آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

الإلحاد والتحرر الوهمي

وديع آل حمّاد

التحرر والحرية هي الأغنية التي تطرب نفس الملحد لسماعها، فيعيش في حالة عشق وذوبان وهيام لها، وتعشقها أذنه ويرددها لسانه بصوت جهوري غير مبحوح.

وهذا العشق ولد في نفسه حالة تمرد وعصيان على كل المعتقدات الدينية والقيم والضوابط الاجتماعية، وارتسمت في ذهنه صورة الإنسانية الحقة التي لا تتحقق في نظره إلا من خلال التفاعل مع ألحان الحرية وإيقاعات التحرر.

عندما نقرأ عن الإلحاد وأدبياته سنقف أمام عتبة هذا التساؤل، وهو: أين تكمن إنسانية الإنسان؟

إنسانية الإنسان تكمن في عناصر ثلاثة: الحرية، الإرادة المستقلة، التعقل.

والملحد _ يزعم _ بانتخابه الإلحاد أنه يسير نحو تحقيق إنسانيته، وهذا لا يتأتى له إلا إذا امسك بتلابيب الحرية، فهي ثابتة من ثوابته المقدسة التي لا يمكن الاستغناء والانفكاك عنها.

فالمتجرد منها متجرد من إنسانيته.

والحرية مرتبطة بالإرادة ارتباطاً وثيقاً، ولتحقيق الحرية لابد من تحرر الإرادة من العوامل الداخلية الباطنية «المعتقدات» والخارجية «الضوابط الاجتماعية».

فالملحد _ في نظره _ يرى أن نيل الحرية لا يمكن أن يصل إليه الفرد إلا بتحرر عقله وفكره من الخرافات والأساطير والأوهام التي تسمى بالدين، وبتحرر عقله من أغلال وأصفاد مفهوم الدين - وما يشتمل عليه من تعاليم وطقوس وتشريعات والتزامات أخلاقية - يصل إلى ما يصبو إليه من حرية وتحرر.

وتحرير النفس والعقل من الأديان والمعتقدات، لا تتم إلا بنزع القداسة عنها. فالملحد لا يرى شيئاً في هذا الوجود يستحق أن تصبغ عليه صفة القداسة.

فتبنيه لقاعدة نزع القداسة عن كل شيء في هذا الكون، لغاية في نفس يعقوب، وهي تجريد الأديان من رداء القداسة.

بيد أنه يتراجع عن هذه القاعدة الكلية أمام الحرية، إذ لا يضعها في دائرة هذه القاعدة الكلية. وهذا تناقض واضح حيث يتبنى قاعدة كلية «نزع القداسة عن كل شيء» بغية إخراج الأديان عن دائرة القداسة ويتلكأ ويتراجع عن تطبيق هذه القاعدة على الحرية والتحرر، فما زال مصراً على أنها قدس الأقداس، بل لا شيء يستحق أن يلبس رداء القداسة إلا هي.

بصياغة أخرى: أن هذه المقولة تواجه مشكلة، حيث تنقض نفسها أيضا، أي أن شمولها لنفسها يستدعي عدم شموليتها أيضاً، فإذا كانت كل الأشياء غير مقدسة، فإن هذه المقالة «الحرية» أيضاً غير مقدسة، فمن الممكن ألا تصدق هذه القضية في كل الأشياء كما هو حاصل في نظر هؤلاء الملحدين، ومن ثم سيكون هناك أشياء مقدسة.

فمما سبق نفهم بأن الملحد رسم لنفسه هدفاً من إلحاده يريد الوصول إليه، ألا وهو فك إنسانيته من القيود المكبلة لها المتمثلة في الأديان، وبفك هذه القيود عنها تتحقق الحرية التي من خلالها يشعر بوجوده كإنسان، إذ بدونها بفتقر إلى إنسانيته.

نحن لا نختلف معه بأن إنسانية الإنسان منوطة بحريته وإرادته وتعقله، ولكن كيف يستطيع الملحد أن يحقق حريته ويحرر إرادته من الأديان؟

الملحد يعيش وهم خادع كاذب اسمه الحرية وتحرير الإرادة، إذ يظن أنه قد أدخل فرسه إلى ميدان الحرية وهو في الواقع واهم، فبينه وبين الحرية نفق مظلم يتعذر فيه رؤية بصيص الحرية.

إذ هو - واقعاً - لم يتحرر من الدين بل استبدل دين بدين من صنع البشر.

والملحد لو قرر أن يعيش تجربة تأملية تفكرية مجردة من الدين الذي هجره والدين الذي انتخبه «الإلحاد» سيجد بأن الغاية التي ينشدها من إلحاده ما هي إلا سراب بقيعة يحسبها العطشان ماءً. حيث يهدف من إلحاده التحرر من الالتزام بالقيود، وهو في الواقع قد تحرر من التزامات وقيود دين سابق وارتبط بالتزامات وقيود دين جديد اسمه الإلحاد.

وهذا الأمر واضح من خلال الحصر العقلي:

إما أن يكون مقيداً بقيود الدين القديم المهجور وإما أن يكون مقيداً بقيود دينه الجديد المنتخب.

قد يقول قائل: أين الالتزام في الإلحاد حتى يكون الملحد مقيداً؟ البعض يتصور بأن العلاقة بين الدين والإلحاد علاقة وجود وعدم، وهذا أمر ليس صحيح، بل كلاهما أمران وجوديان.

فالمؤمن بدين سواء كان سماوياً أو وضعياً يرى الالتزامات المقررة عليه من الدين أمراً وجودياً. وكذلك الملحد في تبنيه للإلحاد تعيش في داخله التزامات تعاليم الإلحاد الداعية إلى التحرر العبثي، وهذا أمر وجودي.

أي الالتزام لا يكون على مستوى الفعل فقط كما في الممارسات العبادية بل يمتد إلى مستوى القول والعقيدة.

وبالتالي حتى لو لم نجد ممارسات وطقوس عبادية في الإلحاد كما في الأديان، إلا أننا نجد التزام من قبل الملحد على مستوى القول والاعتقاد. حيث بانتهاجه طريق الإلحاد قد أصبح مقيداً على مستوى القول والاعتقاد، فقوله مؤطر بما يتبناه عقيدةً. وبهذا يتضح لنا أن الملحد يتوهم بتبنيه الإلحاد قد حقق حريته وفك الأغلال المكبلة لإرادته المتمثلة في المعتقدات البالية وأوهام الأديان - في نظره - وسار في طريق التعقل محققاً إنسانيته، وهو في الواقع لم ينل من ذلك شيئاً بل بات أسير لهواه، قال الله تعالى: ﴿أرأيت من أتخذ إلهه هواه.

خلاصة الآمر: إن الملحد يعيش مفارقة الكاذب أو مفارقة السفسطائي لأنه ينفي تأصيل القداسة عن كل شيء وفي الوقت نفسه هو يؤصل قداسة الحرية. أليس هذا الصنع تمظهراً بارزاً للتناقض؟.