آخر تحديث: 12 / 4 / 2025م - 11:36 م

العزلة بين الروح والفكر - جدلية الوحدة في عصرٍ لا يفهم الصمت

عماد آل عبيدان

”أنا واحدٌ من هؤلاء البشر، الذين يفضلون البقاء بلا رفقة، ولكي أكون أكثر دقة، أنا شخص لا أجد في الوحدة أي ألم أو عناء. ولا أجد في قضاء ساعة أو ساعتين يوميًا في الركض وحيدًا بدون التحدُّث مع أحد، وقضاء أربع أو خمس ساعات أُخرى في مكتبي وحيدًا، شيء صعب أو مُمل. حيثُ إنني لدي هذه النزعة منذ طفولتي، فمثلاً عندما يكون لدي خيار، كنت دائمًا ما أُفضل قراءة الكتب في عزلة تامة، عن تواجدي مع أي شخص آخر. فأنا دائمًا لدي أشياء لفعلها وحيدًا.“

— هاروكي موراكامي

هذا الاعتراف الحاد البسيط، القادم من أحد أبرز الأصوات الروائية في عصرنا، ليس مجرد نزوة نفسية أو ميول شخصية لفرد يعاني من رهاب الاختلاط أو رهبة الوجوه الغريبة. بل هو تجلٍّ عميقٌ لما يمكن أن نسميه ”الروح المتعالية“، التي أدركت منذ ولادتها أن الاتصال الحقيقي لا يبدأ من الجموع، بل يبدأ من الداخل، من لحظة مواجهة مرآة الذات عارية من كل ضوضاء.

في عصرٍ تصدح فيه المنصات بالصراخ الجمعي، وتُستنزف الأرواح في سباق الظهور والبقاء على السطح، تصبح العزلة عملة نادرة لا يجيد إنفاقها إلا من وعى قيمة الخلوة، ومن أدرك أن الوحدة ليست فراغًا، بل امتلاء داخليًا يضيق به الزمان ولا تضيق به الروح.

هاروكي موراكامي ليس حالة فردية نادرة، بل هو صوت حديث ينطق باسم أنبياء الوحدة على امتداد التاريخ البشري. من غار حراء إلى زوايا العارفين في بيوت الطين، ومن حجرات الأئمة إلى سجادات الليل في محراب النبي محمد ﷺ، حيث كانت الوحدة رفيقة الوحي، والخلوة جسرًا للفتح الأعظم.

العزلة.. حيث يبدأ الوحي

حين نقرأ اعتراف موراكامي، تتراقص أمامنا ملامح تلك الليالي التي قضاها رسول الله ﷺ في غار حراء. كان العالم يغرق في جاهليته، وكانت القوافل التجارية تحتفل بأصوات النوق والدرهم، بينما هو في عزلة الصمت المطلق، يسمع ما لا يُسمع، ويبصر ما لا يُبصر، حتى أتى الفتح المبين من قلب الوحدة، من رحم الخلوة:

عن الإمام علي :

”ولقد كان يُجاورُ في كلِّ سنةٍ بحِراء، فأراه ولا يراهُ غيري.“

«نهج البلاغة، الخطبة 192»

هنا العزلة ليست انقطاعًا سلبيًا عن البشر، بل هي صعودٌ إلى مقام الاتصال الأعظم. في العزلة، يتخلى القلب عن أصوات الأرض، ليتهيأ لأصوات السماء.

الوحدة.. ميدان التربية الإلهية

في الفكر الإسلامي، لا تُعَدُّ الوحدة مذمومة إلا إذا انقطعت عن غايتها. الوحدة التي يفرّ منها الإنسان إلى ذاته، ليعبد ذاته، ويؤلّه رغباته، وحدة عقيمة ميتة. أما الوحدة التي يفرّ بها العارف إلى الله، ليعاين وجه الحق، فهي محراب المخلصين.

عن الإمام زين العابدين :

”راحةُ العابد في الخَلوة.“

«تحف العقول، ص 284»

الوحدة في عصر الشاشات.. عندما أصبح الضجيج عقيدة

في زمن موراكامي وفي زماننا الحالي، تحولت العزلة إلى تهمة. أصبح التواجد الدائم فضيلة، والغياب جريمة. نحن في زمنٍ تُعدُّ فيه الصورة أثمن من الروح، والكلمات العابرة أثقل من الصمت الحامل للحكمة. ومع ذلك، يظل في الظل نفرٌ يعرفون الحقيقة. يعرفون أن الأفكار العظيمة تولد في العزلة، كما وُلدت الرسالات في قلب الخلوات.

من كان يظن أن الرجل الذي قَضَى أربعين سنة في ظل الكعبة صامتًا إلا من ذكر، سيكون هو رسول الرحمة للعالمين؟ ومن كان يتخيل أن إمامًا في زنزانة كالكاظم ، سيكون خزّان الحكمة وأيقونة الصبر؟

الوحدة ليست موتًا، بل ميلادٌ آخر لمن يُحسن السماع.

البعد النفسي والاجتماعي — هل الوحدة فعل مقاومة؟

على المستوى النفسي، لا يمكن فهم الوحدة خارج إطار الصراع مع الذات والواقع. الوحدة أحيانًا ليست خيارًا، بل هي رفضٌ أخلاقيٌ للانغماس في التفاهة. حين يرفض الإنسان أن يكون جزءًا من قطيع، فإنه يختار العزلة كدفاع عن نقاء فكرته.

وإسلاميًا، نجد أن أئمة أهل البيت عايشوا عزلة الاختيار القسري حينما عجزت مجتمعاتهم عن احتضان نورهم. الإمام الحسن في صمته السياسي، والإمام علي بن الحسين في محرابه، والإمام الرضا في وحدته في خراسان، جميعهم اختبروا الوحدة كمساحة دفاعية عن الحق في زمن الزيف.

عن رسول الله ﷺ:

”أفضلُ الجهادِ كلمةُ حقٍّ عندَ سلطانٍ جائر.“

«الكافي، ج 5، ص 58»

وما أبلغها من وحدة، تلك اللحظة التي يقف فيها الإنسان وحيدًا أمام سلطان ظالم، لا رفيق له إلا ضميره، ولا أنيس له إلا الله.

الوحدة.. من الغار إلى العصر الرقمي

إن إعادة قراءة اعتراف موراكامي في ضوء هذه الأبعاد، يمنحنا فهمًا جديدًا للوحدة. ليست الوحدة حالة مرضية، وليست انطواءً هشًا، بل هي امتدادٌ لتراث طويل من أنبياء الفكر وأئمة المعرفة ورسالات الأنبياء.

الوحدة ليست انقطاعًا، بل هي اتصالٌ أعمق، حين تصبح ضجيج الداخل أشد حضورًا من ضجيج الخارج.

والوحدة ليست هروبًا، بل هي مواجهةٌ بلا رتوش، مع وجهك الحقيقي، قبل أن تُعرضه على المرايا المكسورة.

وآخر النبض — حديث في زمن الوحدة

قال رسول الله ﷺ:

”طوبى لمن أصلح نفسه، ووسعته خلوته، وبكى على خطيئته.“

«بحار الأنوار، ج 77، ص 169»

هكذا تكون الخلوة بابًا للخلاص، وتكون العزلة مطهرةً لروحك من زيف الجموع. وفي زمنٍ يُخشى فيه من الصمت، وتُعبد فيه الشاشات، ستبقى الخلوة معراج العارفين، والوحدة سرّ الخلاص.

فاختَر وحدتك بعناية، فربما في صمتك يولد وحيك.