بناء الجسر
في الكتاب المتميًز للأديب المحاور علي مكي «علمانيون وإسلاميون جدالات في الثقافة العربية» أسئلة عميقة، وأجوبة صريحة. ومن أهم الأسئلة التي وجهت إلى المفكر محمد جابر الأنصاري ما يلي: «كيف يتجاوز المثقف العربي قناعته النظرية، إلى واقعه وواقع مجتمعه؛ ليتحقق التلاقي بين النظرية والواقع؟» أي كيف نبني جسرا بين الفكر والواقع؟
وكان من الجواب: «يحاول المثقف أن يوفق بين فكرته وبين الواقع، ويدخل.. في سلسلة من التنازلات إلى أن تنتهي المسألة إلى القبول بالأمر الواقع... الخ» هذه هي الإدانة / الفضيحة للمثقفين العرب؛ فهم عندما يصلون إلى نقد الواقع، وما يجب أن يلقى عليه من الضوء الكاشف، نراهم يهربون من المواجهة «هرب الأمن من فؤاد الجبان» كما يقول المعري، إلى التنازل حتى القبول بالأمر الواقع. والتخلي عن أفكارهم، بل يفهم من جواب الأنصاري أن على المثقف أن ينتظر إلى أن يتطور المجتمع ويصل في تطوره إلى مستوى تقبل أفكار هذا المثقف «المبجّل المنتفخ بالهواء الطلق»
وهذا كان مضمون سؤال وجهه لي الأديب البارع الصديق محمد الشقاق عن شعر أدونيس، وهل له علاقة بالمجتمع؟ والذي يترتب على هذا السؤال سؤال آخر هو ما قيمة هذا الشعر إذا لم يفهمه الجمهور، ولم ينفعل بتجربته؟ وكان جوابي ضبابيا، فلا أستطيع نفي شعرية أدونيس الاستثنائية، ولا أستطيع نفي بعده عن الجمهور.
إن واقعنا العربي مثقل بالأمراض المزمنة والتليدة، فهو مثقل بالخرافة وأساطير الأولين، إلى الرعب من أي نقد لهذا الواقع؛ خوفا من المجتمع المصاب بهذه الأمراض، والأقسى أنه يدافع عنها ويعتبرها من علامات الصحة النفسية، والإرث المجيد والمسلمات. وهنا يأتي دور المثقف، الذي عليه أن يكون قادرا على إيصال فكره الناقد إلى هذا المجتمع بطرق عدة، وبدون خوف.
المفكرون في الغرب، وعلى رأسهم الفلاسفة، لاقوا من غباء الكنيسة وهمجيتها وجهلها أضعاف ما نعانيه نحن في العالم العربي، ولكنهم، بالإصرار والتضحية حققوا غرس أفكارهم في بيئاتهم الاجتماعية. وها هي الكنيسة الآن تسير خلفهم، وتعتذر عن تاريخها المدمًر. وتأثير جمود الفقهاء في تاريخنا على الأكثرية الأفقية في المجتمع، لا يقل كثيرا عن تأثير الكنيسة، وهذا هو ما يقوله تاريخنا بلسان عربي فصيح، من أنه كان من العوائق المؤثرة في طريق الوصول إلى التنوير المعرفي.