آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

رائحة الريحان

علي عيسى الوباري *

منظر مألوف عند نساء القرى إلى حد الآن، خصوصاً من ارتبطن منهن بزمن البساطة والعفوية، فهنّ يعشن الأصالة والتراث. منظر معتاد، تجدهن يمشين بالشوارع، يخرجن من بيوت الجيران لإحياء مناسبات فرح وأعراس.

فجأة!

يتوقفن بشارع عندما يشممن رائحة الريحان ويلمحن أوراقه الخضراء، التي تزين الشوارع تراقصها نسمات الهواء الخفيفة، فيجذبهن رائحة المشموم ليقطعن أغصان وأوراق الريحان.

إنه عبق التاريخ باق في ذكرياتهن ورائحة الأجداد وأصالة الروائح وارتباط الرائحة العطرة بالتربة والتاريخ.

يتحدث الأجداد والآباء عن قارورة عطر تسمى «بنت السودان» إحدى مستلزمات الأعراس تحضر من البحرين، هذا العطر ذو الرائحة العبقة الذي يعكس بيئته الاجتماعية، اقتصر الاستيراد فيه على سلع ومواد بسيطة من العراق والهند.

للعطر حكاية مع الرائحة!

فالرائحة محرّكة لإحدى الحواس الخمس المعبرة عن ترجمة حاسة الشم، ونحن هنا لا نتحدث عن رواية «باتريك زوسكنيد» ولا نقصد مراسلات «فلوبير» مع «لويز كوليه» هذه المراسلات التي تعبر عن رائحة الحذاء والمناديل ولا ننسى الروائية «جورج صاند» في روايتها التي تصف رائحة الاعشاب بالأرياف.

ارتبطت الروائح بالمشاعر والعواطف للبشر والكائنات الحية، فقد تعبر عن حب أو كره حتى في الحيوانات أو النباتات، فتترجم أحاسيسهم بواسطة الروائح.

والرائحة، تعد أحد أسباب تكوين العلاقة بين المكان والمكين، فالفلاح لا ينسى رائحة الزهور والليمون والترنج والنخلة ونباتها حتى المنازل والاماكن الأثرية يصعب على الساكن أن يهجرها فيعبر عن ولائه للأرض والتربة والملابس والجدران ببقاء روائحها في ذاكرته.

كذلك من الكائنات وأهمها الإنسان، يميل ويشتهي وجبة معينة او فاكهة من خلال رائحتها

حتى القرى والمدن ارتبطت بروائح معينة مثل رائحة القهوة في مقهى الكافيه دي باريس بشارع الحمراء ببيروت أو بمقهى الفيشاوي بالقاهرة أو مقهى اللونا بارك بدمشق أو برائحة الكتب بشارع المتنبي ببغداد.

رغم أن العطر يثير أهم الحواس الإنسانية، شنّ افلاطون هجوماً لاذعاً على الرائحة والعطر!

وعبّر عنها بتعبيرات لا تتناسب مع فلسفته بالحياة بعكس سقراط الذي ربط العطر بالانتماء الاجتماعي والمعبر عن شخصية الفرد.

كيميائية الشم تعبر عن إحساس وتفاعل لإحدى حواس الكائنات المخلوقة، وهي من مؤشرات الانجذاب للرائحة الطيبة والنفور من الكريهة والخطرة.

كثير من الافراد ارتبطت ذكرياتهم بالروائح بأماكن أو مناسبات. الروائح والعطور تبقى في الذاكرة كأي انعكاس لإحساس او تذوق محدد رغم أنها تتبخر لكن أثرها باق في الأنف ومخزنة بالدماغ.

ومن الملاحظ أن الأدب العربي وخصوصاً الشعر لم يشبع حاسة الشم، والروائح للزهور والعطور رغم أنهم تغنوا بالمصدر، لكن شعراء العصر الحديث كتبوا للعطر ومنهم * ”نزار قباني“ * الذي يقول عن نفسه ولدت في دمشق عام 1923 ببيت وسيع، كثير الماء والزهر، من منازل دمشق القديمة وهو صاحب قصيدة «قارورة عطر» *هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة؟ *

الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك،

وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسمائها، لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب،

وعشرون صحيفة فُل في صحن الدار هي كل ثروة أمي.

كذلك يقول الدكتور غازي القصيبي:

تعالي دقائق نحلم فيها بنافورة من رذاذ القمر

بأرجوحة علقت في النجوم بأسطورة من حديث المطر

بكوخ على الغيم

جدرانه ظلال وأبوابه من زهر

بخيمة عطر

يعب الغروب شذاها ويسكر فيها السحر.

‏مدرب بالكلية التقنية بالأحساء،
رئيس جمعية المنصورة للخدمات الاجتماعية والتنموية سابقا.