على هامشِ مذكراتِ أمل
مساء الاثنين 01/06/1446 هـ كنتُ مُدعوّاً لحضور حفل توقيع كتاب جديد لصديقنا الأستاذ رضي منصور العسيف بعنوان «مذكرات أمل»، ومن عادتي في حضور أمثال هذه الأمسيات الجميلة أن أكون جاهلاً بالكتاب الذي يُوقّع من أوله لآخره، ولا أعلم عنه إلا العنوان - للأسف الشديد -، وهذه عادة سيئة على أيّ حال بل هو ذنب يُضاف إلى قائمة ذنوبي الثقافية الكثيرة، مثل تكاسلي عن حضور معارض الكتب، وتقاعسي عن قراءة جديد كتّابنا وكاتباتنا بشكل عام، وتقصيري عن كتابةِ انطباعاتي عمّا أقرأ من الإصدارات - فيما لو قرأتها -، وأضيف من هذه الذنوب ذنبًا يتعلّق بتفويت فرصة اقتناء هذه الإصدارات الجديدة لمكتبتي الخاصة التي أوقفتها للمختصين وخصصت لها مكانًا مُستقلاً هو عبارة عن مكتبة في مقر نادي عرش البيان الأدبي ”لهواية الأدب“ بحي الديرة بسيهات، وأنا أدعو الله أن يغفر لي جميع الذنوب ومنها هذه التي ذكرتها لك أيها القارئ العزيز.
لأعود للموضوع حتى لا أشتت ذهنك هنا وهناك، فالجميل أن صديقنا الأستاذ رضي أهداني نسخة من إصداره الآنف الذكر، بعد أن ملأت قاعة حفل التوقيع بمركز الحبيب للعلاج الطبيعي بشيء أو بأشياء ضمن مداخلتين أو ثلاث - لا أتذكر -، حتى شعرت أنني تطفّلت بمداخلاتي هذه، إلا أنني عرفت فيما بعد من وجوه الأخوة الحضور أن مداخلاتي كانت مقبولة، فقلت في نفسي: الحمد لله.
لقد التقطت كلمة قالها الأستاذ رضي أثناء إلقاء كلمته الجميلة عن هذا الإصدار الجميل - أيضًا -، وهي تطرقه للواقعية التي التزم بها في عرض قصة الرواية التي سردها في 174 صفحة من القطع الوسط، وعدم ذهابه إلى الخيال بشكل مطلوب كما في الروايات التي يتعب عليها كُتّابها من ناحية الصياغة الأدبية بأسلوب السرد الفني، وقلت في مداخلتي: ما أحلى أن يكون الكاتب سارداً واقعياً في كتابته القصصية والروائية، لأن السرد الواقعي قد يكون أبلغ من الخيال نفسه، وفي ذلك أمثلة كثيرة في تراثنا الأدبي العربي، وكذلك في مسيرة القصة والرواية في العالم الغربي، ويمكن أن نمثل من تراثنا الأدبي العربي روايات محمد عبد الحليم عبد الله، ونجيب محفوظ، وحنا مينا وغيرهم، ومن الفرنسيين على سبيل المثال بلزاك، وغيره، وفي الأدب النرويجي نقرأ رواية الجوع للروائي كنوت همسون التي صدرت عام 1890 م، ونشرت على شكل أجزاء عام 1888 م، وهي فاتحة أدبية على القرن العشرين حيث تُصور هذه الرواية اللاعقلانية للعقل البشري بطريقة مثيرة للاهتمام وفيها روح الدعابة أحياناً، ولا ننسى ملاحقة الأمل لبطل الرواية، وأعني به ذلك الأمل الذي يوصله إلى إشباع بطنه والهروب من الجوع، وقد كان أسلوب كاتبها هو الواقعية سواء في سرديتها أو في حواراتها، أو في حركة الشخوص الرئيسيين أو الهامشيين، وحتى في المكان والزمن، حيث تقع أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر في أوسلو، وتروي مغامرات شاب جائع تتجه أحاسيسه بالواقع بعيداً نحو الجانب المظلم من مدينة حديثة، ففي الوقت الذي يحاول عبثاً الحفاظ على مظهر خارجي من الاحترام، إلا أن تدهور وضعه الذهني والجسدي يوضح حالته بالتفصيل، ومما زاد الطين بلة أنه لم يكن لديه الرغبة في ممارسة مهنة احترافية، إذ كان يرى أنها غير صالحة لشخص بقدراته. في الكثير من النواحي، عرض بطل الرواية صفقات تذكرنا براسكولنيكوف، الشخصية التي ابتدعها فيودور دوستويفسكي والتي ألهمت همسون كثيراً، ويبدو تأثير مؤلفي أدب الطبعانية كإميل زولا واضحاً في الرواية، كما يبدو أيضاً رفضه لتقاليد الواقعية الأدبية، ويستبدلها بالواقعية التقريرية، حيث إن بطل رواية الجوع يقدم تقريراً عن جوعه وفاقته والحالة المزرية التي يعيشها، ولكن بأسلوب مشوق، ولم يغرق سرده في بحر من الخيال الفني الجامح.
ومقولة الأستاذ رضي بعدم اللجوء إلى الخيال بالمستوى المطلوب في روايته هذه مع التزامه بواقعية ”الحدوتة“ - كما يقول المصريون - أثناء عملية الإنشاء التعبيري لبطلة روايته «مذكرات أمل»، هذا القول يمكن أن نردّه بأهمية إضافة شيء من الخيال الواقعي أيضًا، وأنا أنتصر لكثير من المقولات التي تؤكد أن الواقعية في السرد الأدبي إذا كان يحمل شيئاً بل أشياء من الدهشة فهو أغرب من الخيال نفسه، كما جاء في كتاب «الحقيقة أغرب من الخيال.. ألف قصة واقعية ومثيرة» لأندره كسبار.
والمداخلة الثانية التي تطرقت إليها أثناء هذه الأمسية المدهشة في موضوعها والجميلة في طرح المتحدثين فيها هي تطرّقي إلى كون الكاتب لأمثال هذه القصص والروايات وهو من غير المتخصصين في اللغة العربية والأدب العربي - بمختلف تخصصات هذين المجالين في جامعاتنا - فإنهم سيواجهون تحدياً كبيراً، فهم إما أن تكون نتاجاتهم الكتابية في القصة القصيرة أو القصة الطويلة أو الرواية عبارة عن تقارير إنشائية لحالات إنسانية، أو يتم إضافة جنبة أدبية بدرجاتٍ ما فتصبح مقبولة أدبياً ويجوز أن نطلق عليها قصة أو قصة طويلة «نوفيلا» أو رواية، وهذا ليس مستحيلاً على من يلجأ لكتابة هذا اللون الأدبي من علماء النفس والأطباء والأخصائيين الاجتماعيين وغيرهم، وتحصيل الجنبة الأدبية ليست مستحيلة، حيث تأتي بكثرة قراءة القصص والروايات والنقد الأدبي في هذه الأجناس الأدبية، مع كثرة الاحتكاك بالوسط الأدبي المعني بهذه الألوان الأدبية المدهشة، وهكذا فعل الدكتور مصطفى محمود وتخصصه الطب، وكذلك الدكتور غازي القصيبي وتخصصه الإدارة، وغيرهم الكثير.
وفي ختام هذه الأمسية أبديت إعجابي بخلاصة النص الذي أورده الأستاذ رضي العسيف، ووعدته بقراءة الرواية والكتابة عنها.