آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:44 م

اعتذار التنفيس في تبرير النص السيابي المتضاد ورؤية أدونيس

حسين الخليفة

تبقى المشاعر هي البوابة الأولى التي يدخل من خلالها المتلقي إلى عالم الشعر، فتلامس أحاسيسه على نحو مباشر جماليات القصيدة وتنتظر من حروفها ما تنتظره الروح التعبى أو النفس القلقة من تغريدة طائر أو تدفق ذبذبات نغم يعيدان للروح والنفس توازنهما، ليواصلا قدرتهما على مواجهة منغصات الحياة.

فالشعر في الدرجة الأولى مشاعر، والمشاعر لا تنتقل من قلب إلى قلب آخر فتؤثر فيه إلا بتحليها بقدرة عالية من البوح المحاط بهالة صفاء تمنح البوح الوهج والدفء والحرارة، مما يؤدي إلى نجاح النص في إيصال مشاعر منشئه ليتكهرب بها المتلقي، فيثبت النص جدارته في تحقيق ماهيته وطبيعته الشعرية التي تستحوذ في المقام الأول على قلوب المتلقين بدرجة متساوية، ثم يحدث التمايز حين يشرك المتلقون عقولهم في التلقي لسبر أغوار النص والسهر على مراقبة شوارده بغية اقتناصها، منفعلين بالنص الشعري الإبداعي الذي يثير القلوب ثم يثير العقول محافظاً على المعادلة الجامعة بين الصفتين بالرغم من تفاوتهما، إلا أنهما توأمان سياميان لا ينفكان ولا تتحقق الشِّعرية بأحدهما دون الآخر، وإن ذهب الخطاب الحداثي إلى غير ذلك في رؤاه النظرية وفي تطبيقها على نصوص توافقه أو تخالفه سلباً وإيجاباً.

لقد انبرى خطاب الحداثة لمواجهة المنحى الإبلاغي في القصيدة العربية، فاعتبره المسؤول عن اتصاف القصيدة بالخطابية والمباشرة والمنبرية، وما إلى ذلك من صفات تصب في بوتقة الوضوح الظاهري للنص الذي هو بمثابة كعبة يطوف حولها جميع المتلقين على اختلاف مستوياتهم الثقافية ولا يتخلف منهم أحد منفعلين بما تحدثه لغة النص في نفوسهم من إثارات مباشرة وتأجيج مشاعر انفعلت وتفاعلت مع مضامينه الظاهرة.

ولذا، فإن التجديد في اللغة الشعرية وفي الأسلوب والإيقاع، لا يعفي النص من اتهامه بالخطابية أو بالنزوع إليها والارتهان بها ما بقي فيه شيء من شائبة الإبلاغية التي بلغ الحد بينها وبين الخطاب الحداثي مستوى القطيعة التامة والطلاق البائن الذي لا رجعة فيه...

وفي ضوء ما تقدم نستطيع أن نفهم ما أخذه علي أحمد سعيد «أدونيس» على قامة شعرية كبيرة مجددة مثل قامة «بدر شاكر السياب»، ففي مقدمته للمختارات الشعرية التي اختارها «أدونيس» من شعر السياب ونشرتها له دار الآداب في بيروت في نهاية الستينات، رأى صاحب المقدمة أن السياب كان يعيش صراعاً قائماً بين ما تتطلبه اللغة الشعرية التي قد تنتج نصاً مستقبلياً يخترق زمن الشاعر نفسه ويقف بقوة ضد الجانب الإبلاغي في النص، وبين صفته كشاعر إنسان يريد أن يغير في المجتمع ويؤثر فيه، فكانت لغة السياب الإبلاغية تمثل كبوة فنية تجانف طبيعة اللغة الشعرية..!

وللمقالة أن تتوجه إلى «أدونيس» فتسأله سؤالاً لا غرض فيه أو منه سوى طلب الفهم:

فهل لك يا ابن سعيد أن ترشدنا إلى الفتوحات الرؤيوية التي أنتجتها لغتك الشعرية غير المشوبة بالإبلاغية والخطابية والتقريرية والمنبرية وقد عشت نصف قرن بعد رحيل السياب وبعد ما أخذته عليه في مقدمتك للمختارات الشعرية..؟!

إن الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً لن يستطيع أن يستمر في عزلته وصومعته التي بناها لنفسه مهما تحلى وتسلى ب «حكمته المتعالية» على المجتمع الذي يعيش فيه ومهما حاولت لغته أن تنطلق من مبانيه فتغمض بوضوحها وتتضح بغموضها، فإنه في نهاية المطاف سينفجر ليهرع إلى النزعة التبريرية ليجعل منها تكية يرتاح فيها ويعالج مضاعفات العزلة والانكماش والأبراج العاجية التي سجن نفسه فيها فسببت له اكتئاباً ثقافياً وآلاماً لا يطيقها كائن اجتماعي ضعيف بقدر ضعف الإنسان.

فكأن «أدونيس» يريد بما ذهب إليه في مقدمته للمختارات أن يسلي نفسه من خلال توصيفه الاعتذاري لشعر السياب المخفق أو السائر في خط متعرج متذبذب في اقترابه من اللغة الشعرية المتعالية بإخلاصها لطبيعتها وبما تحمل من نبوءة قد تنطلق من منطقة اللاوعي في العقل الباطن فتستعلي حتى على الشاعر نفسه في سياقه الفردي والاجتماعي المندمج بالحياة والمتلبس بتفاصيلها النمطية والاعتيادية.

فالنص السيابي قد حقق في مساحة كبيرة منه جماهيرية واسعة مع المحافظة على السعة نفسها في قراءة نصه نخبوياً، إلى درجة جعلت من علاقة التناسب بين الجماهيرية والنخبوية مع نصه علاقة طردية واضحة في نصوص كثيرة كان من أكثرها شهرة نص «أنشودة المطر» الذي حفظته صدور الناس بعامتهم وخاصتهم ووصل إلى حناجر المنشدين والمغنين، كما أشبعه النقاد والكتاب والمتخصصون في حقول الشعر والأدب دراسة ونقداً في المحيط العربي ناهيك عن ترجمته إلى اللغات الحية ودخوله بكل قوة ضمن اهتمامات البحث الجامعي عالمياً، وهو لا يزال يُدرس من قِبَل المتخصصين في الأدب المقارن..

ولهذا السبب كان اعتذار «أدونيس» للسياب يمثل تنفيساً وتسلية ودفاعاً نفسياً عما أنتجه «أدونيس» نفسه قبل أن يكون إخلاصاً لمفهومه الخاص للشعرية وقبل أن يكون دفاعاً موضوعياً عن ماهيتها، فكيف يصبر على رؤية نصه المثقل برؤاه الخاصة المنبثقة من مفهومه للشعرية منكمشاً لم يحقق ما حققه النص السيابي جماهيرياً وحتى نخبوباً لمن يريد أن يتابع فيقارن بالشواهد والأرقام؟!

ويمكن إيجاز لغة الاعتذار على النحو التالي:

إن عدم إخلاص السياب للشِعريَّة كان بسبب نزعته التغييرية التي لانت وتنازلت عن لغة القصيدة فنياً كما يتصورها «أدونيس» وهذا التنازل يكشف عن عِلَّة جماهيرية نص السياب المنطلقة منه والكامنة فيه، وهو تفسير يبرر بصورة غير مباشرة عزلة نص «أدونيس» وخفوت أثره الجماهيري، مما يعني أن نصه لم يقدم تنازلات وظل محتفظاً بلغته المتعالية الغنية بالشعريّة وفق مفهومه الخاص.

وهنا ترتاح النفس وتتغنى بمقولة ”وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ“ فتتسلى بعبقريتها العصية على الفهم ويكون الصبر على النبذ متحمَّلاً، ما دام من خُلقوا لغير زمانهم يتلمسون قاماتهم الفارعة من خلال ما قدموه لمجتمعاتهم من كلمات مجرد كلمات، بيد أنها ”كلمات ليست كالكلمات“ إنها كلمات وحي لا تعرف طريقها إلى «روح القدس» ولا تستمد تأييدها منه، وهي لا تجيد التعامل مع شياطين الشعر ولا تهتدي إلى الطرق المؤدية إلى وادي عبقر... إنها نسيج وحدها على كل حال.!

إن النجاح الباهر الذي حققه نص السياب على صعيد التلقي باختلاف مستوياته هو وحده يثير انتباهنا فيجعلنا ننظر إلى مفهوم الشعرية الذي روج له «أدونيس» باعتباره - لمن يتوخى العدل واللين في التوصيف - يمثل رأيه الخاص المتضاد وطبيعة الشعر بالمفهوم العربي على الأقل، فالمذاق العربي يأبى قبول ما ذهب إليه مقدم المختارات.

والسياب في إبداعه النص الجامع بين الجماهيرية النخبوية لم يكن منحازاً في نصوصه المخرجة على الصفة المذكورة إلا إلى ذائقته العربية الصافية التي تريد من الدهر أن يروي قصيدتها وأن يتلذذ في إنشادها كما تريد من النخبة أن يسهروا لاقتناص شواردها وفق خريطة الطريق الشعرية التي رسمها أحمد بن الحسين متنبي شعرنا العربي الخالد.

نعم، قد يكون السياب متأثراً في فترة من فترات حياته ببعض الرؤى التي أثارها تيار الحداثة وسوقها فتركت ملامحها على مساحة من تجربته الشعرية، إلا أنه لم يكن مؤمناٌ بها إيماناً غيبياً ولم يعاملها معاملة المسلمات، ففي آثاره النثرية شواهد دالة على المراجعة والنبذ لمتبنيات التيار ورؤاه، كما أن شعره - بحسب «أدونيس» - لم يكن مخلصاً كل الإخلاص لمفهوم الشعرية المسوَّق من قِبَل التيار.

إنَّ ثنائية «الجماهيرية / النخبوية» الجامعة كانت وستظل تمثل «الثابت» في مفهوم الشعرية الذي يأبى «التحول»، ويبقى كل ما في عَالَم القصيدة من قضايا فكرية وموضوعية وأسلوبية مجالاً لاقتناص الجديد واستلهامه، كما يبقى الإنسان ذلك الكائن الاجتماعي الفاعل والمنفعل، وكل فلسفة تُنظِّر للتأله الفرداني على مستوى التعاطي مع الحياة وتقفز به إلى فردانية اللغة وتألهها بما يقترب في الحالين من علل الذهان واضطراباته المتنوعة على الصعيد النفسي، فإنها ستبقى فلسفة تحمل طابعها الفردي الخاص وفق أكثر التوصيفات اعتدالاً وحيادية، وسيكون ثقل وزنها الاعتباري على وزان ما ارتضته لنفسها من «ثبات» على ما عندها من قناعات ومن «تحول» عما عند الناس من روحية اجتماعية لا يمكن أن يخرج من جلدتها الشاعر، وهو أولى - لحسِّهِ المرهف - بتمثلها والانطلاق منها في انبثاقة نصوصه الإبداعية المنهمرة انهمار «المطر» الذي سيبقى ناموسا «ثابتاً» وسيتحول إلى «أنشودة» تتلذذ بترديدها ألسنة الناس.