آخر تحديث: 31 / 3 / 2025م - 5:45 م

جدتي الخيّاطة الماهِرة

عقيل المسكين *

جدتي أم ناجي ”رحمها الله“، خادمة من خادمات الحسين سلام الله عليه، لأنني منذ وعيت على الدنيا وهي في كل عام تقيم مجلس أبي عبد الله الحسين في الدور السفلي من البيت العود، بذكرى عاشوراء لمدة ثلاثة عشر يوماً، وأتذكر أنني كنت أشارك في كل عام بشيء من المساهمة في تركيب السواد والأعلام والأقمشة المرسوم عليها بعض صور المشاهد المقدسة كمشهد الإمام علي ومشهد الإمام الحسين ، وكذلك الأقمشة المخطوط عليها بعض العبارات الولائية كعبارة «السلام عليك يا أمير المؤمنين» و«لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار»، و«حسين مني وأنا من حسين»، و«الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، وكذلك بعض التصاوير التخيلية والتي تُسمى بـ «التشابيه» وكلّها كان يتم إحضارها مع الزوار القادمين من العتبات المقدسة من إيران والعراق، وكان يقرأ في هذه المجالس عدة قارئات مثل القارئة «شيخة»، ويساعدنها بعض القارئات من طرفها، وتساعدهم أيضاً أمي أم عقيل، وخالتي أم حسين، وكنت بعد الانتهاء من قراءة النساء قُبيل المغرب أحضر للدور السفلي وكنّ النساء قد خرجن من البيت إلا بعض الجارات اللواتي يجلسن مع جدتي أم ناجي عند منقلة الجمر حيث يتناولن بالتناوب «النارجيلة» أو يتم تجهيز «القداوة» - وهي مفرد قدو - حيث يشربن التتن إما عبر القدو أو النارجيلة، أما أنا فأطلب شربت البرتقال أو شربت الفيمتو من ذلك الإبريق الأصفر الكبير المليء بقطع الثلج، أو من الترمس حيث أصبّ لي كأساً من الشربت وأتلذذ به وببرودته على قلبي بعد أن ألهبتني حرارة الشمس من الذهاب والإياب، حيث كنت أستمع إلى مجلس الملا أحمد خميس في قراءة العصر بحسينية السيهاتي، ثم أعود لمجلس البيت العود حيث أستريح تحت الدرج عند جدتي أم ناجي ”رحمها الله“.

جدتي أم ناجي كانت خياطة ماهرة، تخيط المشامر وهي الأردية الملونة للنساء حيث يلبسنه داخل البيوت فقطن، ويسمى عند الإيرانيين بال ”شادر“ والفارسيات يلبسنه خارج البيوت أيضاً، كما برعت بخياطة السراويل الخاصة بالعجائز وبعض قطع الملابس الأخرى للنساء أيضاً، وهي رغم كرمها في الصرف على أولادها وبناتها إذا نقص أي شيء من المؤونة التي يحضرها والدي، تقوم بجمع شيء من المال في صندوقها الخاص أو دولابها الخاص بغرفتها حيث تدخر ما تجمعه لموعد سفرها إما للعتبات المقدسة بالعراق كل عام أو إلى الحج إضافة إلى المدينة المنورة، أو إلى المدينة المنورة فقط، واعتادت في أغلب السنوات أن تسافر كل عام وفي بعض السنوات تؤجل سفرها إلى العام الذي يليه، وقد يذهب بعض أولادها وبناتها معها ولكنها في أغلب الأسفار تسافر مع الحملات من ضمن فريق كامل من صديقاتها من الديرة ومن الأحياء الأخرى أيضاً، وفي كل مرة تعود من سفرها هذا تحضر الكثير من الهدايا لتوزعها على الأولاد والبنات من الأحفاد والأسباط، حتى من أولاد وبنات الجيران في بعض الأحيان، وكلٌّ بقدره، حسب مرئياتها وحسب نوع العلاقة التي تربطها مع جاراتها من حي الديرة من الجهات الأربع، فهي ذات علاقة جيدة مع الكثير من العوائل والأهالي في الديرة وفي الأحياء القريبة أيضاً.

الذي أعجبني كثيراً في شخصية جدتي أم ناجي ”رحمها الله“ قلبها الطيب جداً فهي حتى لو اختلفت مع أيّ كان ولأي سبب من الأسباب إلا أنها تتحلّى بقلبها الطيب، وتمر بعض الأيام على تلك المشكلة أو الخلاف إلا أنها تظهر بعد ذلك للجميع وكأن شيئاً لم يكن، فهي ليست من اللواتي يحمِلن طول العمر على أي إنسان لأسباب ما صغيرة كانت أم كبيرة، نعم إنها تعاتب من يُخطئ عليها ويعتدي على حقوقها أو حقوق العائلة، والعتاب يأتي أيضاً على لسانها بشكل غير مُؤذٍ على الإطلاق، وإنما هو مجرد كلام لتفريغ ما في الصدر من أي تحامل متبقٍ، ثم تمر الأيام وإذا بها قد نست كل شيء لتبدأ مع الجميع صفحات جديدة، وأنا من خلال اختلاطي بها في ”البيت العود“ اكتشفت أنني من المعجبين بشخصيتها فهي تحبني كثيراً، وتنصحني بالاجتهاد في دراستي والمواظبة على مدرستي وأن ألتزم بالأدب والأخلاق، كما كانت تقصّ عليّ مع بعض أطفال العائلة بعض ”الخرّافات“ و”الحزّايات“ الشعبية وكنا نستمتع بهذه القصص والحكايات الجميلة، وكنا نحترمها جميعًا ونخاف من كلمتها وحزمها فهي في وقت العمل تحترم هذا الوقت لإنجاز ما لديها من عمل سواء في المطبخ أو عند مكينة الخياطة؛ أو أثناء تفصيلها لقطع القماش وتقطيعه بالمقص حسب المقاس الذي لديها وحسب تطابق القطع مع الثوب النموذج أو المِشمر النموذج الذي ترفقه صاحبة الطلب مع القماش الذي تحضره لتقوم جدتي بالتفصيل والخياطة.

جدتي أم ناجي كانت تتذرع بالأمل بشكل جميل، وكانت تتفاءل بالخير دائماً، وكان على لسانها ذكر الله دائمًا، وتكثر من الصلاة على محمد وآل محمد كعادة الكثير من النساء المتعلقات بالإمام الحسين عليه وذكرى عاشوراء، فهم تعودن عند البدء بالحديث يبدأن بالصلاة على محمد وآل محمد، وينتهين أيضًا بالصلاة ذاتها، لذلك فهنّ يدخلن ويخرجن من الحديث بأطيب ذكر وأغلى دعاء يربطهن بمحمد وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.