النفاق وأثره في واقع الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [1] .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال ابن كثير في البداية والنهاية في المجلد الثامن في حق الإمام الحسن بن علي : وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه، وكذلك عمر بن الخطاب... وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما... وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعم عليه [2] .
الأحاديث في الإمام الحسن كثيرة من الفريقين، فقد قدم من خلال شخصيته المقدسة شخصية الإنسان المسلم المتوازن في كل ما يصدر منه. لم يغمز فيه إلا من تحركت في داخله حسيكة النفاق. وقد أطبق الفريقان على عظمته، فالشيعة بما يقولون به من إمامته والالتزام بها، والمخالفون بما يرون له من التقدم لقربه من رسول الله ﷺ ومحمود سيرته، بل تقدموا أكثر من ذلك في وصفه بالسيد اقتداءً بما جاء في النص المعروف.
والنص الذي ذكرته لابن كثير وهو معروف في مساحته التي تحرك فيها يقدم لنا هذه الشهادة الطويلة العريضة ذات العمق في دلالتها.
لكن الإمام الحسن اعترضت طريقه مجموعة من العقبات بعضها واكب مسيرته منذ الأيام الأولى لشهادة أبيه الإمام علي ومصير الخلافة إليه، وبعضها لم يتكشف إلا بعد أن دخل في مساحة الصلح مع خليفة الشام.
ويمكن لنا أن نقسم المجتمع آنذاك إلى أقسام ثلاثة: المناصرون، المتفرجون، المنافقون، وربما لا يخلو مجتمع من هذه الأصناف الثلاثة، غاية ما في الأمر أنه يتم تبادل الأدوار بناء على ما يشغل الساحة من قريب أو بعيد. فالنفاق شكل العقبة الكؤود التي اعترضت حركة الإمام الحسن خصوصاً بعد تصديه للخلافة في موقعها الظاهري.
والنفاق هو إخفاء شيء وإظهار خلافه، ومنه: نافق الضب، باعتبار أن الضب يجعل لجحره أكثر من مسرب وطريق، فإذا ما دُوهمَ من جهة خرج من الأخرى، إما المعاكسة أو أنه يراوغ في إحدى الجهات.
والإنسان الذي لا يحمل الوازع الإيماني الديني يمارس هذا الدور، فهو ينهج في مسار ظاهري حال أنه يسلك مسلكاً آخر في الباطن يطرحه عند الحاجة. ونحن نقول في اصطلاحاتنا: فلان يراوغ، وهي عبارة مخففة من الثقيلة، وإلا فإن المؤدّى واحد.
فمن هم المنافقون الذين أثقلوا كاهل النبي ﷺ وأتعبوا الإمام علياً وشقوا على الإمام الحسن وقتلوا الإمام الحسين ؟ ومن هم أبناؤهم مرحلة بعد مرحلة، وقرناً بعد قرن حتى الفترة التي نعيشها، والقادم أيضاً؟
لقد قدم لنا القرآن الكريم سورة كاملة في ملف النفاق سماها «المنافقون» وكان فيها خطاب مباشر للنبي ﷺ: ﴿إِذَا جَاءَكَ المنَافِقُوْنَ﴾ [3] فالذين جاؤوا للنبي ﷺ وسماهم الله بالمنافقين لم يكونوا من مشركي مكة، ولا من كفار الحبشة، ولا من اليهود الذين دخلوا في الإسلام، إنما كانوا ممن أعلن الشهادة بين يدي النبي ﷺ وممن ائتموا به في صلاته، وممن سمعوا منه، بل وصلتنا الكثير من الأحاديث عن طريق البعض منهم. فهم بالنتيجة من هذا الصنف.
ثم إن القرآن الكريم لم يكتف بسورة واحدة في وصف أحوالهم، إنما وزع مجموعة من الآيات في ثنايا القرآن الكريم من الأجزاء والأحزاب والسور، وهي الآيات المنددة والشاجبة والكاشفة لهم.
يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً﴾ [4] وهذا الكلام لا يقوله المنافقون في وجه النبي ﷺ إنما يقولونه عندما ينفردون بأمثالهم من المنافقين. بل إنهم يحافظون على موقعية القرب منه ﷺ والوقوف في الصف الأول خلفه وغير ذلك.
ويخطو بنا القرآن الكريم خطوة إلى الأمام فيقول: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ [5] . وهؤلاء أيضاً لم يأتوا من أصقاع الأرض البعيدة، بل كانوا ممن أسلموا وأظهروا حالة من التفاني في سبيل الإسلام في الشكل الظاهري، ولكن ما انطوت عليه صدورهم يخرج بين الفينة والأخرى على صفحات الوجه وفلتات اللسان.
وبطبيعة الحال أن هناك من ينقل الأخبار، وقد بلغت أخبارهم إلى مرحلة من الوضوح والكشف والبيان بحيث صارت من القضايا التي أقيستها معها.
ثم يأخذنا القرآن الكريم إلى الأمام قليلاً فيقول: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون﴾ [6] فكانوا يقولون: إن النبي ﷺ لديه محاباة لقرابته وجماعة من الصحابة الذي واكبوا مسيرته من مكة إلى المدينة، وهم المهاجرون، وأثر هذا الجو في المشهد، وهذه حالة طبيعية.
ثم إن المنافقين من نفس النسيج، وربما يتصف بعضهم بصفة البدرية، وربما كان بعضهم في الصفوف المتقدمة في أحد والخندق والأحزاب.
ثم لا يكتفي القرآن الكريم باستعراض هذه الصفة، وهي التشكيك في النبي ﷺ في جانب التعامل مع بيت مال المسلمين، وهو لون من ألوان النفاق، فيقول عنهم واصفاً حالهم بصفة أخرى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ﴾ [7] . أي حاصروهم، ولا تعطوا صدقاتكم لمن هو قريب من النبي ﷺ ولا أخماسكم ولا زكواتكم كي لا يستقووا عليكم، وهو لون من ألوان السلوك في طابور النفاق.
والمنافقون لا يفقهون، فالمنافق دائماً وأبداً هو أبعد ما يكون عن دائرة الفقاهة والمعرفة.
ثم يخطو بنا القرآن الكريم خطوة للأمام فيقول في وصف حالهم: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [8] . والقرينة واضحة هنا أن استهزاءهم كان بالنبي ﷺ فقد وصل بهم النفاق إلى مرحلة جعلوا فيها النبي ﷺ موضوعاً لاستهزائهم!.
ثم يأخذنا القرآن الكريم إلى مساحات أخرى ويبسطها على المصداق الخارجي فيقول: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [9] . فالمنافقون لم يكونوا فقط من المناطق النائية عن المدينة، إنما كانوا من المدينة من شريحة الأنصار، الذين استضافوا النبي ﷺ ووضعوا أرواحهم على أكفهم، واستشهد الكثير منهم في أحد، وممن ناصروا النبي ﷺ قبل ذلك في بدر. إلا أنهم مردوا على النفاق، أي تدربوا عليه وتمرنوا. والقرآن الكريم يعبر بهذا التعبير الدقيق عن النفاق فيقول: مردوا على النفاق، ولم يقل وظّفوه مثلاً، أو اتصفوا به، أي أصبح النفاق من الخصائص المميزة لهم المستقرة في داخلهم. وصار النفاق يتحرك معهم أينما ذهبوا، وأصبح يشكل صفة وسمة لهذا الطابور الذي يسمى اليوم في العرف السياسي الطابور الخامس، وهو الذي يحدث الخلل في كيانات الدول إذا لم يلتفت إليه منذ البدء.
إن هؤلاء المنافقين يحسبهم الواحد منا إلى جانبه، وربما يقدمون له بعض الامتيازات، ولكن سرعان ما يتخلون عنه، كما حصل في معركة أحد. إذ انتصر المسلمون بادئ ذي بدء، ولكن التف عليهم خالد بن الوليد، بعد أن نزل الرماة من الجبل متمردين على قول الرسول ﷺ، وهم من الصحابة، فأوقع خالد في المسلمين هزيمة منكرة، وقُتل حمزة، ولولا علي ونفر من الصحابة لقتل النبي ﷺ في تلك المعركة حال أنهم في تلك المعركة كانوا يمتلكون من القوة ما لم يكن ما نسبته عشرة في المئة مما كان لديهم في معركة بدر، لكن تلك المعركة حسمت لصالح المسلمين. فكان السبب والخلل في حركة الطابور الخامس.
وينقلنا القرآن الكريم إلى صورة أخرى في هذا الصدد حيث يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [10] فهم في الظاهر مسلمون، والإسلام عندهم مظهر، أما الواقع فعلى الخلاف من ذلك تماماً. لذلك خاطبهم القرآن الكريم على نحو الحقيقة التي تنطوي عليها صدورهم. فهؤلاء يتفقون سراً مع الكافرين من أهل الكتاب، أنهم إذا أخرجوا من المدينة بقرار من النبي ﷺ بطردهم فإنهم سوف يخرجون معهم، ولا يطيعون فيهم أحداً، أياً كانت الظروف، وأياً كان الشخص صاحب القرار. ولكنهم حتى في هذه كذبوا، وقد شهد الله تعالى بكذبهم.
والإمام علي ابتلي أيضاً بهذه النمرقة وهذه الطائفة والشريحة من الناس، حتى قال لهم: «لقد ملأتم قلبي قيحاً» [11] فكانوا يأتمون به، ويأخذون العطاء من يده، وبعضهم ربما شغل بعض المناصب في الدولة الإسلامية في خلافته لكن النتيجة أنهم ملأوا قلبه قيحاً، وكانت أوامر علي للمسلمين في أيام خلافته لا تتعدى حدود آذان أولئك الذين كانوا في محضره أبداً.
لذلك عندما رفع علي لواء العدالة العامة بين بني البشر أسقط مشروعه وتم وأده في الخطوات الأولى، لا بفعل جيش الشام كما يتصور البعض، إنما بفعل تلك الجماعة المنافقة في داخل الكوفة أولاً وبالذات.
أما الإمام الحسن فقد ورث تركة ثقيلة معبأة بالدماء والأحقاد والنفاق جراء كلمة الصدق التي رفعها علي وراية الإسلام الحق التي رفعها علي والتي جرت الدماء عن يمينها وشمالها وفي جميع نواحيها، بدءاً بالجمل وصفين والنهروان. والقتلى في تلك المعارك كانت لهم قبائل وعشائر وهناك عصبية عربية ضاربة حتى النخاع، فكان للإمام الحسن أن يدفع الضريبة قاسية جداً.
ظروف صلح الإمام الحسن :
لقد تمت البيعة من عموم المسلمين للإمام الحسن من مسلمي الجزيرة العربية واليمن والعراق وغيرها، إلا الشام وخليفتها، وهنا نجد أن الملف طويل عريض، ولا يروق لي أن أستعرض التاريخ بقدر ما يروق لي الدخول في فلسفته، فقراءته وحفظه لا تقدم ولا تؤخر كثيراً في المشهد، أما استنطاقه وسبر غوره من زاوية فلسفته وما له من أثر على المشهد، فهو ما يجعلنا ننتفع به في حاضرنا.
ومن هنا ندرك أن واحدة من أهم الخطوات التي قام بها الإمام الحسن هي مسألة الصلح. فهل كان صلح الإمام الحسن اختيارياً أو كان مفروضاً عليه؟ وهل كانت الشروط تقييدية أو كانت إملائية من قبله على خليفة الشام؟ ألم تكن لدى الإمام الحسن المعرفة التامة بما كان عليه الحال في مجتمع الكوفة جراء ما رأى وسمع أيام أبيه الإمام علي .
كل ذلك متاح في مساحة البحث، لا من باب الرد على المعصوم كما قد يتوهم البعض عندما تعرض أمامه قضية من هذه القضايا، فيتصور أن المتسائل يرد على المعصوم، في حين أن المتسائل يريد أن يستكشف حقيقة الحال من وجهة نظر تاريخية، أما الرد على المعصوم فلا يمكن أن نتصوره ممن يقول بإمامة المعصوم، وهو محرّم شرعاً. أما قراءة النص واستكشافه فلا بد أن يكون بطرح الاحتمالات ودراستها، بل قد لا يكون النص التاريخي صحيحاً من أساسه.
وإذا كان الأمر هكذا في مناقشة ما ينقل عن المعصوم ومحاولة دراسته، فمن لم يكن معصوماً أولى بذلك، كالصحابي مثلاً أو العالم أو أمثالهما. فالشريعة تكفل لنا ذلك وتأمرنا بالتدبر.
إن ذلك الصلح أحدث حالة من الارتباك في صفوف جيش الإمام الحسن ففي معسكر النخيلة كان هناك اثنا عشر ألف مقاتل في جيشه، ولا شك أن أكثر هؤلاء لم يكونوا يطيقون سماع خبر الصلح.
ولو رجعنا قليلاً إلى أيام ما حصل بعد النبي ﷺ نجد أن الإمام علياً أُخذ من بيته ووضعت العمامة في عنقه، وراح القوم يسحبونه كالجمل المخشوش كما وصفه معاوية وهو يعيره، حصلت ربكة في صفوف أقرب المقربين للإمام علي من هول الموقف وصدمته، فهذا الرجل الشجاع الذي حسمت المعارك بفضل جهاده، وهو القائل: «لو تظاهرت العرب على قتالي لقاتلتها» [12] ، كيف يمكن أن يكون بهذه الحال؟ فلم يتحملوا ذلك، حتى أن عماراً الذي يقول عنه النبي ﷺ: «إن عماراً ملئ إيماناً إلى مُشاشه» [13] . وفي رواية: «إن عمار اًملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» [14] . «إلا أنه حاص حيصة ثم رجع» [15] .
من هنا لا بد أن نعرف أن الصدمات التي تحصل اليوم ليست أمراً جديداً، شرط أن تكون لدينا خلفية تراثية نستحضرها عند الحاجة ليكون لنا في سيرتهم عبرة.
فالإمام الحسن كان في جيشه رجلان يعدّ الواحد منهما بألف، إلا أنهما دخلا في مساحة ما يناسب وما لا يناسب، وما يعقل وما لا يعقل. الأول هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، شيخ الخزرج، وكان أبوه المرشح الأول للخلافة إلى جانب أبي بكر، فالمهاجرون الحاضرون في السقيفة قدموا أبا بكر ليكون خليفة، فيما اختار الأنصار سعد بن عبادة الأنصاري، وحسمت الأمور لصالح أبي بكر، أما سعد بن عبادة فاختفى عن الأنظار، فقيل إنه قتلته الجن [16] !
هذا الرجل العظيم أعني قيس بن سعد يقول في حقه أحدهم: لولا أنه ليس له لحية لملّكناه زمام العرب. فهو رجل حكيم شجاع كريم من أسرة كريمة، إلا أن هذا القائل يرى أنه لا يصلح أن يكون ملكاً للعرب بسبب عدم وجود لحيةٍ له.
كان قيس بن سعد من خلص أصحاب أمير المؤمنين وقد ولاه أمر مصر، ثم التحق بالإمام أمير المؤمنين في الكوفة، ثم كان في جيش الإمام الحسن فلما جرى الصلح اعترض على الإمام الحسن . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأئمة لم يكونوا يمارسون دور السلطة الدينية على الطرف المقابل إنما كان يفصل السلطة الدينية في المصادرة والضغط والإكراه وغيرها، عن واقع الطرف المقابل، فكان يتعامل على أساس واقع الطرف المقابل، بمعنى أنه يسمع منه ويصغي ولا يرميه بالكفر أو النفاق أو غير ذلك.
والشخص الآخر هو حجر بن عدي الذي لا يختلف عليه اثنان، فهو شيخ مرج عذراء، وسيف من سيوف علي وصحابي جليل من الدرجة الأولى المتقدمة، إلا أنه عندما حصل الصلح توقف، حتى اجتمع الإمام الحسن ومعاوية بن أبي سفيان وكان حجر ممن حضر في ذلك المجلس، وتم ذكر البنود والشروط وغيرها، قال حجر للإمام الحسن : أما والله لوددت أنك متّ في ذلك اليوم، ومتنا معك، ولم نرَ هذا اليوم! وإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبوا.
إلا أن الإمام الحسن يقول له: يا حجر، قد سمعت كلامك في مجلس معاوية وليس كل إنسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلا بقاءً عليكم.
هذا هو منهج الأئمة في التعاطي مع المحيطين بهم، أما نحن فأمرنا مختلف، إذ هنالك بند يسمى النفاق الاجتماعي، فتجد من يقبّل رأسك لكنه يطعنك في الخلف:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلبُ
صحيح أنهم أفراد قلائل إلا أن ضجيجهم عالٍ، بحيث إنني إلى اليوم لم أكتب شيئاً ولم أردّ ولا بحرف واحد أبداً. فأنا أعيش بأمان واطمئنان والحمد لله، أقرأ وأكتب الشعر وأمارس حياتي بهدوء، أما الآخرون فهم وشأنهم، ولا شأن لي بهم، طالما أن علاقتي بالله تعالى سليمة ونيتي حسنة، وكذلك علاقتي بجمهوري الذي أحببته وأحبني.
فمن مظاهر النفاق الاجتماعي:
1 السكوت عن الأخطاء التي يقوم بها الآخرون حتى يكون الساكت منهم، فهو يدرك أن ما يصدر منهم خطأ، ثم يصدر خطأ آخر، ويسكت، حتى يبلغ به الحال أن يكون من صنّاع الخطأ، ويتحول إلى نفس المنظومة.
2 ومن مظاهره أيضاً زرع روح الانهزام أمام الواقع: وهذا الأمر ينتج عنه الإخفاق في تحقيق الإنجازات، فترى الدفعة قوية والصدى عالٍ لكن النتاج ضحل بسيط لا يلتفت إليه.
3 الفجور في الخصومة: إذ يكون المنافق اجتماعياً فاجراً في خصومته، يكذب ويفتعل ما لا أساس، ويجعل من الكذب مطية.
4 إغراء الآخر بالجهل: فيشجعه على فعله، ويقول له: حسناً فعلت، إلا أنه يكذب في قوله، ويصدّقه الآخر لأنه منافق أيضاً. ويمكنك أن تدرك أن المقابل منافق أذا مدحته فرأيته يحب المدح كثيراً.
وهذا المنافق سرعان ما يصطدم بالحقيقة وما هو عليه واقعاً، ففي المراحل الثلاث الأولى لا يلتفت أنه منافق، لذلك يسير بنفس الاتجاه، ثم يلتفت أنه منافق فيعكس المسير. والسبب في ذلك ضحالة الفكر، وأشياء أخرى.
ورب سائل يسأل عن سبب التطرق لهذا الموضوع فأقول: إننا نمرّ على الأحداث دون أن نستفيد منها الدروس والعبر، لذلك نكرر الأخطاء مرةً بعد أخرى، فهذه الأحداث كانت في زمن النبي ﷺ والإمام علي والإمام الحسن وحتى الإمام الحسين فقد دعاه أكثر من ثمانية عشر ألفاً، ثم كانت قلوبهم معه وسيوفهم عليه. ولم يثبت في نهاية المطاف سوى سبعين أو أكثر بقليل.
وقد تطرقت لهذا الموضوع من أجل التأسيس لما سوف أدخل فيه من بحث وهو: من هو الفقيه؟ ومن هو ربان سفينة الأمة في زمن الغيبة، فلا أستطيع البناء على أرضية تم البناء عليها من قبل، فلا بد من الإزالة واستصلاح الأرض أولاً.
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا لما فيه الخير والصلاح، وأن نتقدم شيئاً فشيئاً في كشف مجموعة من المفاهيم المهمة ومنها «الفقيه».
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.