التطوع: قوة خفية تعزز الصحة النفسية وتبني المجتمعات
لا تختلف المجتمعات في تعريف التطوع على أنه أحد الأنشطة الإنسانية التي تجسد قيم العطاء والتعاون، حيث يساهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكًا ويعزز من روح التضامن بين الأفراد، لكن تأثيره لا يقتصر على المجتمع فقط، بل يمتد ليشمل الأفراد المتطوعين أنفسهم، حيث يمنحهم إحساسًا عميقًا بالرضا والسعادة، ويخفف من الضغوط النفسية، ويساهم في تعزيز الثقة بالنفس والشعور بالانتماء والرضا، فمن خلال تجارب وسنوات عديدة قضيتها في الكثير من الأنشطة والبرامج التطوعية المختلفة، ولما لمسته من خلال العمل مع كثير من المتطوعين بأجيال مختلفة، أجد أن التطوع ارتقى ليصل إلى أعلى مراتب القيم الإنسانية التي تعكس روح العطاء والإيثار، حيث ساهم في بناء مجتمعات متماسكة تقوم على التعاون والتكافل، حتى أصبح اليوم ظاهرة عالمية تحظى باهتمام متزايد نظراً لفوائده الكبيرة على المستويين الفردي والمجتمعي.
ففي وقتنا الحاضر، أصبح التطوع جزءًا أساسيًا من التنمية المستدامة، حيث تلعب المبادرات التطوعية دورًا مهمًا في دعم الفئات المحتاجة وتعزيز التكافل الاجتماعي، ولم يعد العمل التطوعي مقتصرًا على المساعدات التقليدية، بل توسّع ليشمل مجالات متعددة مثل التعليم، والبيئة، والصحة، والتكنولوجيا، مما أتاح للمتطوعين فرصة لاكتساب مهارات جديدة وتطوير خبراتهم العملية، بالإضافة إلى مساهمة التطوع بشكل مباشر في بناء شخصية الفرد، فهو كذلك يعزز روح المسؤولية والانتماء، ويمنح المتطوع شعورًا بالرضا والسعادة الناتجة عن خدمة الآخرين، واليوم كما نرى ومع انتشار التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التطوع أكثر سهولة وانتشارًا، حيث يمكن لأي شخص المساهمة عن بُعد أو على أرض الواقع، مما يفتح المجال أمام الجميع ليكونوا جزءًا من هذا العطاء الإنساني المستمر.
من خلال بحث قصير فقد وجدت عدداً من الأبحاث العلمية التي تعزز مقولة ”أن التطوع يُعد وسيلة فعالة لتحسين الصحة النفسية وتقليل مشاعر التوتر والقلق“، فهو بحق يساهم في تعزيز الثقة بالنفس، وتنمية الشعور بالرضا الذاتي، ويحفز الدماغ على إفراز هرمونات السعادة مثل الدوبامين والسيروتونين، مما يساعد على تحسين الحالة المزاجية للفرد.
”للتوضيح أكثر:“ الدوبامين" هو أحد النواقل العصبية في الدماغ ومسؤول عن تحفيز الشعور بالسعادة والمكافأة والتحفيز ويلعب دوراً مهما في تنظيم الحركة والانتباه والمزاج واتخاذ القرار اكتشفه العالم السويدي آرفيد كارلسون 1957 م وحصوله على جائزة نوبل في الطب.
”السيروتونين“ هو ناقل عصبي يؤثر بشكل أساسي على المزاج والعواطف والنوم والشهية والهضم. يُعرف أحيانًا باسم ”هرمون السعادة“ لأنه يرتبط بالشعور بالراحة النفسية والهدوء وتقليل التوتر والاكتئاب اكتشف بواسطة العالم الإيطالي فيتوريو إروسبامير 1935 م."".
كما أن الشريعة الإسلامية أكدت على أهمية العمل التطوعي من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأحاديث أئمة أهل البيت التي تحث على الإحسان إلى الآخرين، مما يجعل التطوع سلوكًا نبيلًا يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: آية 184]، وقال جل وعلا ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: آية 2]، وقال تعالى في سورة النحل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 3[النحل: آية 90]﴾ .
وعن النبي محمد ﷺ أنه قال ”من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة“، وعنه ﷺ أنه قال ”إن لله عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير، وحبب الخير إليهم، أولئك الآمنون من عذاب الله يوم القيامة“.
وعن الإمام الحسن المجتبى أنه قال ”اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتتحول إلى غيركم“، وعن الإمام جعفر الصادق
أنه قال ”إِنَّ لِلَّهِ عبادًا في الأرض يسعون في حوائج الناس، هُمُ الآمنون يوم القيامة“
أظهرت دراسة أجرتها جامعة كارنيغي ميلون عام 2015 أن العمل التطوعي يساهم في تقليل خطر ارتفاع ضغط الدم، والذي يُعد أحد المؤشرات الرئيسية للإجهاد المزمن، كما أوضح جون ويلسون في كتابه ”التطوع والصحة النفسية“ 2017 م إن الأفراد الذين يشاركون بانتظام في الأنشطة التطوعية يعانون من معدلات أقل من القلق والتوتر مقارنة بغيرهم، مما يؤكد الفوائد النفسية العميقة للتطوع على صحة الأفراد.
وعلى سبيل المثال كذلك، وجدت دراسة نُشرت في مجلة ”الصحة والسلوك الاجتماعي“ 2013 م، أن الأشخاص الذين يشاركون بانتظام في العمل التطوعي يتمتعون بصحة نفسية أفضل، كما أن معدلات الاكتئاب لديهم أقل مقارنة بغيرهم، وذلك بفضل التأثير الإيجابي للشعور بالعطاء والتواصل مع الآخرين.
وفي دراسة أجرتها جامعة ميشيغان عام 2018 م أظهرت أن الأفراد الذين يشاركون في الأنشطة التطوعية يتمتعون بشبكات اجتماعية أوسع، مما يعزز لديهم الدعم الاجتماعي، وهو أحد العوامل المهمة في تحسين الصحة النفسية والحد من مخاطر الاكتئاب.
وفي تجربة أجرتها جامعة هارفارد على متطوعين في مستشفيات الأطفال، أظهرت النتائج أن 90% من المشاركين شعروا بتحسن في حالتهم المزاجية بعد التفاعل مع المرضى، بينما لاحظ 80% انخفاضًا في مستويات التوتر، مما يؤكد التأثير الإيجابي للعمل التطوعي على الصحة النفسية.
في دراسة نُشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي عام 2019 م، وُجد أن العمل التطوعي يسهم في تطوير المهارات الشخصية، مما ينعكس إيجابًا على النجاح المهني والاجتماعي للفرد. في كتاب ”التطوع والتنمية الشخصية“ 2021 م، لمؤلفه ريتشارد جيلبرت يؤكد على أن الأشخاص الذين يشاركون بانتظام في الأنشطة التطوعية يتمتعون بمعدلات أعلى من الثقة بالنفس مقارنة بغيرهم.
فمن خلال ما طرح نجد أن العمل التطوعي أكثر من مجرد مساهمة وقتية أو جهد مبذول، فهو استثمار حقيقي في صحة الفرد النفسية وفي بناء مجتمعات أكثر ترابطًا وتكافلًا، وهو ما أثبتته الدراسات العلمية، كما إن التطوع لا يقتصر على تحقيق فائدة للآخرين فقط، بل ينعكس إيجابيًا على المتطوع ذاته، فهو يعزز شعوره بالسعادة والرضا، ويقلل من القلق والتوتر، ويمنحه فرصة لاكتساب مهارات جديدة وتوسيع دوائر علاقاته الاجتماعية، وفي عالمنا المتسارع اليوم، حيث تزداد الضغوط الحياتية، يمكن للتطوع أن يكون بوابة نحو التوازن النفسي والتواصل الإنساني الحقيقي، فكل فعل خيّر مهما كان بسيطًا، يُسهم في صنع فرق حقيقي في حياة الآخرين، ويجعل من المجتمع بيئة أكثر دفئًا وإنسانية.