آخر تحديث: 31 / 3 / 2025م - 5:45 م

الفردية.. هل تُحرر الإنسان أم تُعزله

في أعماق كل مؤسسة، وبين طيات كل منظمة ينبض صوت خافت لا تُدركه الإدارات ولا تنصفه اللوائح والإجراءات لكنه حاضر في كل صفقة تُنجز، وفي كل فكرة تُبنى ثم تنسب لغير صاحبها، إنه صوت الفرد الذي يعمل بصمت، ويُبدع خلف الكواليس ويُسهم في حركة الجماعة دون أن يُشار إليه بالبنان، صوت الفرد الذي لا يسعى إلى الأضواء ولا يطرق الأبواب بحثا عن التصفيق أو الثناء، بل غالبا ما تُطغى عليه الأصوات الأعلى لكنه لا يقبل بالذوبان، لتبدأ النزعة الفردية بالظهور لا كحالة طارئة، بل كاستجابة طبيعية لتراكمات صامتة داخل المؤسسات مع الزمن.

فالموظف أو الفرد الذي يملك الفكرة ولا يُمنح الفرصة لعرضها، ويُبادر للعمل لكن تُختزل مبادرته في اسم المدير الأعلى أو المسؤول، أو يُبدع في الظل بينما يتقدم غيره للمشهد.. كل هؤلاء بدأوا يتحولون إلى أصوات غير معلنة تشكل ما يمكن تسميته اليوم بالنزعة الفردية.

والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه هنا هو: ما هي جذور ومفهوم النزعة الفردية؟ ولماذا نُسلط الضوء عليها؟ وما هي العلاقة بينها وبين الإدارة في الأعمال، وما هي أهم وأبرز الاستراتيجيات لحل المنازعات في المؤسسات وبيئات العمل؟

جذور الفردية

نشأة النزعة الفردية تدريجياً عبر مسار طويل من التطور الفكري والتاريخي، وبدأت بوادرها في الفلسفة اليونانية القديمة مع سقراط وأرسطو من خلال التركيز على الضمير والتفكير الفردي ثم تراجعت خلال العصور الوسطى تحت هيمنة الفكر الديني الجماعي، لكنها عادت إلى الواجهة مع الإصلاح البروتستانتي ”مصطلح يُطلق على أتباع البروتستانتية وهي أحد الفروع الرئيسية في الديانة المسيحية“ الذي ركز على العلاقة الفردية بين الإنسان والخالق، وفي عصر التنوير بالقرن السابع عشر والثامن عشر ترسخت النزعة الفردية بشكل واضح على يد فلاسفة مثل ”جون لوك“ و”هوبز“ الذين أكدوا على حرية الفرد وحقوقه الطبيعية ثم تعززت أكثر مع الثورة الصناعية وصعود الرأسمالية التي مجّدت الإنجاز الشخصي والاعتماد على الذات، كما كانت من أبرز نتائج هذه المرحلة تحرير الفرد دينيا وفكريا، وضعف هيمنة الكنيسة الكاثوليكية مما فتح الباب أمام انتشار التعليم والقراءة وترسيخ الأنظمة الديمقراطية ونشوء الاقتصاد الحديث. إلا أن هذه التحولات لم تخلُ من سلبيات حيث رافقها ارتفاع في مستوى الأنانية وطغيان الروح المصلحية على القيم الأنانية فضلا عن تراجع الروح الدينية في ظل التوجه المادي المتزايد.

النزعة الفردية

النزعة الفردية مفهوم متعدد الأبعاد ويشمل جوانب نفسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ورغم أن لها دورا إيجابياً في تعزيز الحرية والابتكار، إلا أنها قد تحمل تحديات مرتبطة بالعزلة وتراجع العلاقات الاجتماعية.

وقيل بأنها فلسفة أو توجه فكري واجتماعي يركز على قيمة الفرد واستقلاليته، بحيث يعتبر الفرد الوحدة الأساسية في المجتمع، وهي تتمحور حول فكرة أن لكل شخص حقوقه وحرياته الخاصة، ويجب أن يكون قادرا على اتخاذ قراراته بنفسه دون تدخل مفرط من المجتمع أو الدولة، وهي تتعارض مع النزعة الجماعية التي تركز على أهمية المجموعة مثل العائلة والمجتمع أو الدولة، وتضع مصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد كما هو الحال في الولايات المتحدة وأوروبا.

وباختصار: هي نظرة ترى الفرد كمركز للقيمة والاهتمام، وتدعو إلى تعزيز حريته واستقلاليته في مختلف جوانب الحياة.

وفي علم النفس: قالوا إنها تشير إلى التركيز على الفرد ككيان مستقل مع التأكيد على أهمية الشخصية الفريدة والحقوق كشخص متفوق في المجال الإداري، ولكن عائلته تدفعه لدراسة الطب البشري؛ لأنهم يعتبرونها مهنة مرموقة ومستقرة، غير أن الشخص يشعر بشغف كبير تجاه التخصص الإداري حيث يجد نفسه أكثر إبداعا وتحفيزا عند ممارسة العمل التنظيمي وحل المشكلات المعقدة، فإذا قرر الشاب اتباع شغفه ودراسة العلم لإداري بدلا من الطب فإنه يعكس النزعة الفردية لأنه ركز على رغباته وقدراته الشخصية بدلا من الانصياع لتوقعات الآخرين أو المعايير الاجتماعية.

أسباب تسليط الضوء على النزعة الفردية

1- تأثيرها الإيجابي عند إدارتها بشكل صحيح: فهي التي تدفع الأشخاص لتحقيق طموحاتهم وإبراز إبداعهم إذا تم استثمارها بطريقة إيجابية، فعلى سبيل المثال قام ستيف جوبز بتحقيق رؤيته الفردية المميزة عندما أسس شركة ”آبل“ فقد اعتمد على طموحه الشخصي وإبداعه الفردي في تطوير منتجات غير تقليدية مثل الآيفون. فكان هذا النجاح نتيجة استثماره لنزعته الفردية بطريقة إيجابية موجهة نحو الإبداع والابتكار؛ مما ساهم في إحداث ثورة في عالم التكنولوجيا وأثر إيجابيا على ملايين الأشخاص حول العالم.

2- تأثيرها السلبي عند إهمال إدارتها: فقد تتحول إلى أنانية مدمرة تؤدي إلى صراعات داخلية إذا تم تجاهل القيم الأخلاقية مثل " انهيار شركة إنرون Enron التي كانت نتيجة لقرارات أنانية من قبل الإدارة العليا التي فضلت مصالحها الشخصية على مصلحة الشركة والمساهمين حيث قام المديرون التنفيذيون بتضليل المستثمرين لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الشفافية والأخلاقيات المهنية؛ مما أدى إلى إفلاس الشركة وتدمير حياة العديد من الموظفين والمساهمين إلى جانب زعزعة الثقة في الأسواق المالية.

3- الطبيعة التنافسية في بيئات العمل: ففي كثير من المؤسسات تكون المنافسة جزءاً لا يتجزأ من العمل، ولذا تسليط الضوء على النزعة الفردية قد يساعد على فهم كيف يمكن إدارتها لضمان أن تكون بناءة لا مدمرة، كما أنها تساعد على فهم الفروق بين الموظفين وتوظيف قدراتهم بما يخدم الأهداف المشتركة، ويتح فرصا أكبر لاكتشاف المواهب وتنميتها.

الفردية في الإدارة

تشير النزعة الفردية كما بينا إلى تركيز الأفراد على حقوقهم الشخصية وتحقيق طموحاتهم الذاتية حيث يُنظر إلى الإنجازات على أنها نتيجة لجهود فردية أكثر من كونها ثمرة للتعاون الجماعي وهذه النزعة قد تشكل تحديات وفرصاً للإدارة على حد سواء اعتمادا على طبيعة المؤسسة وثقافتها التنظيمية.

ولذا فإن فهم العلاقة بين النزعة الفردية والإدارة يُعد أمرا أساسيا لتحليل تأثير هذه القيم على الأداء الفردي والجماعي فضلا عن كيفية تحقيق التوازن المؤسسي الذي يضمن النجاح.

فالنزعة الفردية قد تؤثر بعمق على أساليب الإدارة من حيث القيادة واتخاذ القرارات وإدارة النزعات وتشجيع الابتكار، ولذا على المديرين فهم ثقافة الأفراد داخل المنظمات من خلال استخدام الاستبيانات والمقابلات الفردية أو الجماعية لمعرفة تطلعاتهم واحتياجاتهم، واستخدام أدوات مثل تقييم الشخصية والمهارات وما إلى هُنالك لفهم نقاط القوة والتحديات لكل فرد، والعمل على الموازنة بين التركيز على الإنجازات الفردية وتشجيع العمل الجماعي من خلال التحفيز وتقديم المكافآت لتحقيق أهداف المنظمة بشكل متكامل ومستدام.

إدارة النزاعات في العمل

في قلب كل مؤسسة ناجحة تكمن قوة التعاون والتفاهم، ولكن في ظل تنوع الشخصيات والطموحات تبرز النزاعات كظاهرة حتمية، وهذه النزاعات إذا تُركت دون إدارة يمكن أن تتحول إلى براكين تهدد استقرار بيئات العمل وتفكك تماسك الفرق، ولكن ماذا لو استطعنا تحويل هذه النزاعات إلى فرص لتعزيز الروابط وبناء ثقافة عمل أكثر قوة ومرونة؟

فالنزاعات ليست علامة على الضعف في كل الأحيان، فقد تكون مؤشراً على وجود طاقات مختلفة تبحث عن التوازن، ولكن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يمكن التعامل مع هذه النزاعات بطريقة تحويلها من مصدر للتوتر إلى مصدر للإلهام، وكيف نضمن أن تظل بيئة العمل مكانا يشعر فيه الجميع بالتقدير، ويحقق الأهداف المشتركة؟

في هذا السياق سنستعرض استراتيجيات فعالة تمكن المؤسسات من تحويل النزاعات إلى فرص للنمو وتعزيز ثقافة العمل الجماعي وإليك الجواب.

أولا: التواصل الفعال: ونقصد به الاستماع النشط لوجهات نظر الآخرين، وتوفير قنوات اتصال مفتوحة وشفافة تسمح بتبادل الآراء والمخاوف بحرية، فمثلا المبادرة التي أُطلقت تحت عنوان ”نرسم البسمة“ في بلدة أم الحمام بمحافظة القطيف حيث لاحظ عدد من المربين والمتطوعين وجود بعض الأطفال الذين يعانون من التوتر والانطواء بسبب مشاكل أسرية مثل الطلاق أو فقدان أحد الوالدين، فبادروا إلى تنظيم برنامج دعم نفسي واجتماعي لهم من خلال أنشطة ترفيهية وتعليمية، وقبل تصميم البرنامج قام الفريق المتطوع بزيارات ميدانية لبعض المدارس وروضات الأطفال في أم الحمام وعمل لقاءات مع المعلمين والمرشدين وكذلك مع أولياء الأمور ومع الأطفال أنفسهم لفهم مشاعرهم، وقد جاء تصميم هذه المبادرة بعد الاستماع النشط لوجهات نظر المعنيين، وعلى مشاركتهم في صياغة الحلول، وليس على قرارات فوقية.

ثانيا: التفاوض المباشر: أي تشجيع الأطراف المتنازعة على الجلوس معا ومناقشة القضايا بشكل مباشر للوصول إلى حلول مقبولة للجميع، واستخدام الوساطة كطرف ثالث محايد لتسهيل الحوار ومساعدة الأطراف على الوصول إلى اتفاق.

ثالثا: تنظيم ورش عمل حول إدارة النزاعات والتفاوض الفعال، وتوفير برامج تدريبية منتظمة لتعزيز مهارات التواصل والتعاون مع وضع سياسات وإجراءات محددة للتعامل مع النزاعات عند حدوثها، وتوفير قنوات واضحة لتقديم الشكاوى ومعالجتها بشكل عادل.

وأخيرا: يمكن أن نقول إن النزعة الفردية في الإدارة تمثل جزءا لا يمكن تجاهله من واقع بيئات العمل، فهي تجمع بين مزايا الإبداع والاستقلالية وبين التحديات التي قد تهدد التعاون والتكامل لتحقيق النجاح المستدام. كما وتحتاج المؤسسات إلى تبني سياسات تُعزز التوازن بين احتياجات الأفراد وطموحاتهم من جهة ومتطلبات العمل الجماعي من جهة أخرى، وبالإدارة الواعية والحلول الاستراتيجية يمكن تحويل النزعة الفردية إلى عنصر قوة يدفع نحو تحقيق أهداف مشتركة، ويضمن بيئة عمل متوازنة تدعم الابتكار والتقدم للجميع.