آخر تحديث: 1 / 12 / 2024م - 4:21 م

الإرث المعلق: ظلم شرعي وآثار نفسية واجتماعية مدمرة

هاشم الصاخن *

تُعدُّ مسألة توزيع الإرث من أبرز القضايا التي تمسُّ حياةَ الأسر مباشرة بعد وفاةِ المورِّث، وهي من المواضيع التي تستدعي اهتمامًا خاصًا وعناية فائقة من جميع الأطراف. إلَّا أنَّ ما يحدث في كثير من الأحيان هو تأخير توزيع الإرث على الورثة، مما يسببُ لهم مشاعر من الظُّلم والاستغلال، ويخلق نزاعات بين أفرادِ العائلة.

وهذا التَّأخير لا يُلحق الضَّرر بالمستفيدينَ من الإرث فحسب، بل قد يعرضهم أيضًا إلى تدهور في وضعهم المالي والاجتماعي والنَّفسي، ويخلق حاجزًا كبيرًا بين أفراد الأسرة من الصَّعب إزالته مع مرور الزَّمن.

لا يوجد أيُّ مبرر لتأخيرِ توزيع الإرث، فالشخص المسؤول عن هذه العملية إذا تعمد هذا التأخير، فهو غالبًا ما يتسم بعدد من الصِّفات السّلبية التي تعكس دوافعه أو طبيعة سلوكه، ومن أهم هذه الصِّفات: الطَّمع، والجشع، واللامبالاة، وعدم المسؤولية، والاستغلال، والتَّلاعب بالقانون، والخوف من حدوثِ خلافات وهمية، والتَّردد في توزيعِ الإرث، مع أنَّ أحكام الإرث هي أحكام إلهية، يجب على الجميع الإذعان لها؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء: آية 7].

تأخير توزيع الإرث لا يقتصر ضرره على الأفراد مباشرة، بل يمتد إلى المجتمع بأجمعه، وفي هذا السِّياق، سنستعرض أهم الأضرار التي تصيب الأفراد بسبب هذا التَّأخير.

أوَّلًا: الأضرار النَّفسية: وتشمل التَّوتر المستمر والقلق الدَّائم من الانتظار، والتَّطلع المستمر إلى اليوم الذي يتم فيه توزيع الإرث، كما يترتب على التَّأخير شعور الورثة بالظُّلم والإحباط، خاصةً إذا شابت عملية التَّوزيع مظاهر من عدم العدالة، ومع مرور الوقت تتفاقم المشاكل العائلية وتجد الأسرة نفسها تتفكك تدريجيًا بسبب تلك المشاعر السلبية.

ثانيًا: الأضرار القانونية: قد تؤدي إلى انتهاك حقوق الورثة؛ وفي بعض الحالات يمكن أن يتم التَّلاعب بالممتلكات أو الأموال الموروثة بطرق غير قانونية، مما يُلحق ضررًا كبيرًا على الأفراد، وحينما يتأخر توزيع الإرث يتطلب الأمر إجراءات قانونية معقدة، قد تساهم في تراكم المشاكل القانونية وصعوبة حلها بسرعة، وفي مثلِ هذه الحالات، قد ينشأ نزاع قضائي بين الورثة، مما يزيد من تعقيد الأمور القانونية ويثقل كاهل الأسرة.

ثالثًا: تزايد التَّعقيدات مع مرور الزمن: كلَّما تأخرت عملية توزيع الإرث، ازدادت الأمور تعقيدًا، ومع مرور السِّنين قد تتغير الظُّروف، وتتزايد أعداد الورثة. كما أنَّ التَّغيرات القانونية والمجتمعية قد تجعل عملية التَّوزيع أكثر تعقيدًا، وفي بعض الحالات يمكن أن تصبح التركة أصعب في التقسيم، ويظهر صراع داخلي بين أفراد الأسرة بسبب اختلافات ثقافية أو تضارب في النَّوايا.

للأسف، في بعضِ الأحيان يكون الظُّلم الذي يقع على الأسرة نتيجة تصرف أحد أفرادها، حين يمتنع عن توزيع الإرث أو يؤخره بلا مبرر، ما يؤدي إلى تعميق معاناة ضعفاء الحال من الأبناء والبنات، بينما ينعمُ الشَّخص المماطل برفاهية الحياة وسعة العيش، ويبقى إخوته أو أخواته في ضيقٍ مادي شديد، خصوصًا في ظل الأزمات الاقتصادية التي تضرب الأسر في هذا الزَّمن، وهذا النَّوع من الظُّلم ليس مجرد تعدٍّ على الحقوق المالية، بل هو تعدٍّ على قيم العدالة والمودة التي يجب أن تجمع الأسرة.

وقد حذَّر الإمام عليٌّ من هذا النَّوع من الظلم لما له من آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، فقال: ”لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ اَلسَّعْدَانِ مُسَهَّداً وَأُجَرُّ فِي اَلْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ اَلْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ اَلْحُطَامِ“ «شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج 11، ص 245».

إنَّ تأخير توزيع الإرث بلا مبرر يُعدُّ شكلاً من أشكال هذا الظُّلم، خاصة عندما يُترك أحد أفراد الأسرة في ضيق وحاجة، بينما ينعم الآخرون بحياة مرفهة؛ فالظلم في هذه الحالة لا يُنتهك فيه المال فقط، بل تُنتهك فيه الرحمة والأخوة التي هي أساس استقرار الأسرة والمجتمع.

وختامًا، لا بدَّ أن نضع نصب أعيننا أنَّ مسألة توزيع الإرث بعد وفاة المورِّث ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو واجب شرعي وأمانة عظيمة تُطلب من أهل الميت، والأمانة من أهم القيم التي أوصى بها الإسلام، وأداؤها دليل على الإيمان وسبب لرضا الله تبارك وتعالى، ومن أعظم صور الأمانة التي أوجبها الله سبحانه هو الالتزام بتقسيم الميراث وفقًا لما جاء في القرآن الكريم، دون تأخير أو تلاعب.

فلنعمل على أداء الأمانات كما أمر الله تعالى، ولنحرص على توزيع الإرث دون تأخير أو ظلم، حفاظًا على وحدة الأسرة وسلامتها، ولنجعل العدل أساسًا في تعاملاتنا، تحقيقًا لرضا الله تعالى وتوطيدًا للروابط الإنسانية.

سيهات