آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:02 ص

القيادة الرشيقة فن التأقلم مع التحديات المتغيرة

الرشاقةُ بمفهومها العام والشامل هي القدرة على التكيف السريع والفعال مع التغيرات المستمرة والمفاجئة، وتوفير الحلول بشكل مبتكر وفعال، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، وقد نشأ هذا المفهوم في الأصل من الرياضة، وانتقل تدريجيًا إلى مجالات الأعمال، والإدارة، والتكنولوجيا، وغيرها حيث أصبحت الرشاقة معيارًا للنجاح في عالمٍ يتسم بتسارع التغيير، والقيادة الرشيقة هي امتداد لهذا المفهوم، وتتميز بتطبيق أساليب إدارية تتيح للمؤسسات تبني مرونة واستقلالية على مستوى الفرق وبيئة العمل، وتهدف القيادة الرشيقة إلى تحويل التركيز من الهياكل الهرمية المعقدة إلى نظام أكثر انفتاحًا ومرونة، ويمكن من خلاله اتخاذ قرارات سريعة تستند إلى الفاعلية والتجديد المستمر، ومن خصائصها على سبيل المثال لا الحصر «التركيز على العميل واحتياجاته المتغيرة، التكيف السريع مع المتغيرات، التواصل الشفاف والمستمر، الابتكار والتطوير… وما إلى هنالك» وفي المقال السابق تكلمنا عن مفهوم الشيخوخة الإدارية ووصفناها على أنها ظاهرة سلبية تتعلق بمجموعة من النقاط كالاعتماد على الأساليب الإدارية التقليدية والهرمية، وفقدان القدرة على الابتكار والتكيف مع المستجدات السريعة والمتزايدة التي تشهدها بيئات العمل الحديثة… وما إلى ذلك مما يعيق الديناميكية والمرونة اللازمة لتحقيق النجاح في السوق.

وفي هذا المقال سنتناول الحديث عن القيادة الرشيقة التي هي البديل الفعال عن الشيخوخة الإدارية التي بدأت آثارها السلبية تظهر بشكل واضح للعيان خاصة مع تزايد الضغوطات والتحديات المتغيرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي القيادة الرشيقة ولماذا هي مهمة؟

لقد عرف أهل الاختصاص القيادة الرشيقة على أنها أسلوب قيادي يتميز بالمرونة وسرعة الاستجابة للتغيير، وقيل بأنها نمط إداري يركز على تحسين العمليات والأداء من خلال التحليل المستمر وتطبيق الأساليب المرنة، وقيل أيضا بأنها تعني بناء علاقات قوية وفعالة بين أعضاء الفريق حيث تُعتبر هذه العلاقات أساس نجاح العمل الجماعي وتسهيل التواصل الفعّال، وقيل أيضا بأنها استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحسين الأداء وتعزيز التعاون، وزيادة الشفافية في اتخاذ القرارات داخل المنظمات، ورغم اختلاف كل هذه التعريفات يتفق معظمها على أهمية المرونة والمشاركة، والابتكار والتكيف كعناصر أساسية في تحقيق نجاح المؤسسات أو الشركات الخاصة في بيئات العمل الديناميكية.

سؤال: ما هي أهمية القيادة الرشيقة؟

اتفق أهل الإدارة على أن القيادة الرشيقة ليس فقط تساعد على تلبية احتياجات السوق المتغيرة والمفاجئة، بل هي تسهم أيضا في تحسين إنتاجية العاملين، وتطوير وتحفيز بيئة العمل، وتدفعهم إلى الأداء الأمثل، وذلك لأننا نعيش في زمن يتسم بالتغيرات السريعة، والمتلاحقة، والمتصاعدة من حيث الضغوطات التنافسية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والتسويقية، وتغير احتياجات العملاء، وتطور أساليب وتقنيات العمل بشكل مستمر و…، وفي ظل هذا السياق لا يمكن للمؤسسات التي تعتمد على الهياكل الإدارية التقليدية والعمليات البطيئة إلا أن تواكب هذه التغيرات، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى القيادة الرشيقة كبديل فعال لهذه التحديات، حيث أنها تركز على المرونة، والابتكار كعوامل أساسية لتحقيق النجاح، وذلك من خلال تعزيز ثقافة التعاون والمشاركة. ولذلك فهي ليس مجرد خيار، بل هي ضرورة تفرضها متطلبات العصر الراهن لضمان النجاح والتميز، وهذا ما أظهرته الأبحاث والدراسات التي تناولت القيادة الرشيقة كدراسة معهد شيلدون للإدارة فقد أظهرت الدراسة أن الشركات التي تعتمد على القيادة الرشيقة شهدت زيادة بنسبة 40% في رضا العملاء و 30% في فعالية العمليات، ودراسة مؤسسة غالوب التي أظهرت أن المؤسسات التي تعتمد على نماذج قيادية مرنة وتفاعلية تتمتع بمعدل دوران موظفين أقل بنسبة 25% إلى 65%، مما يشير إلى رضا الموظفين وتحسين بيئة العمل، ودراسة إدارة الجودة الشاملة التي أظهرت أن المؤسسات التي تتبنى مبادئ القيادة الرشيقة تميل إلى تحقيق تحسينات في الجودة والكفاءة تصل إلى 15% إلى 20%.

وتقارير من مؤسسة بوسطن الاستشارية التي أظهرت أن الشركات التي تتبنى نماذج القيادة الرشيقة كانت أكثر قدرة على تحقيق نمو مستدام في الأرباح بنسبة 15% إلى 30% مقارنة بالشركات التقليدية، وكل هذه الدراسات والأبحاث تعتبر دليلًا واضحًا على أهمية القيادة الرشيقة في المؤسسات الحديثة لمواجهة التحديات المتزايدة في بيئة الأعمال.

أما عن الأسباب التي توضح الحاجة إلى القيادة الرشيقة فهي كالتالي:

1- التكيف مع التغيرات السريعة:

ويعني قدرة المؤسسة على الاستجابة بمرونة وفعالية للتغيرات الطارئة في بيئتها الداخلية والخارجية، سواء كانت هذه التغيرات في احتياجات العاملين والتكنولوجيا، أو متطلبات السوق مثل شركة أمازون التي استطاعت التكيف مع التغيرات السريعة عندما اجتاحت جائحة كوفيد 19 - العالم عبر التسوق الإلكتروني، مما شكل تحديًا كبيرًا للمؤسسات التقليدية التي كانت تعتمد على المتاجر الفعلية لبيع منتجاتها.

2- زيادة الكفاءة والإنتاجية:

فالكفاءة تشير إلى القدرة على تحقيق أفضل النتائج باستخدام أقل جهد أو تكلفة، أما زيادة الإنتاجية فهي تعني زيادة حجم الإنتاج بنفس الموارد المتاحة ومع تزايد التحديات الاقتصادية وارتفاع التكاليف مثالُ على ذلك مصنع للسيارات ينتج 100 سيارة في اليوم باستخدام 10 خطوط إنتاج، ويعمل فيها 200 موظف، فإذا قامت إدارة المصنع بإدخال تحسينات على الآلات والتدريب لتحسين مهارات الموظفين، فإنها قد تقلل الزمن المطلوب لصنع السيارة الواحدة، مما يسمح بإنتاج 150 سيارة في اليوم بدلًا من 100 سيارة باستخدام نفس العدد من الموظفين وذلك بسبب استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتطوير مهارات العاملين وتحسين عمليات الإنتاج واستغلال الوقت والعمل.

3- تحسين رضا الموظفين:

وهو أحد العناصر الأساسية والمهمة التي تسهم في نجاح واستدامة المؤسسات أو الشركات الخاصة أو الحكومية، فالشركات أو المؤسسات التي تهتم برفاهية وراحة وأمان واستقرار موظفيها تصبح أكثر جاذبية للكفاءات والمواهب من جهة، ويصبح الموظفون أكثر تعاونًا وتفاعلًا وابتكارًا وعطاءً للمؤسسة أو الشركة من جهة ثانية لكن لماذا نرى أو نسمع عن إهمال وتجاهل احتياجات العديد من الموظفين في المؤسسات أو الشركات الخاصة، رغم الفوائد الكبيرة التي يمكن أن تحققها تلك المؤسسات أو الشركات؟

في الحقيقة يرجع ذلك في رأيي لعدة عوامل وأسباب ومن أبرزها:

- التركيز على الأرباح على حساب الاستثمار في الموظفين، حيث ترى الإدارة أن تحسين بيئة العمل أو توفير حوافز قد يشكل تكلفة إضافية يمكن الاستغناء عنها، أي أنها تعتبر راحة الموظفين من الأمور الثانوية مقارنة بالتركيز على زيادة العوائد المالية المباشرة.

- الافتقار إلى الوعي أو الخبرة اللازمة لإدارة الموارد البشرية بفعالية، فهي لا تدرك أن الاهتمام بالموظفين هو جزء أساسي من نجاح المؤسسة أو الشركة، أو قد تفتقر إلى المهارات اللازمة لخلق بيئة عمل داعمة ومريحة.

- التسلسل الإداري والبيروقراطي في البعض من المؤسسات أو الشركات الخاصة بمعنى تكون القرارات بطيئة ومعقدة؛ مما يجعل إدارة الموارد البشرية أقل مرونة في الاستجابة لاحتياجات الموظفين.

- نقص الموارد أو الإمكانيات في بعض المؤسسات أو الشركات الخاصة وخاصة الصغيرة منها، وهذا بالطبع يؤدي في الغالب إلى نتائج سلبية مثل انخفاض الإنتاجية، وزيادة معدلات الاستقالات، وتدني السمعة، وتراجع الابتكار، وفي النهاية إلى الخسائر الكبرى؛ مما توفره من أموال للمستقبل.

4- تحقيق الأهداف بشكل أفضل:

ففي الغالب حتى تُحقق الأهداف يجب أن تكون واضحة، ومحددة، وقابلة للقياس بحيث يسهل على الجميع فهمها والعمل على تحقيقها فمثلاً المشي لمدة 30 دقيقة على الأقل،4 مرات في الأسبوع، ولمدة 3 أشهر، أو قضاء وقت مع الأصدقاء أو الزملاء في العمل مرة كل أسبوع على الأقل، خلال الستة أشهر القادمة، أو قراءة كتاب عن تطوير الذات أو المهارات الشخصية كل شهر، لمدة عام كامل، فكل هذه الأهداف توضح كيفية توجيه الجهود لتحسين الحياة الاجتماعية والشخصية بطرق بسيطة وقابلة للقياس، وتحقق للنتائج الملموسة في الحياة اليومية.

5- استدامة الأعمال:

وتشير إلى قدرة المؤسسات أو الشركات على الاستمرار والنمو على المدى الطويل مع الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية لعملياتها.

والتساؤل المهم الذي قد يطرح نفسه:

ماذا لو أن مؤسساتنا أو شركاتنا الخاصة لم تتبن منهج القيادة الرشيقة، واعتمدت فقط على المنهج التقليدي العادي؟

والجواب: إن عدم تبني القيادة الرشيقة يعني أنها ستبقى عالقة في نظم وتقنيات إدارة تقليدية تفتقر إلى المرونة والتكيف؛ مما يجعلها تواجه العديد من التحديات والقيود التي قد تؤثر سلبًا على أدائها واستمراريتها في السوق، كضعف القدرة على التكيف، وتراجع التنافسية، وضعف الرضا الوظيفي، والتكلفة العالية، والتشغيل البطيء وما إلى هنالك، وستظل تعتمد على البيروقراطية والإجراءات المعقدة التي تعيق فعالية العمل كالتواقيع والموافقات المتعددة، والإجراءات المتكررة والمتداخلة، والمراجعات غير الضرورية، والانتظار الطويل للموافقات وما إلى هنالك من الإجراءات المعقدة والممارسات البيروقراطية التي قد تؤدي إلى بطء الأداء وزيادة التكاليف والانخفاض في مستوى رضا الموظفين والعملاء.

ماذا نستنتج من كل ذلك: الحقيقة يمكننا استنتاج أن القيادة الرشيقة تقدم نموذجًا حديثًا وفعالًا يعزز حالة الابتكار والمرونة في المؤسسات أو الشركات الخاصة، بينما تشير الشيخوخة الإدارية إلى الحاجة الملحة للتغيير والتكيف مع التحديات الحالية، والتحول نحو القيادة الرشيقة يمكن أن يعزز من قدرة المنظمات بشكل عام على التنافس في أسواق تتسم بالتغير السريع.

وأخيرًا: يعتبر تطبيق القيادة الرشيقة خطوة جوهرية لتحسين كفاءة المؤسسات وتطوير قدرتها على التكيف مع التغيرات السريعة في السوق من خلال إعادة تقييم الهياكل التنظيمية، وتعزيز ثقافة التحسين المستمر، واستخدام التكنولوجيا لدعم المرونة والتكيف مع المتغيرات الجديدة.

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.