آخر تحديث: 5 / 12 / 2024م - 12:40 ص

في أوّل طابورٍ صباحيٍّ لم أسمع اسمي

عقيل المسكين

في أحد صباحات العام الدراسي 1393 هـ/ 1394 هـ وقد أتممت السادسة ودخلت في السنة السابعة، من تاريخ مولدي في 13/04/1386 هـ ببيتنا العود في ديرة سيهات، وقد أيقظتني أمي وساعدتني على الاستحمام السريع في حمامنا الصغير المشترك الذي نسميه في لهجتنا الدارجة بـ «اليَلسِة» بمقر سكننا في الدور السفلي بالبيت العود بالديرة، حيث نسكن في غرفتين غرفة لأبي وأمي، وغرفة لي ولإخوتي وأخواتي الصغار، وقامت أمي بتلبيسي ملابسي وتجهيز حقيبتي الصغيرة، وكنت فرحًا بها أيّما فرح، حتى إنني تأكدتُ من محتويات حقيبتي من بعض الدفاتر وأقلام الرّصاص والمسّاحة والبرَّاية والتشكيلة وكرّاسة الرسم، كما وضعت لي أمي في كيس بلاستيك صمولة وفيها بعض الجبن والمربى حتى لا أجوع في الفسحة وفوق ذلك أعطتني أيضًا مصروفًا ضئيلًا لكي أشتري لي من المقصف في الفسحة إذا أردت ذلك، وحتى لا أشعر بأي نقص وأنا أنظر للطلاب وهم يشترون ما لذّ وطاب من المقصف المدرسي.

ومشت معي أمي للطريق المؤدي إلى المدرسة في آخر حيّ الخصاب ثم قالت لي:

- عليك أن تمشي مع الطُلاّب، وقد عرفتَ من قبل مكان المدرسة فلا تذهب يمينًا ولا شمالًا فالمدرسة أمامك مباشرة بعد أن تقطع هذه المسافة التي تراها وسترى المدرسة على اليمين وستدخل مع بقية الطُلاّب.

وبالفعل صرت أمشي حيث قطعت الشارع الذي على يمينه بيوت حيّ الخصاب وعلى يساره السور القديم لمقبرة سيهات، وعلى اليمين أيضًا شاهدت ”المغيسل“ وبجانبه عين الماء وهي مُحوطة بسور على شكل نصف دائري بجانب مسجد أو مصلّى العباس .

عند وصولي إلى المدرسة كنت أشاهد الكثير من الطلاب الصغار في أول يوم دراسي لهم بالصف الأول الابتدائي، وبعضهم من أبناء الجيران حيث صرت أمشي معهم إلى الداخل، وهناك استقبلنا المدرسون وهم من جنسيات مختلفة، فبعضهم يلبس الثوب والغترة والعقال وهذا يعني أنهم من المملكة، وآخرون من سوريا والأردن والسودان ومصر، ويوجد من الفرَّاشين اثنان أو ثلاثة ومنهم الحاج علي الحيّ - وتًسمى عائلتهم بـ السدرة أيضًا - وهو أحد أصدقاء والدي ومن جلسائه.

بدأ بعض المدرسين بترتيب الطابور الصباحي الأول الذي حضرته في حياتي، وكم كان لهذا الطابور من ذكريات جميلة، ولكنها مُحزنة بشكل مؤقت، حيث بدأ الأستاذ واثق وهو أردني الجنسية بمناداة الأسماء لتوزيعها على الفصول، وصرت أسمع الكثير من الأسماء إلا أنني لم أستمع إلى اسمي، وأتذكر إن~ لم تكن قد خانتني الذاكرة أنني رجعت إلى بيتنا العود بحيّ الديرة بِخفّي عقيل ولم أدخل إلى أي صفٍّ من الصفوف، حينها شعرت بالكثير من الخيبة لأنني كنت قبل ذلك فرحًا بانضمامي إلى المدرسة لتعلّم القراءة والكتابة واكتشاف هذا العالم الجديد على طفل بريء مثلي يتطلّع إلى مستقبلٍ مجهول انطلاقًا من أزقة هذه الديرة القديمة التي كانت داخل قلعة حصينة لها في القِدم ما لها، وهي الآن مفتوحة على كلّ الجهات بعد أن تم تهديم جدران القلعة قبل سنوات طويلة أيام أجدادنا في أواخر أو بُعيد العهد التركي في المنطقة أو في بدايات عهد توحيد المملكة على يدَي المغفور له الملك عبد العزيز.

كنت أريد أن أنطلق لأرى العوالم الجديدة بِعَينَي الرُّوح وأستمع إلى الأصوات الجديدة بأُذنَي الوجدان والنّفس، وألمسُ جدران الحضارة الجديدة التي كنت أشاهد الكثير من معالمها في التلفزيون الأبيض والأسود وقتئذٍ لدى عمّاتي وأعمامي في الطابق العلوي من البيت العود؛ ولا سيما تلك الأفلام الهوليودية القديمة التي كانت تعرض أفلام ال ”كاوبوي“ وأفلام الحروب والمطاردات البوليسية في مختلف ولايات أمريكا التي كانت تصدر في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات الميلادية؛ إضافة إلى الأفلام الرومانسية والاجتماعية المصرية والشامية التي كانت تُعرض وقتئذٍ.

كنت أريد أن أتعلم القراءة لأنني وجدت في ذاتي عشقًا للقراءة منذ نعومة أظفاري، وبالذات عندما كنت أشاهد الآخرين وهم يقرؤون القرآن، أو يذاكرون في كتب المدرسة، أو يطالعون في دفاترهم ويحلّون واجباتهم، إضافة إلى أنني كنت أشاهد أمي وهي تقرأ في المجاميع الحسينية بصوتٍ رقيق وعلى عدة أطوار؛ لأنها كانت مُلاَّية تساعد الملاّيات المختصات والمحترفات في تلك الأعوام الماضية، ولا سيما الملاّية شيخة، وهي إحدى الملايات ببلدتنا سيهات، وكانت معها الخالة فاطمة أيضًا وهي تعيش في البيت الصغير المجاور للأرض الجنوبية من «البيت العود» وهي أرض فارغة إلا من غرفتين صغيرتين وهي لجدتي أم منصور، حيث ورثت فاطمة تلك الأرض الصغيرة من جدي لأمي منصور بن علي بن صالح المسكين، كما ورثت أمي الأرض الصغيرة المجاورة للبيت العود من أبيها حجي منصور أيضًا، أما «البيت العود» فيعود لأخيه مدن وهو جدي لوالدي الحاج ناجي بن مدن المسكين، كما كنت أشاهد والدي وهو يقرأ في الفواتير وسندات القبض التي كان يكتبها لأعمال المنجرة الصغيرة الكائنة بشارع السوق مقابل مسجد الإمام الرضا ، وكل ذلك ترك لدي شغفًا بالقراءة والكتابة معًا، حتى إنني من ضمن تسلياتي اليومية هي الخربشة إما على الجدران أو في ما يتبقى من الورق أو الدفاتر المستعملة التي أراها هنا أو هناك، كما كنت أحب الرسم بالخرابيش على الدفاتر المستعملة التي أعثر عليها مرمية عند حاويات القمامة في الطرقات والأزقة.

كما كنت متلهّفًا للقراءة لأنني شاهدت كثيرًا في بيت جارنا الحاج «أبي أحمد» علي الربعان - رحمه الله - وهو والد الأستاذ أحمد الربعان، وله إخوة أصغر منه، وله من البنات كل من فاطمة وزهراء وفضيلة، وأمهم تُكنى بـ «أم أحمد»، وهي من صديقات الوالدة وتدخل بيتنا كثيرًا وهي من المستمعات المواظبات على حضور مجالس التعزية النسائية، وكذلك تجلس مع النساء لاستماع مجلس العادة الأسبوعية للملا عبد الرحيم النصر ومن جاء بعده، وقد تعودت أن أدخل بيت حجي علي ربعان وأشاهد الأستاذ أحمد أو أخيه وكذلك أخواتهما وهم يقرؤون في بعض الكتب وبعض المجلات العربية مثل مجلة «العربي»، ومجلة «النهضة» وتصدران من الكويت، بينما أنا أستمتع بالنظر إلى الصور والرسومات في تلك الكتب والمجلات وفي بعض الأحيان كنت أسأل من أراه عما تحتويه هذه الكتب أو هذه المجلات، وكانوا يجيبون على كل أسئلتي بكل أريحية، حتى إنه في بعض السنوات اللاحقة أراني الأستاذ أحمد بعض مجلات العربي التي كانت تصدر بشكل شهري، وكان يشتريها من مكتبة وقرطاسية الحاج «أبو حسين» باقر النصر الكائنة في آخر شارع السوق من الجهة الشرقية ثم الانعطاف قبل بناية المخبز العصري الذي كان يملكه أحد أصدقاء والدي وهو الحاج حسن الغانم؛ والملقّب بـ حساني.

كنت أريد أن أدخل في عوالم الثقافة والمعرفة، عوالم الحياة الجديدة والمستقبل الذي كانت أمي تبشرني به من خلال كلامها معي ومع إخوتي وأخواتي أثناء جلساتنا معها وهي تقصّ علينا بعض القصص و”الحزّايات“ و”الخرّافات“، لأن تلك العوالم هي التي ستسلّيني عن الشعور بالحاجة والفاقة والسكن في مسكنٍ ضيّق في الدور السفلي من «البيت العود»، بينما أرى كل يوم الطابق العلوي تسكن فيه جدتي أم ناجي والأبناء علي وعبد الله ومحمد وجعفر، والعمة زهراء والعمة أمينة، حيث كانت عمتي مكية متزوجة من الحاج عباس الداوود - شفاه الله وعافاه - ويسكنون في مكان آخر، وعمتي معصومة متزوجة من عبد الله مجيد الناصر - رحمه الله - ويسكنون وعيالهم في بيت آخر أيضًا خلف حسينية خليفة، ويُعرف والده حجي مجيد بـ «أبو الأخياش» لأنه كان يشتري الأخياش الفارغة من الناس، ثم يبيعها بالجملة على التّجار، وكان الطابق العلوي من البيت العود واسعًا لوجود ثلاث غرف ومطبخ كبير وصالة كبيرة ودورة مياه مشتركة وحمام للاستحمام، إضافة إلى الحوش الكبير في الطابق الأعلى، وكان البيت قويًّا لأن والدي عمل له صيانة عدة مرات من إيرادات المنجرة التي ورثها مع العائلة من والده الحاج مدن بن علي بن صالح المسكين، بينما الطابق السفلي يأخذ من المساحة مجلس الرجال الذي يكون مغلقاً عادة ما عدى مساء الأحد ليلة الاثنين لقراءة العادة الأسبوعية.

كانت أمي في تلك السنين تذكرنا دائمًا ببيت شعر استمعت إليه من لسانها عدة مرات وقتئذٍ قبيل انضمامي للمدرسة وحتى بعد ذلك استمعت إليه عدة مرات لأهميته، حيث كانت تذكرنا بقول الشاعر:

العِلمُ يرفعُ بيتًا لا عِمادَ لهُ
والجهلُ يهدِمُ بيتَ العِزِّ والشَّرَفِ

لقد رنَّ هذا البيت الشعري في أمّ رأسي، وترسّخ في خلايا ذاكرتي منذ تلك السنين الخوالي، وقد عرفت فيما بعد أنه للشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري - رهين المحبسين -، والمعنى فيه وأضحٌ وضوح الشمس في كبد النهار، إلا أن معناه فيه من البلاغة ما فيه، وهو يبشرني بالمستقبل الجميل الذي سألقاه بعد التعلّم والحصول على الشهادات العليا التي كنت أطمح إليها.

عند وصولي إلى البيت استقبلتني أمي وتعجبت من عودتي بينما وقت الدراسة في المدرسة لم ينقضِ بعد، والطلاّب لم يخرجوا من المدرسة، فسألتني:

- لِم عدت من المدرسة في هذا الوقت؟

- لم يذكروا اسمي في الطابور، ولم أعرف في أيّ صفٍّ أنا.

وعندما عاد والدي ”أبو عقيل“ من المنجرة في وقت الظهر لتناول وجبة الغذاء تعجب عندما علِم بذلك، ثم قال:

- سأذهب معه صباح غد لأسأل عن ذلك لدى مدير أو وكيل المدرسة.

وفي اليوم التالي، ذهب معي والدي، ودخل معي على الوكيل؛ وقام الوكيل بالبحث عن اسمي في بيان أسماء الطلاّب المستجدين لهذا العام الدراسي، فوجد اسمي في بيان أحد الصفوف، وسألني الوكيل:

- ألم تسمع اسمك من الأستاذ واثق وهو ينادي على الطلاب صباح أمس.

فقلت له: لم أسمعه يناديني باسمي، بل سمعته يقول: عُقَيل.. ولم يقلْ «عَقِيل» فظننته يقصد طالبًا آخر.

ولم أكن أعلم وقتئذٍ بموضوع التصغير أو في الأسماء على الإطلاق، إلا أنني كنت أسمع بعض النساء وهنَّ يُدلّعن أطفالهنَّ حيث يقولون عن من اسمه محمّد.. امحيمِيد.. أو احميِّد.. وعن عبد الله يقولون: اعبيِّد أو اعبِيد.. وعن حُسَين.. احسَيِّن أو حسُّون أو حسُّوني.. ويقولون عن علِي: اعليوِي.. أو اعلِيو؟.. ويقولون عن فاطمة: افطيّم.. وفطُّوم.. ورسخ ذلك في ذهني منذ طفولتي، ولعل الأستاذ أخطأ في قراءة الاسم وجاء به بصيغة التصغير لا التدليع كما هي الصّيغ اللغوية عند الأمهات في تدليع أبنائهن.. وربما اعتقدتها أيضًا بصيغة التحقير.. أقول ربما!.

فضحك والدي وضحك الوكيل، ثم أمر الوكيل أحد الفراشين أن يوصلني إلى الصف الأول الذي أنتمي إليه.

الروائياتي:

- قصة جميلة أيها المِسك، إلا أنني قد أحيل عدم استماعك إلى اسمك إلى كون الأستاذ قرأه بطريقة النداء مرة أو مرتين، ولكنّك لم تنتبه إلى أنه كان يقصدك، وإني أُحِيل ذلك إلى كل هذه المبررات التي ذكرتها عن شغفك بحبّ الذهاب إلى المدرسة والغايات النبيلة التي تتطلّع إليها، وقد كَبُرَت نفسك في نظرك بهذا الطموح النبيل الذي تتطلّع إليه؛ لذا لم تستجب إلى تلك الصيغة اللغوية التي اعتبرتها تصغيرًا لذاتك حتى لو كانَ ذلك في طريقة النطق بالاسم - ولو على سبيل الاشتباه في القراءة -، ولكن لو كان تحليلي هذا صحيحًا؛ فأنا متعجب جدًّا من هذا التصرّف الذي بدر منك وأنت لا تزال بين السادسة والسابعة من العمر.

- ربما كلامك صحيح.