آخر تحديث: 22 / 10 / 2024م - 2:07 م

قراءة في كتاب الفكر والابتكار

جهات الإخبارية الدكتور محمد تهامي دكير

الكتاب: الفكرُ والابتكار.. لمحة عن بعض ابتكاراتي الفكرية.
المؤلف: زكي الميلاد.
الناشر: بسطة حسن للنشر والتوزيع - السعودية.
الصفحات: 305 من القطع الوسط.
سنة النشر: ط 1 - 2024 م.

مدخل: فن كتابة السّيرة الذاتية «العِلميّة»

التأريخ للذّات أو فن كتابة السيرة الذاتية، من فنون الكتابة التأريخية التي زَخِر بها التراث العربي - الإسلامي، فإلى جانب الكتابات التأريخية العامَّة للدول والمجتمعات والحضارات، والمنهج التأريخي المتميِّز الذي أُطلق عليه «كُتب الطبقات»، وهو نوع من التأريخ ابتكره المسلمون، حيث يتمُّ التركيز فيه على التأريخ لجماعة أو فئة معيَّنة من المجتمع، تشترك في التواجد في حقبة تاريخية متميِّزة، أو صفة أو اختصاص علمي أو حرفة معيَّنة، مثل: طبقات الصحابة، طبقات الفقهاء والمُحدثين، طبقات الفلاسفة، الأطباء، الصوفية، الشعراء، الشوافع... إلخ.

إلى جانب ذلك، ظهر هذا النوع من التأريخ، الذي يقوم فيه عالم أو مفكر أو سياسي.. بالتأريخ لنفسه والكتابة عن مراحل حياته، وما تميَّز به من علم أو نشاط فكري أو مساهمته في صنع الأحداث في زمانه... إلخ، وهذا الفن - أي كتابة السيرة الذاتية - كما عرفته الحضارة العربية - الإسلامية في الماضي والحاضر، يتميَّز بأنواع ثلاثة: السيرة الذاتية الروحية، إذ نجد المُفكر يُؤرِّخ لسيرته أو رحلته من الشك إلى اليقين، وتقلُّبه في المذاهب والملل والنحل، كاشفًا عن معاناته الروحية والوجدانية، ومجاهداته في سبيل الوصول إلى رُشده الروحي، وأشهر مثال لهذا النوع من السيرة الروحية كتاب «المنقذ من الضلال» لأبي حامد الغزالي «ت 505 هـ».

النوع الثاني: السيرة الذاتية السياسية، حيث يكون الكاتب ممن اشتغل بالسياسة والعمل السياسي طويلًا، وشارك في صنع الأحداث في بلده، وكان له حضور سياسي مُتميِّز في حقبة تاريخية معيَّنة، وفي هذه السيرة يؤرخ السياسي لنفسه وهو في منصبه السياسي، التنفيذي أو الاستشاري، إذ يكشف خبايا السلطة وسلبياتها، وكيف أسهم في صنع بعض الأحداث، ومُبيِّنًا كيف تُدار الدول والحكومات، والأمثلة على هذا النوع من السيرة الذاتية كثيرة، أشهرها في التاريخ: سيرة المؤيّد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي «ت: 470 هـ»، وسيرة أسامة بن منقذ «ت: 584 هـ» الواردة في كتابه: «الاعتبار».

أما النوع الثالث - والذي له علاقة بقراءتنا لكتاب الباحث والمفكر زكي الميلاد - فهو السيرة الذاتية العلمية، حيث يُركز المفكر أو العالم «المُؤرّخ» على الحديث عن نشأته العلمية ومراحل تحصيله العلمي، ويشير إلى شيوخه الذين أخذ عنهم العلم، ورحلاته العلمية والعلماء الذين التقى بهم، والعلوم التي حصّلها أو أتقنها، وإجازاته والكتب والرسائل التي ألّفها، والمدارس الفكرية أو الفقهية أو الكلامية التي انتمى إليها ودافع عن آرائها، ونظرياته التي ابتدعها... إلخ.

ومن أشهر كتب السيرة العلمية في الماضي، السيرة التي كتبها الفيلسوف ابن سينا «ت: 428 هـ»، وسيرة المؤرخ الشهير ابن خلدون «ت: 808 هـ»، «التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا»، وسيرة الفقيه الموسوعي جلال الدين السيوطي «ت: 911 هـ». الموسومة بعنوان: «التحدث بنعمة الله»، وغيرها من السير الذاتية العلمية التي زخر بها التراث الفكري في الحضارة الإسلامية.

وقد استمر هذا الفن في الظهور في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، حيث أنجزت العديد من السِّيَر الذاتية العلمية، كتبها بعض المشاهير من المفكرين والأدباء والمؤرخين وخصوصًا في مصر، أمثال: المفكر النهضوي رفاعة الطهطاوي «ت: 1873 م»، الذي كتب عن رحلته الشهيرة إلى باريس والمنشورة بعنوان: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وسيرة المؤرخ أحمد أمين «ت: 1954 م» الموسومة بعنوان: «حياتي»، وسيرة الأديب عباس محمود العقاد «ت: 1964 م»، التي حملت عنوان: «أنا». وغيرها من السِّيَر لأدباء ومفكرين مشهورين في العالمين العربي والإسلامي.

وما يُميّز هذا النوع من التأريخ للذات أو السيرة الذاتية العلمية، أنه يُقدِّم مادة تاريخية مُهمَّة وذات مصداقية، خصوصًا لجهة توثيق الأحداث والمعلومات المُفصَّلة المُتعلِّقة بحياة الكاتب «المُؤرّخ» العلمية، الأمر الذي يُجنِّب المؤرخين إذا ما أرادوا الكتابة عن هذا المفكر أو العالم نفسه، الكثير من الاختلافات وتضارب المعلومات حول تاريخ مولده وشيوخه الذين أخذ العلم عنهم، ومدرسته الفكرية أو الفقهية والعقائدية التي انتمى إليها، وكتبه التي ألَّفها، وغيرها من المعلومات الخاصة، بالإضافة إلى المعلومات الأخرى التي يُقدِّمها على هامش سرده لسيرته الذاتية، باعتباره شاهدًا على عصره، وعلى الأحداث التي عايشها والقضايا الفكرية والعلمية والسياسية والعقائدية التي كانت مثار اهتمام وجدل ونقاش في زمانه، أو شارك فيها، وكان له موقف منها... إلخ.

من الفوائد الأخرى لهذا النوع من التأريخ للسيرة الذاتية العلمية، ما ظهر في ثنايا معظم السير التي كُتبت، سواء في الماضي أو الحاضر، وهو ما يُمكن أن نصطلح عليه بجانب «الاعتبار» أو النظرة الحكمية العميقة لهذه المسيرة، حيث يستخلص ويستنتج المُفكر أو العالم وهو يؤرخ لنفسه، الكثير من الدروس والعبر، كما يكتشف بعض السّنن الإلهية في الخلق والتطوُّر والكدح من أجل تحقيق أهداف الوجود الإنساني في الأرض، وما يترتَّب عن تقدُّم السِّن وتراكم المعارف والتجارب والخبرات من عِلمٍ مُستجدّ، ونُضج فكري، وعُمق علمي، واتِّساع أُفُقِه النظري، ما يجعله يُغيِّر رؤيته لذاته وللقضايا الفكرية أو العلمية التي يُعالجها أو يكتب فيها، كما تتغيَّر رؤيته للواقع من حوله، وكل ذلك يصبُّ في مسيرته نحو تحقيق رشده الفكري والعلمي والعقائدي، ويُقرّبه أكثر من كماله النفسي والعقلي والروحي.

من التّحصيل الفكري إلى الابتكار

هذه الخصائص والغايات والنتائج المُتأتية عن فنّ السيرة الذاتية العلمية - كما أشرنا إليها قبل قليل - نجدها تتجلّى فيما كتبه الباحث والمفكر زكي الميلاد وهو يُؤرّخ - جزئيًّا - لحقبة من مسيرته الفكرية، حقبة الإنتاج الفكري والتفاعل الإيجابي مع القضايا الفكرية والدينية التي عايشها خلال ثلاثة عقود من الزمن، بعد مرحلة التحصيل العلمي وتراكم المعارف والخبرات لديه، إذ استطاع من خلال تتبُّعه لأهم القضايا الفكرية التي شغلت الساحة العربية والإسلامية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أن يُشارك في مناقشتها والحوار حولها، وأن يُدلي برأيه وموقفه منها، من خلال منابر فكرية مُتعدِّدة، على رأسها مجلة «الكلمة»، التي ترأّس تحريرها ولا يزال، أو من خلال مشاركاته في الندوات والمؤتمرات التي عُقدت لمناقشة هذه القضايا الفكرية والعلمية والدينية.

حيث أثمرت هذه المسيرة الفكرية عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات والبحوث والكتب، احتضنت بدورها مجموعة من الأفكار والأطروحات والأقوال والمواقف، هاجسها الأول، كيفية تجديد الفكر الإسلامي، ومواجهة مظاهر التخلُّف التي تتخبَّط فيها الأمة، عبر تشخيص الأسباب والعلل، والانخراط في اجتراح الحلول النظرية، وابتداع المشاريع الإصلاحية والنهضوية، والدعوة إلى الإقدام على الممارسة والتجريب، بالاستفادة من المرجعية الدينية الأصيلة، وما صَلُح من إبداعات وإنتاجات التراث والحضارة الإسلامية، والتواصل مع الحاضر والتفاعل الإيجابي مع العناصر الحية والإنسانية في الحضارة المعاصرة.

نماذج فكرية مُبتكرة

يُمكن تقسيم هذا الكتاب: «الفكر والابتكار.. لمحة عن بعض ابتكاراتي الفكرية» من ناحية المضمون والمحتوى، إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: المُقدِّمة، وهي مُهمَّة كمدخل لهذه السيرة الفكرية؛ لأن الكاتب أشار فيها إلى مجموعة من الخلاصات التي تدخل ضمن ما تحدَّثنا عنه قبل قليل - أي الاعتبار واستخلاص الدروس والعبر -، من قبيل أهمية التحصيل العلمي والمعرفي، وما يتطلَّبه من صبر وجهد، وعلاقة ذلك بتقادم الزمن وتراكم المعارف والخبرات، ودور ذلك في تعميق النظر لدى المفكر، ما يدفعه إلى تغيير الكثير من وجهات نظره تجاه نفسه وذاته وتجاه الواقع من حوله، وهكذا القضايا التي يتحدّث عنها، لذلك، نجده يستشهد بمقولة مشهورة في التراث الإسلامي: «العلم إذا أعطيته كُلّك أعطاك بعضه، وإذا أعطيته بعضك لم يُعطك شيئًا»، للتأكيد - عبر التجربة - أنّ تحصيل العلم يتطلَّب بذل وقت كثير، وجهود مُضنية ومستمرة، لتحقيق تراكم معرفي مفيد ومنتج.

وعن أهمية الزمن في نضج المُفكر، يقول الميلاد عن ذلك: «مع تقادم التجربة الفكرية وتتابعها، تتغيَّر عادة رؤية الإنسان إلى ذاته تجاه الفكر والمعرفة، صعودًا وارتقاءً... فهذه الرؤية إلى الذات تختلف بصورة طبيعية ما قبل سنّ الأربعين وما بعده، وتتغيَّر كذلك وتختلف بعد سنّ الخمسين، وهكذا بعد السّتين والسّبعين، وهذا ما يُدركه كل إنسان مع ذاته وجدانًا. والقانون نفسه يجري في عالم الفكر مُتأثِّرًا بعامل الزمن، ومُتَّصلًا بتتابع السّنين، ومتصاحبًا بدرجات النضج والرشد النفسي والذهني، فالتجربة الفكرية إذا تقادمت وتتابعت فإن الرؤية إليها سِعةً وأُفقًا تتغيَّر ما قبل مرحلة الأربعين وما بعدها، وتتغيَّر كذلك وتختلف في مرحلة الخمسين، وهكذا في مرحلة السّتين وما بعدها، وهذا ما يُدركه أهل الفكر والمشتغلون بهذا الحقل وجدانًا» «ص 12».

وكذلك عند حديثه عن هو المفكر؟ ومن يتّصف فعلًا بهذه الصفة، ناظرًا إلى أن «المفكر ما قبل الابتكار، هو مفكر على سبيل القوة، وبعد الابتكار هو مفكر على سبيل الفعل، والحقيقة..» «ص 14».

لذا فإن التأريخ للذات الفكرية، يكشف للمؤرخ نفسه - قبل غيره - المراحل التي قطعها في سبيل رُشده الفكري ونضجه العقلي والمعنوي، وأنّ آفاق المعرفة أوسع بكثير ممّا قد يظن البعض، وهذا ما يجعل المفكر الحقيقي أكثر تواضعًا وإيمانًا بما أكَّده الوحي في قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ . وهذا ما أدركه نبي الله موسى وهو يصحب ذلك العبد الرباني ليُعلِّمه ما لم يستطع عليه صبرًا، ويكشف له أن وراء الظواهر المرئية بواطن خفية، لا يُدركها إلَّا من آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا.

القسم الثاني من الكتاب، عرض فيه الكاتب ما اعتبره ابتكارًا وإبداعًا فكريًّا مُتميِّزًا له، في القضايا التي تناولها وفحصها وشارك في النقاش حولها، وكانت له مساهمة في علاجها سواء في مقالات خاصة أو كُتب وتأليفات، أو مشاركة في ندوة أو مؤتمر، ومن أهم القضايا الفكرية التي عالجها، وكان له مساهمة متميِّزة فيها، القضايا التالية: نظرية تعارف الحضارات، تجديد الفكر الإسلامي أو تجديد الفكر الديني، الاجتهاد والحداثة، قضية المرأة، بناء أو تأصيل نظرية للثقافة... إلخ.

نظرية تعارف الحضارات

بالنسبة لنظرية «تعارف الحضارات» فقد تميّزت بكونها ابتكارًا فكريًّا - نظريًّا، ردًّا على السِّجال الذي فجَّره المفكر الأمريكي هنتنغتون، الذي تحدَّث عن حتمية صراع الحضارات في المستقبل، وخصوصًا الصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية. وقد قام الكاتب بتأصيل نظرية التعارف انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، وقدَّمها كبديل لنظريتي صراع الحضارات وحوار الحضارات التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي غارودي.

وعن هذه النظرية يقول الكاتب: «حينما توصّلت لهذا المفهوم وجدت أنه أكثر دقّة وضبطًا وإحكامًا من مفهوم حوار الحضارات..» «ص 30». وقد أخذ مفهوم تعارف الحضارات طريقه سريعًا إلى المجال التداولي، واكتسب اهتمامًا كبيرًا في حقل الدراسات الحضارية، كما أنّ هذه الفكرة أصبحت موضوعًا للعديد من الرسائل الجامعية «ص 31».

تجديد الفكر الديني

من المواضيع التي استحوذت على العقل الإسلامي، خلال القرن الماضي وما تزال قيد المناقشة والبحث، موضوع تجديد الفكر الإسلامي أو الديني، وقد سال فيها الكثير من المداد، وشارك في معالجتها عدد كبير من المفكرين والباحثين من زعماء الإصلاح والنهضة، وقد أدلى الباحث بدلوه في هذه القضية، وكانت له آراء مُتميِّزة في معالجة هذه القضية، حيث استحوذت على اهتمامه خلال العقود الثلاثة من تجربته الفكرية، وكانت موضوع مقالات عدّة تحوَّلت إلى كُتب، طرح فيها نظريته المُفصَّلة للتجديد وآلياته وشروطه، وقد تبلورت لدى الباحث أطروحة للتجديد الديني حدَّدها في مجموعة من العناصر هي: ضرورة إيقاظ روح التجديد، أهمية استعادة منطق الاجتهاد، التأكيد على العلاقة الوطيدة بين تجديد الفكر وتقدُّم الحياة والعلم، والنظر في إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة أو جدلية التراث والمعاصرة، بحيث لا يمكن أن يتجدَّد الفكر الإسلامي من دون إعادة قراءة التراث من جديد، وبمنهج العقل النقدي، كما أكّد ذلك في كتاباته حول هذا الموضوع.

الاجتهاد والحداثة

من القضايا التي كان للباحث الميلاد مساهمة فيها كذلك، قضية تفعيل الاجتهاد الإسلامي لمواجهة الحداثة الغربية وتداعياتها الحضارية، فقد دعا الباحث إلى ضرورة إعادة الاعتبار لمفهوم الاجتهاد، واكتشافه من جديد، ليكون مفهومًا مركزيًّا وفعَّالًا في الثقافة الإسلامية اليوم، مُعتبرًا أن الاجتهاد من «أهم المفاهيم الذي ابتكرته الثقافة الإسلامية...، وبفضله استطاع المسلمون في عصرهم الأول تحقيق ما حقّقوه على مستوى تأسيس العلوم، واكتشاف المناهج، وابتكار النظريات..» «ص 46».

لذلك، دعا الباحث إلى الاستلهام من الروح الخلَّاقة للاجتهاد، واستحضار إرثه العلمي العظيم، والتزوُّد من يقظته وفاعليته لجعله مفهومًا حاضرًا «ص 47».

وقد تمكَّن الباحث من بلورة نظرية في هذا المجال، تحدَّدت في إطار المقاربة بين الحداثة والاجتهاد، إذ وجد أن الاجتهاد في المجال الإسلامي هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك لكون أن مفهوم الحداثة يتكوَّن من ثلاثة عناصر أساسية وجوهرية وثابتة هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها من مُكوِّنات مفهوم الاجتهاد «ص 49».

ومن ثَمَّ، فلا بدّ من إعادة الاعتبار للاجتهاد الإسلامي والنظر إلى الحداثة الغربية والتواصل معها بمنطق التكافؤ: اجتهاد وحداثة «ص 52». وإذا كانت الحداثة الحقيقية تبدأ من الذات، فعلينا - يقول الباحث - أن نُبدع حداثتنا بأنفسنا وبإرادتنا، لا أن نجلبها من الخارج، وهذا ما نُريده من مفهوم الاجتهاد «ص 52».

بناء نظرية دينية نقدية

كذلك، وفي إطار التجديد دعا الباحث إلى بناء نظرية دينية نقدية لمواجهة ظواهر التطرُّف والتكفير والتوحُّش، التي سادت في الربع الأخير من القرن الحادي والعشرين، وكانت لها تداعيات خطيرة على الإسلام والوحدة الدينية والاجتماعية للأمة الإسلامية. بشرط أن تكون «نظرية نقدية فعَّالة، تنهض بهذا الدور، وليس مجرَّد خُطب أو مواعظ «ص 73».

قول في موضوع المرأة

وفي إطار تجديد الفكر الديني، كانت للباحث مساهمات مُتميِّزة أيضًا في موضوع احتدم النقاش والسِّجال حوله بشكل كبير، حتى داخل التيارات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية نفسها، ونقصد به الموقف من المرأة وحقوقها وأدوارها الاجتماعية، فمنذ أن فتح قاسم أمين في بداية القرن الماضي السِّجال حول موضوع المرأة ووضعها وحقوقها، والسِّجالات الحادّة لم تتوقَّف بين المفكرين من جميع التيارات، وقد نال هذا الموضوع اهتمام الباحث الميلاد أيضًا. ومن أهم مواقفه في هذا المجال، دعوته إلى الاهتمام بالجوانب الحقوقية للمرأة المسلمة، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... إلخ، بدل التركيز على جانب العِفَّة فقط، كما هو الحال في الأدبيات الإسلامية الحديثة والمعاصرة، ومن ثَمَّ، فإن الجمع بين العِفَّة والحقوق في البحث والتنظير، يُعتبر مدخلًا مُهمًّا للتجديد الديني في موضوع المرأة المسلمة «ص 83».

كما دعا الباحث إلى بناء نظرية للثقافة، وأن تتحوَّل الثقافة إلى نقد مستمر للسياسة، وتتحوّل السياسة إلى نقد مستمر للثقافة، فهذا النقد المتبادل كفيل بحفظ الحدود بينهما «92».

خاتمة

بالإضافة إلى مواقفه وآرائه وأطروحاته الأخرى، المُتعلِّقة بالقضايا التي كانت محلّ نقاش وسجال خلال ثلاثة عقود من مسيرة الكاتب العلمية والمعرفية، ومن أهم ما يُلاحظ على هامش هذه المواقف، ويدخل في إطار ما يتميَّز به هذا النوع من التاريخ - كما أشرنا إلى ذلك من قبل - أنّ الكاتب وهو يستعرض ابتكاراته الفكرية ومواقفه من قضايا الواقع من حوله، إنّما يُؤرخ لحقبة قلقة من تاريخ الأمة العربية - الإسلامية، والقضايا الفكرية والدينية التي استحوذت على اهتمام العقل العربي والإسلامي، وتعدّد المواقف والتيارات تُجاهها، وهذا ما يظهر بوضوح في القسم الأخير الذي عرض فيه الباحث المقالات والبحوث كاملة، التي تناولت هذه القضايا والمسائل للاطلاع التفصيلي عليها. ومن ثَمَّ، محاولة إحيائها من جديد عبر التذكير بها، ما دامت أمهات القضايا التي أدلى الكاتب بدلوه فيها، عبر تقديم آراء وأطروحات وأفكار ومواقف منها، ما تزال حيّة ومحل ابتلاء، وما تزال تشغل الفكر العربي والعقل الإسلامي.

فالعلاقة بين الحضارات، وخصوصًا الحضارتين الإسلامية والكنفوشية «الصينية» من جهة، والحضارة الغربية من جهة أخرى، مُتوتِّرة جدًّا في هذه الأثناء، وطُبول الحرب تُدقُّ في أكثر من منطقة ومضيق، وفتيل الصراع الدموي بين العرب والمسلمين وبين الغرب والصهيونية، حول القضية الفلسطينية، قد اشتعل، وينتظر فقط لحظة الانفجار الكبير، لتتحقَّق نبوءة هنتنغتون، بدل الدعوة إلى الحوار أو نظرية التعارف التي نادى بها المؤلف.

أما الفكر الإسلامي فأبواب تجديده لم تُفتتح بعدُ على مصراعيها، حيث يستميت حُرَّاس الماضي والتراث، والمتوجِّسون خيفة من رياح التجديد، في الدفاع عن غلقها بإحكام، والاجتهاد لا يزال يترنَّح بين دعاة التقليد ودعاة الحداثة المنفلتة من أيِّ قيد أو شرط. أما حقوق المرأة المسلمة فهي الأخرى تنتظر من يُؤصِّلها ويُقنِّنها ويعمل بجدٍّ على إنزالها على أرض الواقع، حيث تُعانق العِفَّة والحشمة الحُقوق المدنية، في الشارع والجامعة والإدارة والمصنع.

وكذا باقي القضايا والمسائل التي هي في حاجة إلى بحث ونقاش عميق، لتأصيلها وتجذيرها، واتخاذ الموقف المطلوب منها، في إطار أصالة تستمد جذورها من الوحي والمحطات المُنيرة والحيَّة من تراثنا، والاستفادة من عناصر الحداثة التي تسمو بواقعنا باتّجاه تمثُّل القيم الإنسانية والحضارية السامية.