ضد الفتنة.. ضد الطائفية
كان القرار الصادر منذ أسبوع والقاضي بإغلاق قناة فضائية بسبب تهجمها على أحد المذاهب في المملكة قرارا واقعيا وشجاعا، ويشير إلى أن أبرز وسائل التعامل مع الشحن الطائفي تتمثل أولا في إغلاق منابره ووسائله، وهو واقع يحدث في مختلف دول العالم التي تحارب كل مصدر للعنصرية والتحزبات بمختلف أشكالها.
أبرز ما يميز المملكة العربية السعودية أن المتفق عليه واحد، ولكن المختلف عليه كثير ومتعدد، وهذا هو شأن الدولة الحديثة وواقعها، فهي ليست دولة طائفة بعينها ولا دولة فرقة دون الأخرى، إنها دولة الجميع المتنوع الذي يجعل من وحدته الوطنية وسمته الوطنية دائرة كبرى يتحد فيها الهدف والمصير والمصلحة والانتماء. ما عدا ذلك يعتبر إطلاق أية تصنيفات مذهبية أو طائفية مدخلا واسعا للإضرار بالواقع الوطني.
إن الوحدة الحقيقية تأخذ قيمتها من كونها اتحادا للمتنوع والمختلف وليست اتحادا للمتشابه والمتماثل، ذلك المتنوع الذي يشكل التنويعات المذهبية والمناطقية والثقافية والاجتماعية، وهذه أبرز عوامل القوة في التجربة الوحدوية السعودية التي قادها بكل اقتدار وذكاء بل وبمنطق مدني مبكر المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبد العزيز.
وقد تنبه النظام الأساسي للحكم لذلك مبكرا والمادة الثانية عشرة منه تحمل نصا واضحا يؤكد أن «تعزيز الوحدة واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفتنة والفرقة والانقسام» وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بمثل هذه المواقف السريعة والمباشرة من كل منبر إعلامي يحول الطائفية إلى قضية.
في الغالب، لا يمكن أن تتناول مذهبا من وجهة نظر مذهب آخر دون الإساءة إليه، ذلك أن طبيعة الإرث التاريخي للمذهبيات في الإسلام قائمة على كثير من التناحر والتبديع والتفسيق.
وبعض كتب التاريخ تحمل كثيرا من القصص والمواقف التي لو أردنا استعادتها الآن لأدخلتنا في إشكالية كبرى لأنها ستحفز كل مذهب للدفاع عن مذهبه، وهنا يتحول ذلك الاختلاف إلى معركة أبرز ضحاياها هي الوحدة الوطنية.
هنا تأتي مشكلة بعض الوعاظ الذين تتوقف مهاراتهم العلمية والبحثية عند استدعاء القصص وقراءتها وحفظها وإعادة بثها على الأسماع، وتلك إحدى أزمات الوعاظ عبر التاريخ، لأنهم لا ينتجون أي شكل من أشكال المعرفة بقدر ما هم وسيلة للترديد والتكرار.
بكل شجاعة، لا بد من القول: إننا قد ارتكبنا أخطاءً فيما مضى، حدث ذلك حين كان فهمنا للدولة الحديثة لا يزال غضا ومبكرا، وهذا شأن كل الكيانات الحديثة التي انطلقت من واقع ثقافي تقليدي، ومع ترسخ حضور المؤسسات ودورها في حياتنا، أدركنا أن من مصادر قوة هذا الوطن هو ما يحويه من تنوع، وبالتالي فالقضية ليست في الاعتراف بالتنوع ولا بالخوف منه، ولكنها تكمن حقيقة في كيفية إدارة ذلك التنوع.
ليس المطلوب من أي مذهب أن يقتنع بالمذهب الآخر، على الإطلاق، لكن القضية تكمن في التعايش والقبول، أما التصدي لما يراه البعض ضلالات لدى المذاهب المخالفة ممن هم من أبناء وطنه ففي ذلك تجن على قيمة الوحدة ومعانيها ومحدداتها، إضافة إلى أن أقل درجات الوعي تؤكد باستمرار أن التنوع والاختلاف سنة كونية لا يمكن طمسها.
مقاطع الفيديو التي انتشرت عن تلك الحلقات التي أدت إلى إغلاق القناة تحمل كثيرا من الأخطاء حيث ينطلق المتحدثون من فكرة أن ما لديهم من قناعات هو الحق الأوحد الذي يجب دعوة الجميع للإيمان به والتخلي عما لديهم، والحديث عن الخوف على المخالف وطلب الهداية له.
إن مثل هذه الأفكار المثالية هي أبرز مدخل للتناحر لأن من تختلف معه هو أيضا يرى أنه على حق وأنك على باطل. مما يعني أن التعامل الأبرز لا يتم إلا من خلال التعايش والقبول فالدولة واقع، وواقعها يقضي بأن التنوع أبرز أركانها.