العيد: بين عبق الماضي ورؤية المستقبل
منذ قديم الأزل كان العيد بمثابة موعد سنوي ينتظره القلب بشوقٍ وحنين، فهو ليس مجرد يوم تقوّمه الساعات، بل هو لوحة مشرقة مرسومة بيد الزمن تتداخل فيها ألوان الذكريات مع بريق الآمال. كان العيد في الماضي عبارة عن احتفالٍ يتجاوز مجرد المظاهر الظاهرة؛ كان لقاءً يجمع العائلة والأصدقاء والجيران، حيث كانت القلوب تنبض بروح المحبة والتآلف في أجواء تتخللها البساطة والصدق. في القطيف، كما في غيرها من المدن التي طالما احتفظت بعراقتها، كان العيد وقتاً لتصفية الخلافات، وإعادة بناء جسور الأخوة، وفيه كانت الأحضان الصادقة والكلمات الدافئة تُعبر عن مشاعر لم تنطق بها اللغات.
كانت الأيام الماضية تحمل معها نكهةً خاصةً لا تُنسى، فقد كان العيد فرصة لاسترجاع حكايات الطفولة حينما كانت أصوات المؤذنين تُعلن قدوم الفجر لتوقظ الذاكرة وتبث في النفوس نبضاً من الفرح. كانت الشوارع والأزقة تمتلئ بالضحكات واللعب، وكانت كل زاوية تخبئ قصةً من دفء اللقاء؛ حيث كان الجميع يشارك بعضه البعض فرحة العيد دون تمييز، ويقتسمون معاني الإخاء والود في جلساتٍ تجمع الأحبة والجيران على مائدةٍ واحدة، وكأن الزمان توقف لينسج خيوط الحنين في تفاصيل اللحظات.
اليوم، وفي ظل التطورات السريعة والحداثة التي غزت مختلف مجالات الحياة، باتت صورة العيد قد تغيرت؛ فبينما ما زالت الطقوس الدينية والمظاهر الاجتماعية حاضرة، نجد أن روتين الحياة وضغوطها جعلت من الاحتفال حدثاً يتخلله بعض الإصرار على التقليد وسط متطلبات العصر. أصبح العيد في بعض الأحيان مجرد عادة تنتظرها النفوس دون أن يشبع الحنين لما كان؛ حيث يحلّ محل البهجة روتين الاستهلاك والالتزامات المتراكمة، فيصبح ما كان يوم الفرح رمزاً لنمط حياة قد ابتعد عن تلك البساطة التي كانت تعكس جمال الروح.
لا يمكن إنكار أن العيد يحمل في طياته رسائل اجتماعية عميقة؛ فهو يوم التلاقي والتسامح الذي يمكن أن يكون رافعة للسلام الداخلي وتخفيف وقع مشكلات الحياة اليومية. ومع ذلك، يتساءل الكثيرون: هل نحن من ننتظر العيد، أم أن العيد هو من ينتظرنا؟ الإجابة تتجلى في أن العيد، بكل ما يحمله من طقوس وعادات، يظل مرآةً تعكس واقعنا النفسي والثقافي؛ فعندما تتلاشى قيمة اللقاءات الحميمية والدفء الأسري بين زحام الحياة المعاصرة، يبدأ العيد في أن يكون مجرد موعد تقويم سنوي يمر دون أن يستعيد معناه الحقيقي.
تكمن التحديات اليوم في كيفية إعادة اكتشاف تلك اللحظات المكنونة بين تفاصيل العيد؛ في كيفية تجاوز الانشغالات الدنيوية لإعادة الحياة إلى عاداتنا الأصيلة التي جعلت من العيد مناسبةً لتجديد العهد مع الأحبة وإحياء روح التعاون والمحبة. علينا أن نتذكر أن العيد هو أكثر من مجرد تبادل التهاني والملابس الجديدة؛ هو رمزٌ للهوية والانتماء، وهو فرصة لتطهير النفوس من أثقال الحياة، وإعادة شحنها بعبير الذكريات واللحظات الصادقة التي عشناها في الماضي.
إن العودة إلى جوهر العيد تستدعي وقفة تأمل، وإعادة تقييم لما فقدناه من قيم إنسانية حينما استحوذت ضغوط الحياة الحديثة على اهتمامنا. يجب أن نعيد للعيد مكانته بيننا كفرصة للعودة إلى الذات، ونرى في كل لقاء عائلي وجلسة حميمية دفعةً للأمل، وفي كل تلاقي بين جيراننا وإخواننا نقاءً يجدد روح التعاون والتآلف.
ربما لا يكون العيد في المستقبل مجرد روتين سنوي ننتظره دون شغف، بل بإمكاننا أن نعيد صياغته ليكون انعكاساً حيّاً لتطلعاتنا وأحلامنا. يمكننا أن نرتقي به من خلال إحياء التقاليد الأصيلة وموازنتها مع متطلبات العصر، لنعود كما كان العيد يوماً رمزاً للبساطة والود، وفرحةً حقيقية تنبع من القلب وتُغذي الروح. فالاحتفال الحقيقي لا يُقاس بالمظاهر بل بالمعاني؛ وما إن نستعيد معاني العيد فإننا نستعيد أنفسنا، ونُعيد بناء جسور التواصل والإنسانية التي طالما كانت عماد حضارتنا.
بهذا نستخلص أن العيد هو ليس فقط حدثاً دينيّاً أو اجتماعياً، بل هو مرآة لحياة الإنسان بكل تفاصيلها؛ فمن خلاله نستطيع أن نرى كيف تغيرت أحوالنا وتغير العيد معنا، وأنه إذا ما أردنا أن يكون العيد هو العيد كما كان، فعلينا أولاً أن نعيد إحياء ما هو أصيل فينا من حب وتسامح ودفء إنساني، لتكون كل مناسبة عيداً حقيقياً ينتظرها القلب بشغفٍ وتفاؤل.