أحمد فؤاد الأهواني وتطور البحث الفلسفي في مصر
يعد الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1908 - 1970 م) من رواد البحث الفلسفي في مصر، وقد تميز بسيرة فلسفية جادة ومميزة، تشكلت هذه السيرة وتجلت في مجال التعليم تعلما وتعليما، طالبا وأستاذا، كما تجلت في مجال النشر تأليفا وتحقيقا وترجمة. ففي مجال التعليم عاصر الأهواني طالبا مرحلة الأساتذة والمستشرقين الأوروبيين الذين نهضوا بتدريس الفلسفة في الجامعة المصرية في بواكير نشأتها، وتحديدا منذ سنة 1909 م، وكان من أساتذته المفكران الفرنسيان إميل برييه (1876 - 1952 م) صاحب الكتاب الكبير عن ”تاريخ الفلسفة“، وأندريه لالاند (1876 - 1963 م) صاحب الموسوعة الفلسفية الشهيرة. وعن أثر هؤلاء المستشرقين في حقل دراسة الفلسفة الإسلامية، سجل الأهواني موقفا عد فيه هؤلاء المستشرقين أنهم أول من بدأ يَدرس الفلسفة الإسلامية دراسة علمية منظمة.
وبعد شهادة الدكتوراه عُين الأهواني سنة 1946 م أستاذا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب، وترقى في سنة 1958 م لمنصب أستاذ كرسي الفلسفة الإسلامية، وأصبح سنة 1965 م رئيسا لقسم الفلسفة.
وفي مجال النشر، أصدر الأهواني على مستوى التأليف مجموعة من الأعمال، نخص بالذكر منها تأليفاته المتتابعة في موضوع الفلسفة، وهي: (معاني الفلسفة) الصادر سنة 1947 م، و(في عالم الفلسفة) الصادر سنة 1948 م، و(المدارس الفلسفية)، و(الفلسفة الإسلامية)، وآخرها كتاب (فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط). وعلى مستوى التحقيق أنجز الأهواني نشر كتاب (في الفلسفة الأولى) للكندي، وكتاب (أحوال النفس) لابن سينا. وأنجز على مستوى الترجمة مجموعة من الأعمال منها: كتاب (مباهج الفلسفة) للباحث الأمريكي ول ديورانت (1885 - 1981 م)، وكتاب (البحث عن اليقين) للمفكر الأمريكي جون ديوي (1859 - 1952)، وكتاب (أصول الرياضيات) للمفكر البريطاني برتراند رسل (1872 - 1970 م)، وكتاب (العلم والدين في الفلسفة المعاصرة) للمفكر الفرنسي إميل بوترو (1845 - 1921 م).
ومن ناحية الانتساب الفكري، أوضح الأهواني مكاشفا ومعتزا بانتسابه إلى المدرسة الفلسفية للشيخ مصطفى عبدالرازق (1302 - 1366 ه/ 1885 - 1947 م) الذي كان أول أستاذ مصري كلف بتدريس الفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية، وذلك خلال الفترة ما بين (1927 - 1944 م)، مسجلا بهذه الخطوة حدثا مهما بات يؤرخ له في تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية الحديثة في مصر. وعن هذه الناحية رأى الدكتور أبو الوفاء التفتازاني (1930 - 1994 م) أن تعيين الشيخ عبدالرازق أستاذا في الجامعة مثَّل فاتحة عهد جديد لدراسة الفلسفة الإسلامية على أسس منهجية استفادها من عمق دراسته الأزهرية وتلمذته على الشيخ محمد عبده من ناحية، ومن اتصاله بجامعات فرنسا حيث درس بها حينا من الزمن من ناحية أخرى.
وقد تتلمذ الأهواني على الشيخ عبدالرازق طالبا في الجامعة، وعليه قام بتحضير رسالته، ولازمه بعد ذلك طوال حياته، وبعد انتقاله إلى التعليم في الجامعة بقي الأهواني متابعا لروح هذه المدرسة واصفا لها بالمدرسة العقلية الحرة، ناظرا إلى أنها بدأت في مصر بجمال الدين الأفغاني (1254 - 1315 ه/ 1838 - 1897 م)، ثم بالشيخ محمد عبده (1266 - 1323 ه/ 1849 - 1905 م)، ثم بالشيخ مصطفى عبدالرازق الذي أطلق عليه تبجيلا له صفة الفيلسوف الحق.
في التأليف الفلسفي، اختط الأهواني لنفسه أدبا اتسم بالبيان الواضح، متجنبا التعقيد والتصعيب، ملتفتا وناقدا ما أصاب الكتابة الفلسفية من غموض وإبهام، ومتحريا الدقة في العبارة جامعا بين التدقيق والتسهيل. متتبعا من الناحية الزمنية العصور الثلاثة الكبرى للفلسفة، العصر اليوناني القديم والعصر الإسلامي الوسيط والعصر الأوروبي الحديث، منتخبا من هذه العصور بعض القضايا المهمة، ومشيرا إلى المدارس الرئيسة وأبرز أعلامها، مفضلا طريقة الإيجاز والتركيز، ومتخليا عن الإسهاب وكتابة المطولات.
تبرز أهمية العودة إلى هذه التأليفات كونها تشرح من جهة طبيعة الرؤية الفلسفية العامة لدى الأهواني، وكونها من جهة أخرى تحمل معها ملامح من تلك الحقبة الزمنية الممتدة ما بين أواخر الأربيعنات إلى الخمسينات الميلادية وما بعدها. وهي من الحقب التاريخية المهمة والفاصلة ما قبل مرحلة الاستقلال وما بعده بالنسبة إلى مصر وبعض البلدان العربية مثل تونس والمغرب والسودان إلى جانب بلدان أخرى. فلا يمكن العودة إلى تلك الحقبة والنظر في تشكلاتها الفكرية والفلسفية خصوصا في مصر من دون الالتفات إلى تأليفات الأهواني التي اتخذت من التبصرات الفكرية والموضوعية باعثا لها ومنطلقا.
ومن هذه الملامح الفكرية والموضوعية التي أبان عنها الأهواني ومثلت دافعا قويا في التحفز نحو التأليف الفلسفي بالنسق الذي سلكه، أنه وجد إقبالا من الناس في مصر والشرق العربي على قراءة كتب الفلسفة والتعرف إلى أفكار أصحابها، واصفا له بالمنقطع النظير. ومصورا أن هذا الأمر آنذاك لم يكن مألوفا منذ عهد قريب، فقد كانت الفلسفة عنوانا على الإغراب والتعقيد والغموض، وكان التفلسف سمة الخارجين عن جادة الحق، فرهبها الناس وانصرفوا عنها، وظلت حبيسة الكتب، بعيدة عن الأذهان، وغريبة عن القلوب. لذا فقد رأى من الخير أن يمهد الطريق لطلاب المعرفة، ويفتح لهم أبواب هذه الصناعة، حتى يستقيم لهم الدرب، وترفع منه الأشواك التي كانت تضفي على الفلسفة ما يكتنفها من غموض وإبهام، مقدما لهم باكورة تأليفاته كتاب (معاني الفلسفة).
لا شك في أهمية هذه الظاهرة التي أشار إليها الأهواني متثبتا منها، ومتلمسا أثرها في مصر والشرق العربي، وتتأكد أهميتها في كونها متعلقة بالناس الذين لا يعرف عنهم تعلقهم بالفلسفة، ولا الاقتراب منها أو الانشغال بها. الأمر الذي يعني أننا أمام ظاهرة تستوقف الانتباه، ولعلها تعد من الملامح المهمة على الصعيد الفكري في تلك الحقبة.
لكن هذه الظاهرة التي تفاءل بها الأهواني وبعثت في نفسه بهجة، هل ترسخت واستمرت أم أنها تقلصت وتراجعت! ومن الأكيد أن صورتها قد تغيرت إن لم يكن في حقبة الستينات ففي حقبة السبعينات. ولا ندري هل نعد هذه الظاهرة متعلقة بمرحلة ما قبل الاستقلال وتغيرت صورتها بعده متأثرة بالتحولات الشديدة التي تحدث غالبا في مرحلة ما بعد الاستقلال، وما قد يحدث فيها من انصراف الناس إلى هموم أخرى تفارق ما كانوا عليه من قبل.
وتناغما مع هذه الظاهرة وتواصلا معها، اعتنى الأهواني بتأكيد علاقة الفلسفة بالمجتمع، مبرزا هذه المسألة بهذا العنوان، ومفتتحا بها كتابه (المدارس الفلسفية)، مفندا ما سماه الوهم الشائع عند الجمهور من أن الفلسفة بعيدة كل البعد عن الحياة الاجتماعية، واعتبار المشتغلين بها قوم انعزلوا بأنفسهم مع أفكارهم وأحلامهم، ثم طلعوا إلى الناس بهذه الأفكار الغريبة غير المألوفة، مبينا أن هذا الأمر باطل ووهم شائع، انتشر عند الجمهور في العصور المتأخرة التي تدهورت فيها حال الفلسفة، وأمست بعيدة عن الحياة، ومنعزلة عن مطالب المجتمع.
لكن هذا الرأي الذي تحفز له الأهواني وجعله من صميم رؤيته الفلسفية، لا يحظى بالتوافق لدى المشتغلين بالفلسفة، فهناك من يخالفه الرأي، ومنهم زميله الدكتور إبراهيم مدكور (1319 - 1416 ه/ 1902 - 1995 م) الذي تشارك معه في كتابة تقديم لترجمته لكتاب (مباهج الفلسفة)، وجاء رأيه المغاير مدونا في هذا التقديم، مفتتحا به من السطر الأول قائلا: (كانت الفلسفة لغة الخاصة، وشغل فريق من الناس، وعدت زمنا بين التعاليم السرية والمضنون به على غير أهله. وقديما احتفظ بها الأفلاطونيون في الأكاديميا، والمشاؤون في اللوقيون، وأتباع زينون في الرواق... وعد خرقا أن تبسط وتصبح سهلة التناول. وفي التاريخ الحديث بقيت وقفا على مدارس محدودة، وسلعة ممتازة لا يمكن أن تتداول في جميع الأسواق).
وإذا أردنا البحث عن إمكانية التوفيق بين هذين الرأيين، يمكن القول إن الرأي الذي أشار إليه مدكور يصدق عليه صفة ما هو كائن وهو أقرب أصالة إلى الفلسفة بوصفها علما لأهل الخاصة، أما الرأي الذي أشار إليه الأهواني فيصدق عليه صفة ما ينبغي أن يكون لغرض اقتراب الفلسفة من أهل العامة، وتقريب هؤلاء إلى الفلسفة، تنعما بخيرات الفلسفة وفضائلها، وليكون نفعها عاما وليس خاصا بأهل الخاصة.
مع ذلك فهناك من يجادل اختلافا مع هذا التصور الذي ذهب إليه الأهواني، ويرى هؤلاء ضرورة أن تحافظ الفلسفة على تخصصها علما ولغة، وتظل في مكانها السامي والرفيع، بوصفها علما لأهل الخاصة، لا يقوى عليها جهدا وصبرا أهل العامة، معتبرين أن هذا الاختيار أسلم إلى الفلسفة من جهة، وأسلم إلى الناس من جهة أخرى. أسلم إلى الفلسفة لكي لا يخوض فيها من لا يحسن صنعتها ويتقن فنها، وأسلم إلى الناس لكي لا يخوضوا في قضايا ليست من صميم شؤونهم العامة ولا يطيقونها جهدا وصبرا. وقديما طالب الغزالي (450 - 505 ه/ 1058 - 1111 م) بإلجام العوام عن علم الكلام، واتخذ من هذه المقولة عنوانا لكتابه. ولا شك أن إلجام العوام عن الفلسفة أولى من إلجامهم عن علم الكلام، لأنها أبعد لهم شأنا من علم الكلام.
وتفكيكا لهذا التصور، يمكن التوصل إلى موازنة بين الحالتين الخاصة والعامة، فمن الناحية العلمية يمكن للفلسفة أن تحافظ على تخصصها وتظل علما رفيعا منتسبا لأهل الخاصة، ومن الناحية الثقافية يمكن تقريب بعض جوانب الفلسفة تثقيفا بها لأهل العامة، أو لشريحة منهم تلك التي تهوى قسطا من هذه المعرفة.
ومن الملامح الفكرية الأخرى التي أشار إليها الأهواني في عصره، ومثلت كذلك دافعا محفزا له نحو التأليف الفلسفي، ما رآه تفاءلا وانتعاشا من أن الفلسفة أخذت آنذاك تعود إلى العرب، مصرحا بهذا الرأي، ومبينا له في مقدمة كتاب (الفلسفة الإسلامية) قائلا: (وأكبر الظن أن راية الفلسفة التي انتقلت إلى أوروبا منذ عصر النهضة عن العرب، وازدهرت فيها حتى اليوم، أخذت تعود إلى أصحابها العرب في الوقت الحاضر).
لا أدري ما مدى دقة هذا الرأي الذي توصل إليه الأهواني في وقته، وهل عادت الفلسفة فعلا إلى أصحابها العرب آنذاك! وما المقصود بهذه العودة؟ هل المقصود بها استعادة الفعل الفلسفي اكتشافا وابتكارا وإبداعا؟ أم استعادة الفعل الفلسفي تأليفا وتحقيقا وترجمة؟ وما هي صورة هذه الاستعادة وتمثلاتها درجة وسعة؟
علما أن هذا الرأي في منطق التحليلات الفلسفية لا يمكن التعامل معه بطريقة الإرسال من دون التثبت منه، وجمع القرائن النظرية والتطبيقية الدالة عليه. فقد أشار الأهواني إلى هذا الرأي ومر عليه بلا قرائن ولا براهين، ولم يحدد ما هي ملامحه وقسماته وتمثلاته!
وأغلب الظن أن الأهواني أظهر تفاؤلا بهذا الأمر متأثرا بحدث الثورة المصرية سنة 1952 م، ودل على ذلك الاقترانات التي أشار إليها رابطا بين بعث الفلسفة وقيام الثورة، خصوصا وأن هذه الاقترانات جاءت في خواتم الكلام معبرة عن خلاصات القول، وقد لاحظت أنها جاءت مرة في خاتمة المقدمة، ومرة ثانية في الأسطر الأخيرة خاتما بها الكتاب. ففي المقدمة وبعدما أشار إلى رجائه بنهضة الفلسفة من جديد على أيدي العرب، ختم الأهواني كلامه قائلا: (وسيكون ذلك سريعا إن شاء الله بفضل الثورة التي نعيش في غمارها في الوقت الحاضر، الثورة السياسية والاجتماعية والثقافية). وفي خاتمة الكتاب جدد الأهواني كلامه قائلا: (ونحن نرجو أن تكتب للفلسفة العربية قصة جديدة بعد ما بعثت بعثا جديدا على يد الثورة الكبرى في مجتمعنا العربي. وستكون قصة هذه الفلسفة الجديدة هي قصة فلسفة الثورة).
والذي أراه أن هذا القول لا يمثل في الموازين الفلسفية قولا فلسفيا، ولا يصلح أن يكون برهانا فلسفيا، وهو أقرب إلى حس المشاعر والتمنيات من حس العقل والواقعيات.
وما ننتهي إليه أن الأهواني قدم تأليفا فلسفيا قيما، ويعد من العلامات المضيئة في المشهد الفكري والفلسفي في ذلك العصر ما بين الأربعينات والخمسينات. وتندرج هذه التأليفات في إطار التثقيف العام بالفلسفة، وتقريب الفلسفة إلى المجتمع والجمهور العام، لكنها لم تتسم بالابتكار، ولم تقدم ابتكارات فلسفية جديدة لا في ناحية القول ولا في ناحية المنهج.