علي (ع) ذلك الإنسان
وليس هناك من منهج وصورة متكاملة تضعها بين عينيك ونصب همتك كقراءة سيرة العظماء وسيرتهم الغراء لتتمثلها في حياتك، وذلك أن مقوّمات الشخصية الوازنة والفاعلة تثبت وجودها على أرض الواقع من خلال العمل لا الأماني والأحلام الوردية، فالتنمية العقلية والتزود بالمعلومات المفيدة في مختلف الحقول ترفدها القراءة والاطلاع، والتنمية الروحية تشمل الكمالات والفضائل التي تزين صاحبها وتسمو به في فضاء الرقي والتألق، وهذا ما يفترض علينا مسألة تقسيم الأوقات بشكل وازن يراعي مختلف الحاجات والطموحات.
وأمير المؤمنين يمثل زادا مهما في معرفة جوانب الحياة الفاعلة والمعطاءة والمؤثرة بعيدا عن الخمول والكسل والحيرة والتشتت، فقد كان المختصر المفيد لحياة الإمام علي
أنها تجسيد الفضائل والمعارف، فكلماته النيرة تمثل زاد الحكمة والنضج الفكري يقضي معها القارئ سياحة معرفية، ومن ثم يحوّلها إلى ومضات سلوكية يتصرف ويقرر من خلالها خطاه في الحياة ومسيرة علاقاته.
لقد كان أمير المؤمنين حليف محراب العبادة والإخلاص لله تعالى، في فهم عميق للدور الوظيفي المناط بالإنسان في تعرّفه على الخالق المنعم عليه بآلاء لا تحصى، وكذلك في محراب العبادة يتعرف الإنسان على حقيقة نفسه وحاجاته وقدراته، كما أنه تسكب عليه الطمأنينة والأمان النفسي من خلال الاتصال بالقدرة المسيرة لشئون الكون والثقة بالتدبير الإلهي، وهذا ما يظهر المضامين العالية والمقاصد المرجوة من العبادات، فهي ليست مجرد هيئات وطقوس جامدة بل هي محرك في ساحة تهذيب النفس وتنزيهها من الرذائل الأخلاقية والعيوب.
كما أن أمير المؤمنين قام بدوره التبليغي وتزويد الناس بالمعارف القرآنية والفقهية والأخلاقية بما شكّل مرجعية رشيدة للناس تنوّر الفكر الإنساني، وهذه كلماته في نهج البلاغة تعد موسوعة معرفية تحتاج إلى دراستها وتبيين مضامينها والتأمل في ما تحتويه من معارف متنوعة في مختلف الحقول، فمعركة جهاد النفس وتهذيبها وتخليص الناس من أغلال الأهواء والنزوات تبدأ من عملية تبيين الحقائق وإعادة صياغة العقل للاهتمام بمعالي الأمور، كما أن دياجير الجهل تنجاب تحت جناح نور المعارف والإرشادات من قامة كباب الحكمة ومدينة العلم.
ولقد عمل أمير المؤمنين بكل ما أوتي من قوة في نشر مظلة العدالة الاجتماعية ورعاية المحتاجين وبلسمة آلامهم، فكان تحت جنح الليل يحمل جراب الطعام ويدور بها على بيوت الفقراء، وفي لفتة إنسانية نبيلة يُراعى فيها مشاعر الفقير من الجرح أو انكسار النفس يقدمها الإمام
تحت جنح الظلام.
لقد كان الإمام علي يحمل بين جنباته القيم الأخلاقية والإنسانية النبيلة ويجسّدها على أرض الواقع، فعبادته لله عز وجل لم تكن إلا مضامين العدالة والزهد والتواضع والسعي الحثيث في نشر المعارف القرآنية والدين الحنيف، فقد سعى إلى بث حياة النزاهة والتقوى واليقظة من مسببات الانحدار الإنساني كالأهواء والعصبيات والشهوات المتفلتة.