آخر تحديث: 31 / 3 / 2025م - 5:45 م

الإمام علي.. من مجالس الحزن إلى ميدان الحياة

عبد الله العوامي *

ثلاث ليالٍ من شهر رمضان المبارك، من ليلة التاسع عشر وحتى الواحد والعشرين، تغمرنا فيها مشاعر الحزن والأسى بذكرى شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . تمتلئ القلوب حنينًا، وتفيض العيون بالدموع، وتكتظ منصات التواصل الاجتماعي وأماكن العبادة بعبارات التعزية والشوق لرجلٍ استثنائي خلّده التاريخ، واحتضنت ذكراه ليلة مباركة من أقدس ليالي السنة. ومن أبرز مظاهر إحياء هذه الذكرى إقامة المجالس والمحاضرات الدينية والثقافية، واستذكار فضائل الإمام من خلال الأحاديث النثرية والقصائد الشعرية والأدبية، تعبيرًا عن الولاء والتعلق بأهل البيت ، والتطلع إلى نيل رضا الله ورحمته وغفرانه. وقد بلغت هذه الأجواء ذروتها في ليلة القدر الكبرى «ليلة الثالث والعشرين»، التي شهدت حضورًا غفيرًا من مختلف الأعمار في البيوت والديوانيات والمساجد والحسينيات.

ورغم جمال هذه المشاهد التي تتكرر سنويًا وتعكس روح الولاء والمحبة العميقة لأمير المؤمنين ، يبقى السؤال المؤلم الذي يطرق أبواب ضمائرنا: هل يكفي الإمام عليّ منّا هذا الحزن، وتلك الدموع والكلمات؟ أم أن هناك شيئًا أعمق وأصدق ينتظره منّا؟

شخصيًا لا أملك جوابًا قاطعًا، لكني حاولت أن أقترب من الإجابة متأملًا بعضًا من وصاياه الخالدة لولده الإمام الحسن «عليهما السلام»، لعلي بذلك أفهم شيئًا مما أراده الإمام مني حقا قبل أن يكون من الآخرين.. تحمل وصاياه الكثير من الدروس العظيمة، وسوف أذكر هنا عشر نقاط مختصرة على سبيل المثال لا الحصر:

ا. التقوى والزهد: أوصى الإمام ولده قائلًا: ”أحيِ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوة باليقين“. وهو الذي جسّد هذا المبدأ عندما رفض زيادةً لأخيه عقيل من بيت المال، رغم حاجته، وكان طعامه بسيطًا من خبزٍ وملحٍ، في زهدٍ عميق يندر نظيره.

ب. اتباع الحق والعدل: أوصاه أيضًا: ”اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك“، وهو الإمام الذي قَبِل حكم القاضي شريح لصالح اليهودي في قضية الدرع، رغم مكانته ومقامه.

ج. الرحمة والمودة بين الأهل وصلة الرحم: حيث قال: ”لا يكن أهلك أشقى الخلق بك“. وكان معروفًا بعلاقته الاستثنائية المفعمة بالاحترام والمودة مع زوجته فاطمة الزهراء وأبنائه .

د. رعاية الأيتام والفقراء: حين أوصى: ”الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم“. وقد عُرف عنه تجواله في ظلام الليل لإطعام اليتامى والفقراء بنفسه، دون أن يعلموا هويته، ولم يُعرف ذلك إلا بعد استشهاده.

ه. المواظبة على العبادة والصلاة: قال: ”أوصيك بتقوى الله ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره“. ويكفي شهادةً أنه استُشهد في محرابه وهو قائم يصلي صلاة الفجر.

و. جهاد النفس والصبر: حيث وصيته تقول: ”عوّد نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر“. وهو الذي توقف عن قتل عمرو بن ود حين بصق عليه في معركة الخندق، خشيةً من أن يقتله لغضبٍ شخصي، وليس ابتغاءً لرضا الله.

ز. التعاون والتكافل الاجتماعي: قال: ”أحبب لغيرك ما تحب لنفسك“، وشارك الإمام في بناء المساجد وحفر الآبار بنفسه مع عامة الناس، مؤكدًا على مبدأ التكافل الاجتماعي بقوله: ”لا تستحي من إعطاء القليل، فإن الحرمان أقل منه“.

ح. التفكر في مصير الإنسان: أوصاه قائلًا: ”أكثر من التفكر فإنه ربيع القلب، وجلاء البصر، ومفتاح أبواب الحكمة“، وكان يجلس في المقابر متأملًا في حال الموتى ليذكّر نفسه وأصحابه بحتمية الموت.

ط. الإيمان بالقضاء والقدر: قال لولده: ”واعلم يا بني أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك بالدعاء، وتكفل لك بالإجابة“. وحين ضُرب الإمام في المحراب قال بكل تسليم: ”فزت ورب الكعبة“.

ي. الاعتماد على النفس والكرامة: أوصاه: ”ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًا“. فلم تؤثر فيه كلمات المدح أو الذم، بل كان يقف مع الحق مهما كلّفه ذلك.

هذا هو الإمام علي ، الذي نعرفه، والذي تسبق أفعاله كلماته، ذلك الإنسان العظيم الذي تربّى في حجر الرسول الأعظم ﷺ، ونهل من نبع علمه وأخلاقه، حتى صار معجزة حيّة من معجزات النبوة الخالدة. لم يكن الإمام علي مجرد ذكرى تاريخية عابرة أو سيرةً نرويها في مجالسنا فقط، بل كان منهج حياة متكاملًا، وطريقًا مشرقًا نحو الله، يستحق منا أن نتبعه في كل خطواتنا وأخلاقيتنا ومعاملاتنا.

وأمام هذه الوصايا الخالدة التي وجهها الإمام لابنه الحسن «عليهما السلام»، أجد نفسي صغيرًا جدًّا، بل وقزمًا أمام عظمة أخلاقه وكمال مواقفه، وأشعر بالحرج وأنا أتساءل بصدق:

- أين أنا من تقوى الإمام علي وزهده في الدنيا؟

- أين أنا من عدالته وتمسّكه بالحق ولو على نفسه؟

- أين أنا من مودته لأهله ورحمته بأقاربه وصلته لأرحامه؟

- أين أنا من حرصه الصادق على الأيتام ورعايته الحانية للمساكين؟

- أين أنا من ضبط نفسه في لحظات الغضب وتسامحه العظيم مع خصومه؟

- أين أنا من تعاونه وإحساسه العالي بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين؟

- أين أنا من إيمانه وتسليمه الكامل لقضاء الله وقدره في أحلك الظروف؟

- كم أشعر بالخجل وأنا أكرر السؤال مرة تلو الأخرى: أين أنا، وأين أنا، وأين أنا…؟

الأسئلة كثيرة، والإجابات مؤلمة، ولكني أدرك اليوم أن الطريق الوحيد لتحويل حبنا الصادق للإمام إلى حقيقة ملموسة هو أن نتخذ من سيرته منهجًا حيًّا نطبّقه في حياتنا اليومية، لا مجرد ذكرى نبكيها في أيام الحزن فقط.

أسأل الله من أعماق القلب، وبكل صدقٍ وإخلاص، أن يُعينني وإياكم لنكون في العام القادم أفضل حالًا مما نحن عليه اليوم، وأن يرزقنا القدرة على تحويل محبتنا الصادقة للإمام علي إلى واقع حي، من خلال أخلاقٍ رفيعة، وأفعالٍ صادقة، تعود بالخير علينا وعلى من حولنا، في عائلاتنا ومجتمعنا ووطننا، بل والإنسانية جمعاء، وأن تكون هذه الأفعال والأخلاق سببًا في نيل رضى الله تعالى، ورضى رسوله الأكرم، وأمير المؤمنين وأهل بيته الأطهار، عليهم جميعًا سلام الله.