بيروت برداً وسلاماً
في الثلاثين من تموز/ يوليو من هذا العام، شنّت إسرائيل هجوماً صاروخياً على العاصمة اللبنانية، بيروت، لكن الحرب الفعلية على لبنان، أخذت مكانها بعد تفجير آلاف البيجرات، ووسائل الاتصالات في لبنان، راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، والعشرات من الناشطين بالضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ليتبعها اغتيال الأمين العام لحزب الله، ولتبدأ حرب غير مسبوقة في عنفها ووحشيتها على لبنان، لم تقتصر على الضاحية وحدها، بل شملت كافة أرجاء مدينة بيروت، وتطوّرت لتشمل قوى سياسية، من خارج بيئة الضاحية الجنوبية للمدينة، شملت فلسطينيين ولبنانيين.
توقفت الحرب في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد منازلة أسطورية، أبلت فيها مقاومة اللبنانيين للعدوان الإسرائيلي بلاءً حسناً. دافع اللبنانيون بشراسة عن أرضهم، ووصلت صواريخهم إلى يافا وعكا وطبريا وتل أبيب، إلى حين وافق المتحاربون على مضض على وقف إطلاق النار.
بداية الحرب، كانت مرتبطة بما عُرف بحرب إسناد اللبنانيين لأشقائهم في غزة، أمام حرب الإبادة التي لا يزالون يتعرّضون لها، من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي تسبّب في أكثر من خمسة وأربعين ألف ضحية، وأكثر من مئة وخمسة من الجرحى، تقدّر بعض المصادر، ومن ضمنها محكمة الجنايات الدولية، أن جُلّهم من النساء والأطفال والشيوخ، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المواجهة.
هذه المعركة اتّسمت بما عرف بقواعد الاشتباك؛ حيث لم تتجاوز أكثر من ستة إلى سبعة كيلومترات، في العمق الإسرائيلي، معظمها في إصبع الجليل والجليل الأعلى، ولذلك كانت حرباً محدودة لأكثر من عام كامل.
وربما أجّل الإسرائيليون حربهم على لبنان، بحسبان أن معركتهم في غزة لن تطول، وأنهم سيكونون قادرين في فترة وجيزة على إلحاق الهزيمة الشاملة بغزة، لكنهم بعد هذه الفترة الطويلة، وحتي يومنا هذا لم يتمكّنوا من السيطرة على أيّ جزء منها، ولا تزال قواتهم تقاتل في الشمال من القطاع.
وكانت كلفة ذلك كبيرة، على سمعة دولة الاحتلال على الصعيد العالمي، كما كان لها انعكاساتها المباشرة، على الداخل الإسرائيلي، خاصة بعد عجز حكومة نتنياهو حتى هذا التاريخ، من التوصل إلى صفقة مع الفلسطينيين، تتكفل بإعادة الأسرى الإسرائيليين. وبات مألوفاً أن تشهد تل أبيب مظاهرات يومية من قبل عوائل الأسرى، تضغط على الحكومة الإسرائيلية، للتوصل إلى صفقة تعيد الأسرى إلى عوائلهم.
الاستنزاف المستمر، لأكثر من أربعة عشر شهراً للقوات الإسرائيلية، وتكرّر الشكوى من نقص في الأسلحة والهروب من التجنيد، يضاف إلى ذلك مواجهات الشمال، تسبّب في رحيل أكثر من مئتَي ألف من الإسرائيليين، الذين يقيمون في المناطق المحاذية للجنوب اللبناني. وقد شكّل هذا النزوح الكبير، جرحاً نازفاً يضغط بقوة على حكومة نتنياهو.
وكان الهروب إلى الأمام، بالهجوم الواسع على لبنان، هو ما تفتقت عنه عبقرية الحكومة الإسرائيلية، لتضع نفسها في مستنقع كبير، لا قِبَل لها بمواجهته. ومنذ إعلان الحرب على بيروت، تحوّلت حال المواجهة مع الإسرائيليين، من معركة إسناد إلى حرب مستعرة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
والحقيقة، أن الوضع في لبنان، مختلف جذرياً عن نظيره في غزة، فالعمق الاستراتيجي هنا أوسع وأكبر، والحدود بين سوريا ولبنان مفتوحة، من الشمال إلى الجنوب، الأمر الذي صعّب الموقف على الإسرائيليين. لكن نقطة الضعف في لبنان، هي عدم إجماع مختلف الأطراف اللبنانية على موقف موحد.
والاختلاف بين اللبنانيين، معروف تاريخياً، وقد قاد إلى حروب أهلية عام 1958، أثناء عهد الرئيس كميل شمعون، وكان محور الخلاف في حينه، هو حلف بغداد الذي سعت كل من أمريكا وبريطانيا إلى إلحاق لبنان فيه. وفي منتصف السبعينات، اندلعت حرب أهلية ثانية، أعلن أن أحد أسبابها هو تصاعد الوجود الفلسطيني في لبنان، الذي اعتبره البعض تهديداً للتشكيل الديموغرافي للبلاد.
واستمرّت تلك الحرب، بين مدّ وجزر، حتى عام 1989، حين دعت حكومة المملكة العربية السعودية معظم الفرقاء اللبنانيين المتخاصمين، لعقد مؤتمر مصالحة بمدينة الطائف، أكدت نتائجه على دعم السلطة اللبنانية، بجنوب لبنان، الذي كان محتلاً آنذاك من قبل القوات الإسرائيلية.
خلاصة القول، أن الساحة اللبنانية تفتقر إلى التجانس بين مختلف القوى السياسية، لكن قدر اللبنانيين، والحفاظ على أمنهم ومستقبلهم، يفرض سيادة مفهوم التعايش، وقبولهم لبعض. وأمامهم الآن، بعد وقف إطلاق النار معركة صعبة، تتمثل في إعمار ما خلفته الحرب من دمار وجروح عميقة.
وما يبعث على الأمل بالتغلب على الصعاب، هو إجماع اللبنانيين، على سدّ الفراغ في مؤسساتهم التنفيذية والدستورية، وتحديد موعد لانتخاب رئيس للجمهورية، وإجراء انتخابات نيابية، وتشكيل حكومة جديدة، وهي فرصة تاريخية، ينبغي ألّا تفوت على لبنان.
وكما ناصر العرب جميعاً لبنان، وساهموا في إعادة إعمار ما خلّفته حرب تموز/ يوليو 2006، فالمتوقع أن يكون الدعم أكبر وأسرع في هذه المرحلة، لكي يبقى لبنان عزيزاً، ولتكون النتيجة برداً وسلاماً على بيروت.