الطبيب.. بين العلم والمعاملة
تُعدُّ مهنة الطِّب من أرقى وأعظم المهن التي تميَّزتْ بها الإنسانيةُ على مرِّ العصورِ؛ فقد كانَ الطَّبيبُ وما زالَ في مقدَّمة الشَّخصيات التي يفتخرُ بها المجتمعُ، ويشعرُ الجميعُ بعظم دورهِ في تحسين صحَّةِ الأفرادِ وحياةِ المجتمعِ ككلِّ.
قد يُنظرُ إلى الطَّبيب على أنَّه شخصٌ يمتلكُ قدراً من العلمِ والقدرةِ يصعبُ على غيرهِ امتلاكها؛ فهو يمرُّ بتحديات كبيرةٍ وصعوبات لا تخلو من الضَّغطِ والتَّفاني في العملِ، وكثيراً ما يُعتبر الطبيب رمزاً للقدوةِ والمثاليةِ، حيثُ لا تكادُ تجدُ طفلاً في المرحلةِ الابتدائيةِ إلَّا ويتمنى أن يصبحَ طبيباً في المستقبلِ، ومنذُ العصورِ القديمةِ وحتَّى يومِنا هذا كان الطَّبيبُ ولا يزال عنصراً أساسياً لا غنى عنه في أيِّ مجتمعٍ، سواء في السلمِ أو الحربِ، في الرَّخاءِ أو الشِّدةِ؛ فالطَّبيبُ هو الشخص الذي يعيدُ للأفرادِ صحَّتَهم، ويخففُ من معاناتهم، ويعطي الأملَ للمريضِ وأسرتهِ.
لقد كان الطبُّ في الماضي مهنةً نادرة، وكانت الاستعانةُ بالأطباءِ الأجانبِ منتشرةً في كثيرٍ من المجتمعاتِ، خاصةً في مجتمعاتنا، وأمَّا اليوم فقد أصبحَ شبابُنا قادرينَ على أن يصبحوا أطباءً ذوي كفاءةٍ عاليةٍ، يتفوقون في تخصصاتهم على المستوى المحليِّ والعالميِّ، وكلُّنا أملٌ أن يستمرَّ هذا المسارُ الصَّحيحُ في تطويرِ مهاراتهم العلميةِ.
لكن ومع هذا التَّقدم العلمي الكبيرِ الذي نعيشه في الطبِّ نجدُ أنَّ بعضَ الأطباء اليومَ قد يغفلون عن الدَّور الأهم الذي يقوم به الطبيبُ؛ ألا وهو الاهتمامُ بالجانب الإنسانيُّ؛ فالطبيبُ ليس فقط الشخصَ الذي يقدِّمُ العلاجَ والدَّواءَ، بل هو مَنْ يتحملُ مسؤوليةَ حياةِ البشرِ، ويتعاملُ مع مشاعرهم، ويستمعُ لهم بحرص وتفهم، ولكن مما يؤسفُ له أن نجدَ بعضَ الأطباءِ «وعلى الرغمَ من قلَّةِ عددِهم» قد ينسونَ هذا الجانبَ الإنسانيَّ في مهنتهم، وقد يكون بعضُهم مشغولاً بحجمِ المرضى الذين ينتظرونَ في الخارجِ، وكم الوقت المتبقي له في عيادتهِ، دونَ أن يدركَ تماماً أنَّ المريضَ لا يبحثُ فقط عن علاجٍ، بل عن الاحترامِ والاهتمامِ من شخص يعتبره آخرَ أملٍ له في الحياةِ.
حينما يلجأُ المريضُ إلى الطبيبِ يكونُ في أمسِّ الحاجةِ إلى شخصٍ يسمعُ شكواهُ، ويشعرهُ بالأمانِ والطمأنينةِ؛ لأنَّ المريضَ في لحظةِ مرضهِ قد يشعرُ بالضَّعفِ والخوفِ؛ لذلكَ على الطبيبِ أن يدرك تماماً أنَّ مهمتهُ ليست مجردَ تشخيصِ المرضِ وإعطاءِ الدواءِ، بل إنَّ دورهُ يمتدُّ إلى تقديمِ الدعمِ النفسيِّ والمعنويِّ؛ ومن هنا فمن المؤلمِ أن نجدَ بعضَ الأطباءِ يفتقدونَ هذا الجانبَ، ويصبحُ اهتمامهمُ محصوراً في عددِ المرضى الذين ينتظرونَ، وتوقيتِ العودةِ إلى المنزلِ، دون أن يدركوا أن المرضى الذين ينتظرونَ خارجَ عيادتهم ليسوا مجردَ أرقام في قائمةٍ طويلةٍ، بل هم أفرادٌ في لحظات صعبةٍ من حياتهم.
إنَّ هذا الجانبَ من المهنةِ؛ أي الاهتمام بالأخلاقِ والتعاملَ مع المريضِ كإنسانٍ أولاً، يجبُ أن يكونَ أساساً في كلِّ ممارس لمهنةِ الطبِّ؛ ولذلكَ نوجِّهُ هذه النصيحةَ إلى أولئكَ القلةِ الذين ربما غفلوا عن هذا الجانبِ:
تذكروا أنَّ الطبيبَ ليس مجردَ عالِم في تشخيصِ الأمراضِ، بل هو شخصٌ يملكُ قدرةً على شفاءِ الأرواحِ قبلَ الأجسادِ، فلا تنسوا أنَّكم الأشخاصُ الذين يلجأُ إليهم المجتمعُ في أصعبِ الأوقاتِ، وأن كلَّ مريضٍ هو أكثرُ من مجردِ حالةٍ طبيةٍ، بل هو إنسانٌ في حاجةٍ إلى اهتمامكمُ ورعايتكم.
في النهايةِ، يظلُّ الطبيبُ رمزاً للعطاءِ والتضحيةِ، فمهنةُ الطبِّ ليست مجردَ تخصصٍ علميٍّ بل هي رسالةٌ إنسانيةٌ قبلَ كلِّ شيءٍ، إلَّا أنَّه يتطلبُ منه أن يكونَ عالماً، غير أنَّ الأهمَّ من ذلكَ أن يكونَ إنساناً يتحلى بالأخلاقِ الحميدةِ والتعاطفِ مع مرضاه، وإن كان هناك تقدم كبير في العلمِ والتَّكنولوجيا الطبية، ومع ذلكَ يبقى التوازنُ بينَ العلمِ والأخلاقِ هو مفتاحُ النجاحِ في هذه المهنةِ، وعلى الأطباءِ أن يتذكروا دائماً أنَّ رسالتهم لا تقتصرُ على تقديمِ العلاجِ فقط، بل تشملُ أيضاً دعمَ المرضى نفسياً وإحساسهمُ بالراحةِ والأمانِ.
إنَّ الاهتمامَ بالإنسانيةِ وتقديمَ الرعايةِ الشاملةِ هو ما يميِّزُ الطبيبَ الحقيقيَّ ويجعلهُ جديراً بالاحترامِ والتقديرِ.
نسألُ اللهَ أن يوفقَ جميعَ الأطباءِ ليكونوا قدوةً في العلمِ والأخلاقِ، وأن يستمروا في أداءِ رسالتهمُ الإنسانيةِ بكلِّ تفانٍ وإخلاصٍ.