آخر تحديث: 27 / 12 / 2024م - 1:40 ص

الدِّيوانيات: بين التَّواصل الاجتماعي وهدر الوقت

هاشم الصاخن *

تُعْدُّ الديوانياتُ أو المجالسُ كما يُطْلَقُ عليها في بعضِ دولِ الخليجِ ظاهرة اجتماعية بارزة شَهِدَتْ انتشارًا واسعًا خلالَ السَّنواتِ الخمسِ والعشرينَ الماضيةِ، وتُشَكِّلُ هذه المجالسُ مُلْتَقًى اجتماعيًا مهمًا يَجْمَعُ الأفرادَ، سواءً كانوا أصدقاء أو معارفَ لتبادلِ الآراءِ والأفكارِ، مما يُتِيحُ حوارًا ثقافيًا واجتماعيًا أو رياضيًا يُعَزِّزُ الرَّوابطَ بينهم، كما أنَّ هذه المجالسَ مساحة مفتوحة للنقاشاتِ والنَّقدِ في مواضيعَ متعددةٍ، مما يُسَاهِمُ في تعزيزِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ داخلَ المجتمعِ.

على الرَّغمِ من الفوائدِ الكبيرةِ التي تُوَفِّرُها هذهِ الديوانياتُ في تقويةِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، إلَّا أنَّها تَحْمِلُ في طيَّاتِها آثارًا سلبيةً قد تُؤَثِّرُ على وقتِ الأفرادِ وإنتاجيتهم.

أصبحَ هاجسُ غالبيةِ المهتمينَ بحضورِ هذهِ المجالسِ هو الموقعُ والمكانُ، حيثُ أصبحَ إنشاءُ أو وجودُ هذا المكانِ جزءًا أساسيًا من حياتِهم اليوميةِ، سواءً كانَ بالمجانِ أو مقابلَ أجرٍ ماليٍّ؛ فمَنْ كانَ لديهِ مكانٌ منذُ سنوات تَجِدهُ يَتَمَسَّكُ بهِ كما يَتَمَسَّكُ بدينِهِ ومعتقدِهِ، في حينِ أنَّ مَنْ لا يَمْتَلِكُ مكانًا، تَجِدهُ يَبْحَثُ عن مأوًى لهُ يُشْغِلُ جُزْءَا كبيرًا من وقتِهِ اليوميِّ، لدرجةِ أنَّ ظاهرةَ المجالسِ أصبحتْ لدى بعضِ الشَّبابِ جزءًا من ثقافتِهم اليوميةِ، ففي حالِ بناءِ منزلٍ جديدٍ، يكونُ من الأولوياتِ لديهم تصميمُ الديوانيةِ لتكونَ مُلْتَقًى لأصدقائِهم، وحتَّى الآنَ لا نَجِدُ ما هو معيبٌ أو غيرُ جيدٍ في هذهِ الظاهرةِ، ولكن حسبَ علمي هناكَ بعضُ المجالسِ، خصوصًا تلكَ الموجودةَ في المزارعِ أو الأماكنِ المفتوحةِ، التي تظلُّ مفتوحةً على مدارِ السَّاعةِ دونَ تحديدٍ لوقتِ الإغلاقِ أو الرَّاحةِ، حيثُ يتغيرُ مرتادوها بحسبِ الأوقاتِ، وهذهِ المجالسُ قد تبدو أحيانًا كما لو كانتْ ”شركةً“ تعملُ بلا توقفٍ لتحقيقِ أهدافٍ غيرِ واضحةٍ.

والأغربُ من ذلكَ أن أصبحَ تفكيرُ بعض الشبابِ وخاصة المتزوجين منهم منصبًّا بالكامل على انتظار اللحظة المناسبة للذهاب إلى الديوانية، وكأنَّ حضورَها أصبحَ أمرًا مفروضًا لا بدَّ منه، متجاهلينَ أو متناسينَ واجباتِهم الأسريةِ.

والسُّؤالَ الذي يطرحُ نفسهُ هنا هو: ماذا حققتْ هذهِ الديوانياتُ؟

والجوابُ هو: لا شيء.

على سبيل المثالِ، نجد رجلًا يعمل من السَّاعةِ 8 صباحًا حتَّى 5 مساءً، ثم يعود إلى المنزلِ ليأخذَ قسطًا من الرَّاحةِ لمدَّة ساعةٍ، ثم يخرج مرةً أخرى إلى الديوانيةِ ليظل هناك حتَّى السَّاعة الواحدة صباحًا، وأحيانًا حتَّى وقتٍ متأخرٍ، ويعودُ بعدَها إلى منزلهِ لينامَ، ثم يكررُ نفسَ الرّوتين يومًا بعد يومٍ، وشهرًا بعد شهرٍ، وسنةً بعد سنةٍ، فماذا قدَّم هذا الرَّجلُ لأسرتهِ ومجتمعهِ؟

لقد أصبحَ هذا النَّمط من الحياةِ يساهمُ في تفككِ الأسرِ، خاصةً في السَّنواتِ الأخيرةِ، حيث ارتفعت حالاتُ الطلاقِ بشكلٍ ملحوظٍ، وأحد الأسبابِ الرئيسيةِ لذلك هو انشغالُ الرجلِ بالمجالسِ مع أصدقائهِ على حسابِ قضاءِ الوقتِ مع أسرتهِ، مما يؤثر سلبًا على استقرارِ العلاقةِ الزوجيةِ وعلى بناءِ بيئةٍ أسريةٍ صحيةٍ.

لنفرض أنَّ الشَّخص أصبحَ غير قادرٍ على تحملِ فكرةِ عدمِ ذهابه إلى هذه المجالسِ، فيُطرَحُ السُّؤالُ: ما هي نوعيةُ النقاشاتِ التي تُطرَحُ في هذه المجالسِ؟

هل هي دينيةٌ، اجتماعيةٌ، صحيةٌ، ثقافيةٌ، رياضيةٌ، سياسيةٌ، أم اقتصاديةٌ؟

وهل يستفيد الجميعُ من هذه الأطروحاتِ؟

إذا كانت النقاشات تُطرَحُ بشكلٍ متوازنٍ ومعقولٍ، وتدور حول مواضيعَ مفيدةٍ ومثيرةٍ للاهتمامِ، وتُسهم في إثراء الفكرِ وتوسيع الأفقِ، ويُسودُها الاحترامُ المتبادلُ بين الحضورِ، ويخرج الجميعُ بنتائجَ مفيدةٍ تعود عليهم بالمنفعةِ، فإن هذا يعدُّ أمرًا إيجابيًّا.

لكن في الواقع، نجد أنَّ الكثير من المجالس غالبًا ما تكون مليئةً بالنقاشاتِ التي تركز على الماضيِ، سواءً كانت أحداثًا اجتماعيةً قديمةً أو قصصًا من تجاربِ الأجدادِ أو الذكرياتِ التي لا تفيد الحاضرَ ولا تُقدِّمُ حلولًا للمستقبلِ.

في حين أن النقاشاتِ المتعلقةَ بالمستقبلِ، والتي تتناول كيفيةَ تحسين الوضعِ الحاليِّ أو تقديم حلولٍ لمشكلاتِ المجتمعِ نادرة جدًا. وهذا النوعُ من النقاشاتِ لا يُسهمُ في تطوير الذاتِ أو المجتمعِ بل يستهلكُ الوقتَ والجهدَ في مواضيعَ لا تُنتِجُ أي فائدةٍ ملموسةٍ.

إذن، عندما تصبح هذه المجالسُ مجردَ مكانٍ لتكرار القصصِ القديمةِ والنقاشاتِ التي لا تضيف جديدًا، فإنها تتحول إلى هدرٍ للوقتِ والجهدِ، في حين أنَّ الوقت الذي يمكنُ أن يُستثمرَ مع الأسرةِ في تعزيزِ الروابطِ الأسريةِ، أو في أنشطةٍ تنمي الشخصيةَ، أو حتَّى في التفكيرِ في مشاريعٍ جديدةٍ ومثمرةٍ، أو الجلوس مع الأسرةِ وقضاء وقتٍ ممتعٍ مع الأبناءِ أو الزوجةِ، أو حتَّى الاستفادة من الأنشطةِ الاجتماعيةِ التي تُسهمُ في تطورِ الفردِ والمجتمعِ، خيار أفضل وأكثر إنتاجيةً.

وخلاصة القول: يمكن للديوانياتِ أن تكونُ لها فوائدُ اجتماعيةٌ في بناءِ الروابطِ وتعزيزِ التواصلِ بين الأفرادِ، ولكن إذا كانت هذه المجالسُ تقتصرُ على نقاشات عقيمةٍ ومكررةٍ لا تُضيفُ أيَّ قيمةٍ حقيقيةٍ، فإنَّ حضورَها يصبحُ بمثابةِ إهدارٍ للوقتِ والجهدِ، ومن الأفضلِ أن يتمَّ توجيهُ هذا الوقتِ نحو الأنشطةِ التي تنمي الفكرَ وتعودُ بالفائدةِ على الفردِ والمجتمعِ، وأن تكونَ مكانًا للنقاشاتِ الهادفةِ والمفيدةِ التي تُسهمُ في تحسينِ واقعنا ومستقبلنا؛ فالحياةُ تتطلبُ التوازنَ بين العلاقاتِ الاجتماعيةِ والإنتاجيةِ الشخصيةِ.

سيهات