آخر تحديث: 27 / 12 / 2024م - 1:40 ص

في الابتدائيةِ لم أكنْ مِنَ الهَارِبين

عقيل المسكين *

- في مدرسة الأندلس (بين 1394 هـ، حتى 1399 هـ)؛ بحي الخصاب، كنت أشاهد بعض الطلاب من فصول مختلفة، بعضهم يشكّلون شلّة تتكون من ثلاثة إلى خمسة طلاّب، وبعضهم من الطلاب الذين يمشون بشكل ثنائي، بحيث لا يشترك معهم أي طالب ثالث في صداقتهم هذه، وكانوا يقفزون من فوق السور بواسطة الصعود على حاويات القمامة، وهي على شكل غرفة صغيرة ملتصقة بجانب من سور المدرسة من الداخل ولها فتحة عُلوية؛ وتُرمى فيها القمامة التي يجمعها عمّال النظافة أثناء قيامهم بأعمال التنظيف حتى تقوم سيارات البلدية بتفريغ هذه الغرفة الصغيرة من أكياس القمامة، والطلاب يركبون على هذه الغرفة الصغيرة الملتصقة بالجدار ثم يمسكون بحافة السور ويقفزون فوقه ثم ينزلون خارج المدرسة بعد أن رموا حقائبهم، ثم يلتقطونها ويذهبون لحال سبيلهم إمّا للتسكّع في الشوارع مع بعضهم البعض، أو يذهبون إلى بيوتهم، أو يذهبون للعب الكرة في بعض الملاعب القريبة، وكنت أتعجب من هذه الحالة وأستنكرها لأنني كنت من الطُّلاَّب الجادّين في دراستهم، وقد تعودت على ذلك حتى أصبحت هذه العادة جزءاً لا يتجزأ من منهجيتي في الدراسة والالتزام بها، وكأنني في ذلك الوقت أستحضر بشكل تطبيقي ومباشر مقولة قرأتها بعد ذلك بسنين طويلة قالها الروائي الكبير دوستويفسكي: ”كلُّ شيء في الإنسان عادة، إنّ العادة هي المحرك الكبير لحياة الإنسان“، وبالتالي فإنني لا أحبّ أن يفوتني أيّ درس من الدروس، لذلك كنت أكره الهروب وأكره الهاربين من الحصص، لأنني أشعر بأنهم يخربون مسيرتهم في التعلّم ويُفوّتون على أنفسهم الكثير من الدروس وينقطع حبل التواصل في تلقي الدروس بشكل متوالي كما هو في المنهج الدراسي لأيّ مادة من المواد، وبالتالي فإنهم لا يستوعبون هذه الدروس ولا يستطيعون فهمها دون شرح المعلم.

- من الجميل - أيها المِسك - أن مسيرتك الدراسية في المرحلة الابتدائية لم تسجل أيّ حالة هروب من المدرسة من قِبلك، فظاهرة هروب الطلاّب من المدارس النظامية ظاهرة قديمة قدم التعليم النظامي ذاته، وهي منتشرة في كل مكان بالعالم، ولها أسبابها التي ترجع لنفسية هؤلاء الطلاب أنفسهم، ولعوامل التربية التي يتلقونها من عوائلهم والبيئة المحيطة بهم أو البيئة التي يفضلون أن تحيط بهم ويعيشون بها، وكذلك تراكم عملية الإهمال لديهم حتى تصبح حالة طبيعية في مسيرتهم التعليمية، إضافة إلى إهمال أسرهم وذويهم عن مراقبتهم والإشراف المباشر على مذاكرتهم ومتابعة دروسهم بشكلٍ يومي، وهكذا تتعدد الأسباب، ومن الجميل أنك تتذكّر بعض مشاهد هروب الطلاب من مدرسة الأندلس في تلك الأعوام الماضية، وذكريات هروب الطلّاب من المدارس موجودة لدى الكثير من الأدباء والشعراء والكتّاب والمفكرين، سواء على صعيد تجربتهم الدراسية الخاصة أو على سبيل تجارب الطلاب الآخرين من زملائهم، وبعض هؤلاء كانوا من الهاربين من مدارسهم في بعض الأعوام لأسباب خاصة إلا أنهم واصلوا حياتهم وكافحوا ونجحوا في عملهم وبنوا مستقبلهم، وتبقى لديهم ذكريات دراستهم ومشاغباتهم أيام الدراسة، لا سيّما في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، والعديد من الأدباء والمفكرين والشخصيات المشهورة قد شاركوا بذكرياتهم عن أيام الدراسة ومشاغباتهم وشقاوتهم خلال مراحلهم التعليمية الأولى، فها هو أمير الشعراء أحمد شوقي كان معروفًا بأنه لم يكن تلميذًا مثاليًا في بداية دراسته، وكان يتميز بروحه المرحة وشقاوته، وقد كتب عن بعض مواقفه الطريفة في المدرسة، وكيف أنه كان يمزح مع زملائه وحتى مع أساتذته أحيانًا، مما جعل منه شخصية محبوبة بين أصدقائه، وها هو عميد الأدب العربي طه حسين على الرغم من فقدانه للبصر في سن مبكرة، إلا أنه كان يتمتع بروحٍ من التحدّي والإصرار، وذكر في سيرته الذاتية ”الأيام“ كيف كان يهرب من الدروس الرتيبة ليقرأ كتبًا في الأدب والتاريخ، مما ساهم بشكل كبير في تكوين ثقافته الواسعة وشخصيته الفذة، وها هو الروائي العالمي نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأدب، كان لديه العديد من الذكريات الطريفة من أيام دراسته، وقد تحدث محفوظ عن كيف أنه كان يهرب أحيانًا من المدرسة ليشاهد الأفلام السينمائية، والتي ألهمته لاحقًا في كتاباته الروائية والقصصية، ومن الكُتّاب العالميين ها هو ألبير كامو الكاتب والفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الأدب، ذكر في مذكراته أنه كان تلميذًا شقيًا في صغره، وكان يعشق كرة القدم ويهرب أحيانًا من المدرسة ليلعب مع أصدقائه، وهذه التجارب لم تؤثر سلبًا على مسيرته، بل ربما ساعدته في تكوين شخصيته القوية والمتمردة التي ظهرت في كتاباته، أما جان جاك روسو الفيلسوف والكاتب الفرنسي كان معروفًا بأنه كان يكره المدرسة في طفولته، وتحدث روسو عن شعوره بالاختناق داخل الصفوف الدراسية وكيف أنه كان يهرب إلى الطبيعة ليجد السلام والهدوء، وهذه التجارب شكلت فيما بعد أفكاره الفلسفية حول التربية والتعليم، أما الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين، كان من المشاغبين في صغره، ففي كتابه ”مغامرات توم سوير“ يعكس توين بعضًا من تجاربه الشخصية كمراهق مشاكس، وكان يهرب من المدرسة ليصطاد الأسماك أو يستكشف الطبيعة، مما أضاف لكتاباته روح المغامرة والطرافة، وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل لأدباء وشعراء وفلاسفة ونُقاد تظهر لديهم حالة الشقاوة والمشاغبة في الصغر وهي لا تعني بالضرورة الفشل في المستقبل، بل يمكن أن تكون جزءًا من مسيرة تكوين الذات والإبداع، وهؤلاء الشخصيات استثمروا تجاربهم الأُولى وأعادوا توجيهها نحو النجاح والتميز في مجالاتهم المختلفة، ومن اللطيف أنك أيها (المسك) تطرقت إلى هذه الحالة التي لم تكن ترتاح إليها في صغرك أيام دراستك في مدرسة الأندلس الابتدائية وهي ليست شرطاً في حصولك على العبقرية في مستقبلك، وإنما كنت تطمئن إلى استقرارك الدراسي وتسالمك مع الطلاّب لولا بعض الشقاوة بين الفينة والفينة، وهذا لا يسلم منه أي طالب مهما كان مستواه من الذكاء والفطنة.

- أيها (الرِّوائيَّاتي) العجيب إن الهروب من الدراسة تعني الهروب من المسؤولية، أما أولئك الأدباء الذين ذكرتهم فقد كانوا يهربون من الرتابة الاعتيادية إلى مسؤولية أعظم، وهي تكوين ذواتهم وصناعتها على الوجه الذي يستشرفون من خلاله مستقبلهم المزهر، وقد فطنوا إلى ذلك ووصلوا إليه، أما الذين ذكرتهم من أيام دراستي الابتدائية فقد كانوا من بيئة شعبية بسيطة ولم يحصلوا على تلك الذكاءات المستشرفة لمستقبلٍ ما إلا ما كانوا يبحثون عنه في ذواتهم، وربما وجدوا بعضه ولم يجدوا البعض الآخر، لذلك تسالموا مع زملائهم، وساروا في دراستهم كيفما اتفق، أما من خلال سيرتي في هذا المنوال فقد تآلفت مع جميع الطلاّب من باب السلوك الحسن والود، وتصادقت مع كلّ المدرسين حتى أحصل على التعليم النظامي السليم الذي أضمن من خلاله مستقبلاً مقبولاً ترضى به ذاتي وتستقر به نفسي ويهدأ به روعي من الواقع والحياة الصعبة، وكلّ إنسان له مستواه الخاص به في مواجهة البيئة الصعبة التي يعيش فيها ومواجهة الواقع المغاير عن أيّ واقع آخر لأولئك الذين ذكرتهم لي.

- صدقت، كلامك كله صحيح، وأنا أكبِرُ فيك هذه الصراحة وهذا التقييم للذات.