشرف من الأعلام. وهذا يدلل على حسن الاختيار، وعلى أن التعامل مع ما يوصل إلى النتيجة لا ما يُكسب الشهرة، كما يحصل اليوم، حيث يقال: حضر فلان عند آية الله فلان، وآية الله فلان. فهذا لا يكفي، إنما المهم مقدار ما استفدته من الآية، أما أن تقطع الليالي والأيام، لتكون شهوراً وسنوات ثم تأتي لأبناء مجتمعك وحاضرتك العلمية الصغيرة وتقول: تتلمذت على يد المرجع الفلاني والآية الفلاني فهذا لا يقدم ولا يؤخر، فالعالم محفوظ مكانه في محله والعالم كذلك، أما من يحضر عنده فلا يقدم حضوره ولا يؤخر إلا بمقدار ما يأخذ منه ويستفيد.
هكذا كان ابن أبي جمهور يتعامل مع الواقع الذي يأخذه إلى حيث أراد الوصول، لذلك أجيز في النجف حين حط رحاله، وأجيز في لبنان الجنوب عندما حط رحاله.
كان من تلامذته السيد شرف الدين الطالقاني، والشيخ علي الكركي، والشيخ عطاء الله الاسترابادي والمحقق الكركي «رضوان الله عليه» مع قائمة طويلة غير هؤلاء الذين اقتصرت على أسمائهم، لأن الأستاذ إذا ما أجهد نفسه واستطاع أن يبني كوكبة ولو محدودة العدد، فذلك يعني فيما يعنيه التميز في تشخيص التلامذة والعناية بهم والوصول من خلال ذلك إلى مسافات بعيدة. فاليوم صار التباهي بعدد الطلاب الذين يحضرون في الدرس، فيقال: درس فلان ناهز الألفين، والمرجع الفلاني يحضر درسه العدد الفلاني، أما في تلك الآونة فكانت الأمور تعدّ بعدد الأصابع، ثم تعدت ذلك للعشرات ثم المئات ثم الآلاف، وربما نشهد في المستقبل ما يشبه المظاهرات التي تحصل هنا وهناك.
فالشيخ الإصفهاني حضر درسه الخاصة وتخرجوا على يديه، وما منهم إلا من أصبح فقيهاً معتمداً أو مرجعاً.
مصنفات ابن أبي جمهور:
أما مصنفات الشيخ ابن أبي جمهور فهي تنوف على الأربعين مصنفاً في شتى العلوم والفنون، مما يدلل على موسوعيته، حتى إذا ما اقترب القارئ أكثر، ووجد أن معالم مدرسة الحديث تفرض نفسها، يجد أن الشيخ ابن أبي جمهور لم يكن تابعاً لمن تقدمه إنما كان مُبعثراً للأوراق ومحللاً للأفكار وناقداً ومميزاً بين الغث والسمين، حتى انعكس ذلك على مدرسته الفقهية، وربما أوفقُ في يوم من الأيام لأضع يدي على بعض المسائل التي تنسب في القرون الأخيرة لبعض الأعلام وكأنها من مبتكراتهم، حال أن ابن أبي جمهور في القرن التاسع الهجري يخلص لتلك الآراء ويؤسس لتلك المسائل، ولكن يبقى ابن أبي جمهور ابن الأحساء.
فمن أشهر كتبه:
- عوالي اللآلئ العزيزية في الأحاديث الدينية.
- مجلي مرآة المنجي: وهو مزيج بين فنون ثلاثة، هي الكلام والفلسفة والعرفان، ومن هنا جاءت الدخيلة كما سأشير.
- درر اللآلي العمادية في الأحاديث الفقهية: وهي موسوعة كبيرة.
- بداية النهاية في الحكمة الإشراقية.
وعندما ولج الشيخ الأحسائي مساحة العرفان، كانت حساسية بعض الذوات منها واضحة إلى يومنا هذا مع شديد الأسف، حال أن مدارس العلم والمعرفة مفتحة الأبواب، وأستغرب ممن يريد أن يصادر عقول الناس وآراءهم وأفكارهم وتوجهاتهم واختياراتهم، فمن أعطى لهؤلاء السلطة في أن يفكروا إلا من خلال تفكيرهم وأن لا يختاروا إلا ما اختاروه لهم؟
في مشهد المقدسة:
ثم حط الشيخ ابن أبي جمهور رحاله في سني عمره الشريف الأخيرة عند ثامن الحجج من آل محمد ﷺ وكانت آنئذٍ حاضرة علمية تتوثب لاقتناص الأعلام وإضافة الأسماء كي تعطي للتلاميذ والبناء أسساً محكمة، فكان من حسن حظ حوزة خراسان هذا الرجل العظيم العملاق في علمه وفكره وأصالته وتدينه وثباته وانتمائه.
وكانت مدرسة خراسان عامرةً بشتى الفنون، ومما يميز الدراسة في الآفاق غير العربية حرية التنقل بين العلوم، وهذا واضح وبين، فلا يوجد تحجير على باب من أبواب العلم والمعرفة، صحيح أن التيار غير المرغوب فيه يحارَب، وكذلك العالم غير المرغوب فيه، المزعِج في طرحه وفكره وتوجهه وملامسته لبعض الأمور التي ربما تُحدث شيئاً.
لقد اكتملت معالم شخصية الشيخ في خراسان، فألقى الأعلام القياد بين يديه فتحرك وأفرغ من علومه واستقطب وأصّل وفرّع.
إبداعه الفلسفي:
ومن الجهات التي تكشف لنا ما لهذا الشيخ العظيم من جلالة قدر وعلو منزلة رسائل المستشرقين حول نتاجه الفكري والعلمي، فقد عنت بعض المدارس الاستشراقية التي تحركت في الشرق منذ القرن السادس الهجري وازداد حراكها في القرون الثامن والتاسع والعاشر الهجرية. فقد عمد هؤلاء إلى تصيد الشذرات والمفردات والكتب ونقلوها إلى أوربا، وأسرجوا دنيا أوربا، وأناروا الدنيا بعد ذلك، ونحن لا نملك من يومها إلى يومنا هذا إلى السؤال عمن نقلّد، ولأي جهة نتبع؟ وخلف من نصلي؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكأن هذا هو قدرنا الذي يراد لنا أن لا نغادره قيد أنملة واحدة.
فمن الميزات التي تميز بها هذا الرجل العظيم في بحثه وفكره وعطائه التأسيس لحالة المزيج العلمي بين أعتى المدارس الفكرية في الوسط الإسلامي آنذاك، بكل أدب واحترام وتقدير، فلم يكفر أحداً ولم يضلل أحداً أو يخرجه من رحمة الله وولاية أهل بيته، إنما كان رحب الصدر، لأنه يملك القدرة على الإقناع من خلال الدليل، أما الطرق الأخرى فهي طرق تعسفية، يراد من خلالها ليّ الأعناق وقطع الألسن، وليتهم ينهلون من مسيرة علمائنا الماضين الذين لم يتمثلوا إلا ما اختطه الحبيب المصطفى محمد ﷺ.
كانت مدرسة الكلام بين الأشاعرة والمعتزلة على أوج حراكها، حتى أن الصراع استحكم فيما بينهم وهم من المسلمين العامة، ولم يستطع أحد الطرفين إقناع الآخر، حتى سالت الدماء فيما بينهم.
وجاء هذا الشيخ الجليل الحكيم ووضع يده على مكامن الخطر في المدرستين، وجاء بالإكسير الأعظم ليقارب بينهما بحيث أصبح يجبر الآخر أن يحني رأسه إجلالاً واحتراماً وتقديراً لذلك النتاج.
ثم التفت إلى مدرسة الفلسفة، وهي تتحرك وفق مشربين: المشائين، والإشراقيين. فإمام المشائين ابن سينا، وإمام الإشراقيين السهروردي، وبين المدرسة الإشراقية والمشائية بونٌ شاسع، لكن هذا الشيخ الجليل لما كان يحفل به من فكر ووعي ودراية استطاع أن يسير في خط مستقيم بين الاتجاهين.
لقد كنت ولا زلت أقول: نحن لا نحتاج كثيراً للعلم بقدر ما نحتاج إلى العقل والحكمة، بمعنى وضع الشيء في موضعه، وإلا فإن العلم يمكن للكثير أن يصل إليه، حتى أحياناً تصل المسألة إلى الذم كما ورد في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً﴾ [5] . لأن العقل معطل، فلا يعنيه أن تذهب الأمة أدراج الرياح وتجري أنهار الدم هنا وهناك ما دام سالماً على رأسه ونفسه وأهله وعشيرته وحاشيته.
لقد قارب الشيخ الأحسائي بين المدرستين، وكلكم يعلم ماذا تعني الفلسفة التي فيها منزلقات خطيرة لمن لا يأخذ الفلسفة من أهلها وأربابها، أما من أخذها من أهلها وأربابها فقد سار بالأمة سيراً سجحاً، ولنا في السيد الإمام «رضوان الله عليه» خير دليل على المدعى، فقد كانا من أرباب الفلسفة وإعمال العقل، فكان النتاج كما كان.
إن حياة الشيخ ابن أبي جمهور طويلة عريضة كبيرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وقد كتبت في هذا الشيخ الجليل أرجوزة كبيرة نظمت فيها حياته، وهي تقع في 349 بيتاً من الشعر، وذيلتها بقيود بيانية، كالتعريف بمسقط رأسه وأساتذته وتلاميذه وتنقلاته والأعلام الذين أجازوه، وهذا قليل في حقه.
ورب سائل يسأل: لماذا لا نرى في الأحساء اليوم من هو بمستوى ابن أبي جمهور وقامته؟ ولماذا لا نرى من يمثل منارة الشيخ الأوحد في علمه وعطائه؟ ما لنا لا نرى الإشارة المدللة على نتاج الشيخ محمد حسين بو خمسين والشيخ العيثان والقائمة الطوية من علماء الأحساء؟
في الأسبوع القادم سوف نتطرق لموضوع العقبات التي تقف في طريق الإبداع، ولماذا يتقدم غيرنا ونحن نتأخر؟ ولماذا تكتب أسماء غيرنا بخط عريض فيما تكتب أسماؤنا في ذيل الصفحة بقلم خجول؟
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.