من شب على شيء شاب عليه
يتداول بيننا القول المأثور ”من شب على شيء شاب عليه“، ومعناه واضح لا يحتاج إلى بيان أو تأويل، أي أن من تعوّد على سلوك معين أو عمل ما، أو ورثه من سابقيه، بقي عليه طوال حياته، إن كان زينًا أو شينًا، وكأنه حقيقة حتمية مسلَّم بها عند البعض. والغالب يقصد به الأمور السيئة، والدليل قولهم تشبيهًا: ”ذنب الكلب أعوج لا يعتدل مهما حاولت“.
لكن هل هذه المقولة صحيحة على إطلاقها أم بها استثناءات؟
بالتأكيد وبشكل عام توجد استثناءات، ففي كثير من الأحيان يتغير حال الإنسان، ويتحول إلى عكسه، إما للأفضل أو للأسوأ، إما قسرًا «بسبب ظروف خارجية مؤثرة»، أو اختيارًا «بسبب ندم أو طمع أو موقف ما». ولا يبقى على حاله إلا القليل.
كان حسن السمعة يُغبط ويُضرب به المثل، الكل يتمنى سلوكه وخلقه. أصاب من الدنيا شيئًا «بعض الغنمات أو من تجارة دراهم»، فتغير، وامتنع عن دفع زكاتها، نسي المبادئ، تنكر لأرحامه وأصدقائه، تكبر، إن سلمت عليه لا يرد، كأن أذنيه صُمّتا، وإن مرّ بك لم يسلم، تظنه أخرس اللسان، ومن قبل كان سبّاقًا! لا يجالس قدماء معارفه لأنهم أصبحوا - بزعمه - دونه. يستبدل زوجته الحانية، وقد تحملت أيامه الصعبة، بأخرى في نظره أحدث، حديثه ماديّات، يعيب السابقين من صحبه، ينتقصهم، وكان هو الذي يترجى، وهو من يطلب لهم كوب شاي! وإن جارت عليه الدنيا وسُلبت منه النعمة، كره الكل، وظل حبيس داره لا يقبل من يزوره، أحباب الأمس أعداء اليوم.
رأينا غنيًا افتقر فكفر، وفقيرًا استغنى فأمسك، وكان يشارك في مشاريع الخير بما تيسر من مال وجهد وجاه، ما أسرع أن انقلب على عقبيه! يتأسف لو أنه ما قدّم ولا خدم، يرى ما قام به خسارة. هي الدنيا متقلبة بأهلها، حالًا بعد حال.
عابد يؤدي صلواته بانتظام، تالّ للقرآن، صائمًا أيامًا، معتمرًا، زائرًا، حاجًا... ما أسرع أن هجرها! وربما تحول من موحد إلى ملحد، وقد تجاوز من العمر عتيًا، شب أحفاده، انتهى به الأمر إلى سوء منقلب، لم يستفد من دنياه وخسر آخرته. ومذنب وحِيد، بعد إلحاد، أصبح من النساك! كان في نوم عميق، انتبه فخُتم له بخير، نال عالي الدرجات، سبحانه مغير الأحوال.
مريض في طفولته يشفى في فتوته، صحيح في شبابه يعتل قبل كهولته، فلا نغتر بصحة ولا نيأس من شفاء، إنه أرحم وأعلم بعباده.
عزيز يُذَلّ بفقد المال أو المنصب وخذلان من حوله:
«تَحالَفَ الناسُ والزمانُ فحيثُ كانَ الزمانُ كانوا
عادانيَ الدهرُ نِصفَ يومٍ فانْكَشَفَ
الناسُ لي وبانُوا يا أَيها المُعرِضونَ عَنّا عُودوا
فقد عادَ لي الزمانُ»
وذليل يُعَزّ لأنه اغتنم الفرصة بخدماته ومواقفه الاجتماعية الطيبة وما صنع لنفسه. أين صار العزيز؟ وكيف رُفع شأن الذليل؟
إذن، لا نحكم ونجزم ببقاء الشيء كما علمناه أو نُقل إلينا من أزمان، إنما الأنسب أن نقول: ”بقاء الحال محال في كثير من الأحيان“. التحول وارد سلبًا وإيجابًا بين ليلة وضحاها، لا الاستقامة ترافق لنهاية العمر «إبليس من العباد عصى»، ولا الانحراف حتمًا يلازم إلى الموت «بشر من الفساق تاب». لا نعيب ونتتبع أحدًا بصفات كانت فيه قبل عشرات السنين، بل الأولى أن نحسن الظن، وإن بحذر، نزرع الأمل، نبتعد عن اليأس، نكن متفائلين تجاه الآخرين لا متشائمين.
ولا نركن للخمول والتبعية، ”أبي وجدي فقيران متواضعا المهنة، ما عساي أن أغير؟ كيف أخالفهما؟“ هذا منطق غير سليم، فكر الفاشلين الجبناء العاجزين.
بل انظر لزمانك بعين بصيرة، طور، ارسم مستقبلك بنفسك بعيدًا عن ماضٍ ليس فيه فرص الحاضر وإمكانياته. أمامك نقلة نوعية من العلوم مستجدة متتالية، دع عنك أباك وجدك وابن عمك فيما يسوء ويشين إن كان فيهم، وخذ أحسن ما يزينك وينفعك منهم إن وُجد. أنت ابن ساعتك، نحن في عصر الطائرة والشبكة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي.