آخر تحديث: 12 / 11 / 2024م - 9:29 ص

لقاء مع الشيخ حسين المصطفى حول «الشخصية العالمية للشهيد محمد باقر الصدر»

جهات الإخبارية وكالة الأنباء القرآنية العالمية - فاطمة سعيد

سماحة الشيخ بداية هل تملك أجيالنا ثقافة المعرفة بالشهيد الصدر «ره»؟

بحسب المعطيات الواقعية، لا أرى - للأسف الشديد - في هذا العصر من يقف على البعد المعرفي والثقافي والإبداعي للشهيد محمد باقر الصدر «رحمه الله»، بل كل ما يعرفه جيلنا الحاضر بعض الأفكار المختزلة والمنحوتة في الذاكرة العامة فقط. بينما المنهج القرآني يرشدنا إلى الذاكرة الحركية في الأمة من خلال استلهام خط الأنبياء والمرسلين والمصلحين ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِن الشهيد محمد باقر الصدرجَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً.

لماذا هناك حاجة ماسة وضرورية على أن تنفتح أجيالنا على مشروع الشهيد الصدر؟

هذا سؤال يحمل الكثير من المواقف، وبه يختزل مسيرة الشهيد الصدر، ويمكننا أن نطرح لهذه الحاجة عدة أسباب كما يلي:

أولاً: يعتبر الشهيد الصدر من الفقهاء القلائل الذين تحركوا في الساحة الإسلامية بعيداً عن غرض التسويق «لشعار مرجعي»، بل كانت منطلقاته منذ انطلاقته - في أوائل الستينات الميلادية - تنبعث من مسؤولية إسلامية إصلاحية.. وقد كتب الشهيد الصدر في هذا الصدد: ”فالإسلام إذاً مبدأ كامل، لأنه يتكون من عقيدة كاملة في الكون، ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأسس وأهم حاجتين للبشرية، وهما القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي“.

ثانياً: النتاج الفكري العميق للشهيد الصدر لم يكن نتاج ترف فكري محض، بل جل ما كتبه كان نتيجة معاناة في ساحات العمل الإسلامي:

1. كتب «فلسفتنا، واقتصادنا، والأسس المنطقية للاستقراء» في فترة الصراع الأيديولوجي بين التيار الإسلامي وبين الماركسي والرأسمالي.. لقد كشف من خلالها عن تهافت المنظومات الأيديولوجية الفكرية والاقتصاديةة المغايرة للإسلام، في كتبه تلك.

2. وكتب عن الأدوار الموضوعية لحركة الإمامة وعن فكرة المهدوية من أجل تلمس القدوة الصالحة في الحركة والحياة. مفسراً ومعللاً بطريقة واقعية حال المسلم الشيعي، حيث ”عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من أبناء هذه الأمة الخيّرة، عيشة الرفض لكل ألوان الباطل والإصرار على التعلق بدولة الأنبياء والأئمة، بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من أجلها كل أبرار البشرية وأخيارها الصالحين. ولذلك يُعدّ التخلي عن وظيفة كرّس الأنبياء جهودهم وجندوا أرواحهم لأجل تحقيقها، تفريطاً بجزء من أهم أسس الدعوات الإلهية وتحديداً الدعوة الإسلامية“..

3. وكتب «التفسير الموضوعي في القرآن». فأعطى القرآن الكريم أولوية في أبحاثه وكتاباته، فدعا إلى إتباع منهج جديد في هذا الكتاب، وكان في محاولة منه لجعل المفاهيم القرآنية أكثر حركية ومرونة وحيوية، واعتمد مقولة السنن الطبيعية والإلهية في تفسير حركة التاريخ والإنسان، فجاءت كتاباته في هذا السياق ممنهجة ومؤصلة، وتنم عن رؤية ثاقبة، وقدرة فائقة على تناول الموضوعات، فضلاً عن اتسامها بالطابع الشمولي، ليتجلى روحح القرآن على معالم الدين والحياة. يقول الشهيد الصدر: ”وأما وظيفة التفسير الموضوعي دائماً في كل مرحلة وفيي كل عصر، أن يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه... يحمل أفكار عصره... يحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية، ثم يضعها بين يدي القرآن، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر أن يفهمه وأن يستشفه ويتبينه من خلال مجموعة آياته الشريفة. إذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع... ويلتحم القرآن مع الحياة، لأنّ المفسر يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فيكون التفسير عملية منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل المفروض أن تبدأ هذه العملية بالواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيّم والمصدر الذي تحدّد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع“.

4. وحاول السيد الشهيد تنظيم علمي الأصول والفقه لجعلهما يتماشيان مع التطورات والمستجدات سواء داخل الحوزة العلمية التي بدأت تعاني من منافسة حادة من طرق التعليم الجامعي النظامي، أو من خارجها حيث كان المجتمع يتعرض لغزو فكري غربي وشرقي على حد سواء ما يشكل خطراً على عقيدة الإسلام وشريعته فكتب في علم الأصول كتباً مهمة، باعتبار أنّ الكتب المتعمدة في المدرسة قد أصبحت قديمة نسبياً، فالرسائل والكفاية، كما يقول السيد نتاج أصولي يعود لما قبل مئة سنة، وقد حصل علم الأصول بعدهما على خبرة مئة سنة بإضافة أفكار جديدة، كما أن الحاجة أصبحت ماسة لتطوير طريقة البحث وإعادة النظر في استحداث مصطلحات جديدة.

5. وكتب ”البنك اللاربوي في الإسلام“ بسبب تفجّر النقاش في مصر، عندما افتتحت بعض صناديق التوفير، وشارك فيها بعض العلماء من الأزهر، ولم تسفر عن اكتشاف نظرية متكاملة في هذا المجال، يمكن الاستفادة منها للتنظير أو إيجاد البديل، أي بنك إسلامي لا يتعامل بالربا المحرّمة. ولهذا السّبب يقول الدكتور الملاّط: ”تتّسم كتابات محمد باقر الصدر في الاقتصاد والحقل المصرفي بأهمية بارزة، فقبالة خلفيّة كلاسيكية لم يكن فيها وجود لعلم الاقتصاد، وعالم إسلامي لم يخرج مع حلول عام 1966م، بأي فكرة متساوقة متماسكة في هذا المجال، أعدّ الصدر كتابين جديين ومطوّلين عن الموضوع هما: اقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام“.

6. ويمثل كتاباه «أسس الدولة الإسلامية»، وكتاب «الإسلام يقود الحياة»، أهم المستندات التاريخية لرصد نشوء وتبلور وتطور التفكير السياسي والدستوري عند الشهيد الصدر. لقد كانت المسألة السياسية جزء من مشروع الشهيد الصدر الفكري، وجزء من همّه الاجتماعي أيضاً، وهي إن كانت كذلك، فإنها تجد مبررها الكافي في طبيعة الإسلام الشمولية نفسها، باعتبارها نظاماً متكاملاً يهدف إلى بناء الإنسان، وفقاً لرؤية متجانسة تنتمي إلى عالم الكمال المطلب، وتتفق مع فطرة الإنسان.

ثالثاً: خطاباته الجماهيرية في فترة حياته الأخيرة تعكس مدى الهم الرسالي الرائع الذي يحمل هموم المسلم بجميع لغاته بعيداً عن خطاب التمزق والتشرذم. وبما أنّ العراق يعتبر مجتمعاً متنوعاً في مذاهبه وطوائفه، فقد راعى الشهيد الصدر في حركته السياسية المناهضة للنظام الحاكم الوحدة الإسلامية القائمة على التنوع، محافظاً في الوقت نفسه على الرمزية الخاصة التي تمسك بها مختلف الشرائع الاجتماعية من قيم مشتركة، فيخاطب المسلمين في العراق: يا أخي السني ويا أخي الشيعي فيربط الشيعي بالإمام علي كما يربط السني مثلاً بالخلفاء، معتبراً أنّ الصراع ليس موجهاً إلى السنة في الحكم، بل وجهه الحقيقي هو الاستبداد، ويلفت من ناحية أخرى إلى ضرورة تكتل كل الشرائح العراقية في سبيل قضاياها الكبرى في الوحدة، وهذا ما يدل عليه قوله: ”إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تهمهم جميعا“.

رابعاً: لقد دأب أعداء الوعي والدين أن يفصلوا بين الأجيال ورموز الإيمان والهوية والأصالة، يحاولون دائماً أن تغيب الرموز عن ذاكرة الأجيال وفي المقابل يزرعون في وعي الأجيال أسماء دخيلة لا علاقة لها بهويتنا الإيمانية والروحية والثقافية، وهكذا يبدأ مشروع التغريب لأجيال الأمة، وهكذا تبدأ حركة الاستلاب الثقافي، مخترقة كل مكوّنات الثقافة والإعلام والتربية.

خامساً: لقد مثلت الأعوام الخمسين من حياته القليلة الخير والعطاء العميم، لقد استطاع بما يملكه من صفات وسجايا وروح أن يخلق جيلاً صحوياً استمرت بركاته على مستوى العالم الإسلامي بوجه عام وعلىى مستوى العراق بوجه خاص.

سادساً: قد لا نكون مجانبين للصواب إذا قلنا: إنّ حجم ما كتب عن السيد الشهيد، إلى حدّ الآن، يجعله من بين أهمّ الشخصيات الإسلامية العظيمة التي عرفها هذا القرن وأبرزها، والفضل يعود بالدرجة الأولى إلى إنتاجه الفكري المتميّز الذي جعل منه أنموذجاً للفقيه الإمامي الذي تمكّن من استيعاب مشاكل عصره وقضاياه، وتعاطى بإيجابيّة مع الواقع الإسلامي وتحدّياته المختلفة، وحمل همّ الإسلام والمسلمين، واستطاع أن يعيد الثقة بالإسلام وشريعته، عندما قدّمه بحلل جديدة وأثبت صلاحيته لكلّ زمان ومكان، وكشف في المقابل تهافت الفلسفات الغربيّة المادية الوافدة، كما أمدّ الصحوة الإسلامية بما تحتاجه من فكر ورؤية شموليّة للإسلام، وهي تواجه الغزو الفكري الغربي، بالإضافة إلى انخراطه في العمل التربوي والاجتماعي والسياسي، لممارسة الإصلاح والتغيير المطلوبين، سواء داخل الحوزة العلمية في النجف الأشرف أم في الوسط الاجتماعي العام داخل العراق.

لقد سجل الشهيد الكبير «رحمه الله» الكثير من المواقف الشجاعة منذ سنوات شبابه الأولى في الوقوف والتصدي لكل الانحرافات الفكرية والعقائدية التي وفدت على الساحة الإسلامية، بما في ذلك الوقوف أمام السلطات الحاكمة في العراق آنذاك في محاولاتها الهادفة إلى إبعاد الناس عن الإسلام ومبادئه، فقام بتأسيس ودعم مجموعة من الهيئات والتجمعات التي أراد لها نشر المبادئ الصحيحة للإسلام، وإصدار المنشورات التي تتحدث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب لم تعهده الحوزة من قبل فخط بذلك معالم خطاب سياسي وفكري يؤسس لمرحلة جديدة في الأسلوب والمضمون. لكل هذه المعطيات، ولغيرها، أجيالنا في حاجة ماسة وضرورية أن تنفتح على هذه التجربة الغنية، وأن تتغذى من عطاءات هذه التجربة المباركة.

من المسؤول عن غياب الشهيد الصدر عن ثقافة الأجيال؟

إذا أردتم أن أتكلم بوضوح تام عليَّ أن أُحمّل هذه المسؤولية رجال الوعي والثقافة، وقادة المسيرة من علماء ودعاة ومفكرين، وأساتذة وتربويين وسياسيين، فهؤلاء جميعاً مسؤولون أن يضعوا بين يدي أجيالنا التجربة الكبيرة للشهيد الصدر «رحمه الله»، تجربته العلمية والفكرية والثقافية، وتجربته الروحية والأخلاقية والتربوية، وتجربته في الدعوة والتبليغ، وتجربته في الحوزة والمرجعية، وتجربته في العمل الاجتماعي والسياسي والقيادي..

ولا شك أنّ هناك أيدي يراد لمثل هذا السيد العظيم أن يسقط في الساحة؛ كما حدث قبل أعوام قليلة حيث صدر كتاب بعنوان «الحق المبين في معرفة المعصومين» تصدّر الكتاب تمهيداً تناول الاتجاهات المعاصرة في فهم النبي وآله ، وقد أحدثت هذه المقدمة التمهيدية ردود فعل عنيفة على المستوى العلمائي وعلى المستوى الجماهيري وصدرت بيانات وتصريحات شاجبة ومستنكرة لما ورد في هذه المقدمة مما اعتبرته هذه البيانات والتصريحات إساءة كبيرة للشهيد الصدر، وإساءة إلى فكره وخطه ومدرسته بما تحمله من شبهات حول منهج السيد الصدر في دراسة الأئمة المعصومين، وبما تحمله من اتهامات لفهم السيد الصدر في قراءة النبي وآله صلوات الله عليهم أجمعين بأنه فهم التقاطي ومتأثر بالفكر السني وأحيانا بالفكر الغربي.

وفور صدور المقدمة المذكورة أصدر سماحة الأستاذ آية الله العظمى السيد كاظم الحائري «حفظه الله» بياناً أعلن فيه الحداد بتعطيل الدراسة الحوزوية احتجاجاً على نسبة التشيع الالتقاطي إلى الشهيد الصدر «رحمه الله»، إلاّ أنّ سماحته ألغى إعلان الحداد على أثر صدور اعتذار من صاحب المقدمة بأنه ما كان يقصد الإساءة للشهيد الصدر، وإنّ نسبة الانحراف والالتقاط إلى السيد الصدر كان اشتباهاً منه في التعبير، كما أعلن سحب مقدمة الكتاب، ورغم صدور الاعتذار فإنّ البيانات والاحتجاجات استمرت، منهم من اكتفى بالتأكيد على أصالة نهج الشهيد الصدر ونقاوة فكره، ومتانة برهانه، ومنهم من صعّد الاستنكار والاحتجاج، وطالب آخرون بمحاكمة صاحب المقدمة..

ما هي العلاقة التي كانت تربط الشهيد الصدر بباقي المراجع في النجف الأشرف؟ ما هي الأقوال والردود على إعلان مرجعية الشهيد السعيد آنذاك؟

كان «ره» سباقاً لمد جسور اللقاء مع المراجع بشكل مكثف منذ عهد السيد الحكيم «ره»، وكان يكن احتراماً كبيراً لدور المرجعية العليا في النجف الأشرف، ولا أدل على ذلك الكلمة الخالدة في حق الإمام الخميني «ره» بعد انتصار الثورة الإسلامية، وكلنا يعلم مدى خطورة هذه الكلمة على حياته آنذاك.

ممكن تتحدثوا لنا عن الجانب الروحي والعبادي فى حياة الشهيد الصدر؟

أول صوت شق أذن الصمت في جدار روحي ونفسي هو ذلك الشريط «الكاسيت» الذي يحمل اسم حب الدنيا وحب الله للشهيد الصدر، لقد كان صوتاً خاشعاً متهجداً، كأنه صوت ينزل من السماء لينظفنا من غبار اليأس والقنوط، إنه صوت ملائكي، ولطالما تلذذت بسماعه قبل ثلاثين عاماً، إنه يحمل كل روحانية من سبقه من الروحانيين والعباد.

أرجو أن تبينوا لنا كيف أنّ الشهيد الصدر قد طوّر المرجعية من الحالة التقليدية إلى أن سمّاها بالجهاز المرجعي أو بالنظام المرجعي، وجعل فيها وكلاء وما شابه؟

هو ما يمكن أن يطلق عليها بالمرجعية المؤسسة وذلك لسببين:

1 - يرى الشهيد الصدر أنه مضافاً إلى الصفات المؤهلة للمرجع، لا بد من توفّر صفات أخرى لكي يكون المقلَّد في الفتيا مرجعاً للشيعة، لأنّ المرجع أصبح في الواجهة السياسية في العالم، بعدما أصبحت مسألة الطوائف أو الأديان تمثل وجهاً من وجوه الحركة العالمية... وقد أصبحت الناس ترجع إلى المرجع في القضايا السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك من الأمور التي تقتحم على العالم الإسلامي كل مواقعه وقضاياه.

2 - وكذلك، فإنّ الفقيه لا يستطيع - في المرحلة الحاضرة - أن يعيش خارج نطاق قضايا عصره، باعتبار أنّ قضايا العصر حتى في الأمور الفقهية، تمثل موضوعات الأحكام التي يحتاج المجتهد أن يستنبطها ويحدّدها كمنهج إسلامي في الحياة.

ولذا يكمن الحل في منهجية العمل للمؤسسة المرجعية على أساس دائرتين رئيسيتين:

الأولى: إبعاد المرجعية عن الصفة الشخصية، وجعلها مؤسسة متكاملة موحَّدة لا تعيش الفواصل في شخصيات المراجع، ولا يتحدد امتدادها الزمني بحياة المرجع، بل تضم مختلف الطاقات التي يحتاجها المرجع «رئيس المؤسسة» في إطلالة المرجعية على العالم، فيستفيد من تجارب السابقين ضمن التراث المتوفر لدى المؤسسة، وتستمر من بعده من خلال المرجع الذي يأتي بعده.

الثانية: أن تتخلى المرجعية عن حالتها التقليدية في الميل إلى الوسط الحوزوي بعيداً عن الاهتمامات العامة في حياة المسلمين، فلا بد للمرجعية أن تطلّ على قضايا العالم السياسية والثقافية والاجتماعية.

سماحة الشيخ أنتم على بينة بأنّ الشهيد الصدر «ره» قد أعطى القرآن الكريم أولوية في أبحاثه وكتاباته، فدعا إلى إتباع منهج جديد في تفسير القرآن، فكان التفسير الموضوعي في محاولة منه لجعل المفاهيم القرآنية أكثر حركية ومرونة وحيوية، واعتمد مقولة السنن الطبيعية والإلهية في تفسير حركة التاريخ والإنسان.. أرجو أن تعطونا لمحة عن إبداعه في بعده الاجتماعي؟

لو رجعنا إلى التفسير الموضوعي للقرآن لرأينا أنّ الشهيد الصدر «رحمه الله» عالج عناصر المجتمع، مقارنة بالأطروحات الفكرية والاجتماعية الوضعية. وفي عرضه هذا نتناول للعنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع، وهو العلاقة الاجتماعية.

فالعلاقة الاجتماعية هي العنصر الثالث في تركيبة عناصر المجتمع الثلاث، وهي: «الإنسان، الطبيعة أو الأرض، والعلاقة الاجتماعية». وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه العناصر الضرورية لقيام المجتمع الإنساني من خلال النص القرآني، حيث قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك [البقرة: 3].

وبينما نجد أنّ جميع المجتمعات تشترك بالعنصرين الثابتين الأساسين «الإنسان والطبيعة»، فإن هذه المجتمعات تختلف بالعنصر الثالث المرن والمتحرك، أي في العلاقة الاجتماعية، فكلُّ مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها.

والتعبير القرآني الوارد في النص عن هذه العلاقة هو الاستخلاف الذي يتضمن الأطراف التالية: المستخِلف وهو الله تعالى، والمستخلَف وهو الإنسان وأخوه الإنسان، والمستخلف عليه وهو الأرض.

والعلاقة الاجتماعية تتضمن خطين:

الخط الأول: خط علاقة الإنسان مع الطبيعة، وهذا الخط يواجه مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة، وذلك لتمرد الطبيعة وعصيانها عن الاستجابة للطلب الإنساني. والحل الموضوعي لهذا التناقض يكمن في قانون موضوعيّ، وهو التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة بشأن الطبيعة، فكلما ازداد الإنسان خبرةً بلغة الطبيعة وقوانينها ازداد سيطرةً عليها، وكلما ازداد ممارسةً في مجالها ازداد خبرة بقوانينها. وهذا القانون بنموِّه وتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة. ولعل في الآية الكريمة: ﴿وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها [ابراهيم: 34]، إشارة إلى هذا القانون الموضوعي، لأن الآيةة الكريمة لا تعني السؤال اللفظي الذي هو الدعاء، لأنها تتكلم عن الإنسان ككل، الذي يؤمن والذي لاا يؤمن.

والخط الثاني: خط علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، وهو الخط الذي يواجه مشكلة التناقض بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهو التناقض الذي ينشئ صيغاً مختلفة ولكنّ له روحاً عامة، هي التناقض ما بين القوي والضعيف. والقوي قد يكون فرداً فرعوناً، وقد يكون طبقة، وقد يكون شعباً أو أمة، والصراع هو نتيجة هذا التناقض، لأن القويَّ يعمل على استغلال الضعيف.

وأساس هذه التناقضات في نظر «القرآن» ناشئة عن تناقض رئيسي: وهو ذلك الجدل الإنساني بين حفنة التراب وبين أشواق الله سبحانه، وما لم ينتصر أفضل النقيضين فسوف يظل الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة لدى الإنسان والمجتمع.

من هنا يؤمن الإسلام بأنّ الرسالة الوحيدة القادرة على حل هذه المشكلة هي تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة، وفي نفس الوقت تعمل على تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية، وإلا فإنّ العمل على تصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية وحدها فقط يُعَد نصف العمل، لذا علينا أن نؤمن بجهادين: «الجهاد الأكبر»، جهاد النفس الذي فرضه الإسلام وسماه لتصفية التناقض الناشئ عن الجدل الداخلي، وهو جهاد في وجه كل صيغ الاستئثار والسيطرة، وهذا خلافاً للنظرة المادية الضيقة التي فسرت بها المادية وفسر بها الثوار الماديون التناقض الحاصل في المجتمع، فماركس على رغم ذكائه، لم يستطع تجاوز النظرة التقليدية الأوروبية التي ترى أن العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الأوروبية، كما لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادية التاريخية، ولذا ردّ كل التناقضات إلى هذا التناقض الطبقي الحاصل بين طبقة تملك وسائل الإنتاج وطبقة لا تملك شيئاً وإنما تعمل من أجل مصالح الطبقة الأولى، فإذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الفرعية والثانوية.

فخط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف إذاً شكلاً وقانوناً عن خطِّ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ولكنَّ هناك تأثيراً متبادلاً بين هذين الخطين يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيتين لهذين الخطين.

العلاقة الأولى: التي تبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على الخطِّ الآخر، ومؤداها، هو أنه كلما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة وسيطرته على وسائل إنتاجها، تحققت بذلك إمكانية أكبر للاستغلال على خطِّ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿كلا إنَّ الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى. [العلق: 6 - 7]. ففي حياة الإنسان البدائية عندما كانت أداة الإنتاج هي اليد والحجارة، هذا المجتمع لا يمكن أن يقوم فيه استغلال، ولكن في المجتمع الجديد، حيث صنع الإنسان الآلة البخارية والكهربائية المعقدة، توفرت عند الإنسان أداة الاستغلال لأخيه الإنسان، فالإنسان هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل، والآلة فقط تهيئ له الفرصة وتفتح شهيته، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية التي اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال وتضع النظام المتناسب لها. إن دورها هو دور الإمكانية والقابلية، والإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي، لمثله الأعلى، هو الذي يضع النظام.

وأما العلاقة القرآنية الثانية، التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤداها أنه كلما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وقيمها، كلما ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، فأظهرتت كنوزها وثرواتها. وهذا ما شرحته نصوص قرآنية متعددة.. ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا[الجن: 16].

﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66].

﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون[الأعراف: 96].

من هنا نفهم بأنه كلما ازدهرت العدالة وتحكمت في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ازدهرت علاقاته بالطبيعة والعكس صحيح. وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط كما نؤمن به، ولكنها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم.

فمجتمع الفراعنة - أي مجتمع الظلم والاستعباد والاستئثار - على مر التاريخ، مجتمع ممزق مشتت، طاقاته ممزقة، لذلك لا يستطيع حشد قواه الحقيقية للسيطرة على الطبيعة، وهذا هو الفرق بين المثل العليا الفرعونية المنخفضة وبين مثل التوحيد لله سبحانه الذي يوحد البشرية ويصهرها في وحدة متكافئة، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون[الأنبياء: 92]..

برأيكم.. الشهيد الصدر من خلال طرح التفسير الموضوعي هل استطاع التأثير على نمو وتطوير المفاهيم القرآنية وأيضاً تطبيق التعاليم القرآنية في المجتمع؟

الشهيد الصدر اختار الاتجاه الموضوعي لغرض إحياء الواقع، حتى لا تكون فجوة بين القرآن والواقع والقرآن بنظرياته وقوانينه هو منزل للواقع وليس خارج الواقع، لذلك اهتم الشهيد الصدر بالمواضيع العامة والاجتماعية التي تهتم بحقيقة ملامح الواقع وهدف الشهيد يدور حول الواقع وإذا كان القرآن خارج الواقع وهذا ليس هدف القرآن وهدف السيرة النبوية وسيرة الأئمة والنظر في الواقع هو الأصل في هذه النظرية القرآنية.

ما هي غاية الشهيد الصدر باختيار أسلوب التفسير الموضوعي للقرآن الكريم وهل هذا الأسلوب يعطي مجالاً لتدخل التجارب البشرية في نص التفسير؟

الشهيد الصدر يرى أنه لا بد من الوصول إلى تفسير كلي نظري يشمل كل الوقائع والتفصيلات، وهو لا ينفي في الحقيقة وجود تفسير ترتيبي، بل يقول إنّ التفسير الترتيبي يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن، أما التفسير الموضوعي هو يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن.

وهذا يذكرني بمقولة للإمام الخميني عندما سئل عن المفارقة بين الدعاء والقرآن فأجاب بعدم وجود مفارقة ف «الدعاء قرآن صاعد، والقرآن دعاء نازل».

ويعتقد الشهيد الصدر أنه توجد المواضيع والنظريات الكثيرة حول السنن التاريخية، المذهب الاقتصادي، النبوة، النظام السياسي والإداري في القرآن الكريم وكل هذه المواضيع تحتاج إلى دراسة القرآن الكريم.

نظراً إلى أهميه أسلوب التفسير الموضوعي واهتمامه بواقع المجتمع والحياة من منظار القرآن، هل طرح هذا الموضوع من قبل الشهيد الصدر استطاع التأثير في الصحوة الإسلامية؟

نعم بكل تأكيد وإلا لما كانت نسبة قراء كتبه في تونس - وهو بلد علماني - تصل إلى أعلى رقم في القراءات الإسلامية 54% حسب الإحصائيات التي قدمتها دراسات الوحدة العربية 1983م.

ما هي الكلمة الأخيرة التي تحب أن توجهها في هذا الحوار؟.

استطاع السيد محمد باقر الصدر «ره» أن يفتح للتفكير الإسلامي أفقاً جديداً لم يُعهد من قبل سواء في التفسير العميق للمفاهيم الإسلامية في حركة الإنسان في الحياة، أم في التأصيل المنهجي للمذهب الاقتصادي في الإسلام، أم في الانفتاح على واقع الإنسان كله؛ عبر عملية تزاوج حركي بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان وجوداً ومسؤولية، وبين الإنسان والله حيث يتكامل فيها إرادة الإنسان بين يدي الله عز وجل.

ثم انطلق «ره» ليكتشف السنن التاريخية في القرآن، باعتبار أنّ هناك سنناً تاريخية تحكم حركة الإنسان وتمثل الخطوط العامة لحركته الإنسانية بطريقة شعورية أو لا شعورية، لأنّ القوانين الحتمية التي أودعها الله في الكون وحرّكها في الحياة ليست دائماً حالة شعورية في الكائن الحي، بل قد تنطلق لتحكمه من خلال نظام دقيق يمكن أن تكون للإرادة فيه بعض الشيء، بحيث يتحرك في السنّة التاريخية لتكون إرادته جزءاً من هذه السنّة.

لقد استطاع أن يكتشف بعضاً من هذه القوانين، واستطاع أن يتحرك بالاكتشاف إلى قاعدة للتأصيل وأن يُطلق القاعدة المؤصلة من أجل اكتشافات جديدة.

ومن خلال ممارستنا اليومية لبعض من وقف على حياته الفكرية نؤمن أنّ الفكر الإسلامي كان شيئاً قبل أن يجيء السيد محمد باقر الصدر وصار شيئاً آخر بعد أن ودّع الحياة محدثاً بذلك نقلة نوعية في عالم الفكر، فلم يكن «ره» إنساناً يعيش في صومعة العلم ليجلس بين مفرداته ليكتشف منها ما يكتشف وليؤصل منها ما يؤصّل، ولكنه كان إنسان المسؤولية في الحياة.