عقلية ”القرد والثعلب“
من المصطلحات الرائجة لعله والنابعة من الثقافة البوذية، على ما نقل، مصطلح ”عقلية القرد“ ويقصد به الحالة الذهنية/النفسية التي يعيشها الإنسان بتنقله من فكرة إلى فكرة باحثاً عما يُسكن قلقه وخوفه كما يبحث القرد أجلكم الله عن طعامه من شجرة إلى شجرة. ومما قيل أن هذه الحالة منتشرة في إنسان هذا العصر بسبب القلق المادي والمستقبلي وأجلى صوره هي الانتقال بين وسائل التواصل الاجتماعي الذي بُلي به الكبير قبل الصغير، إلا أن الفارق أنه أصبح الإنسان يتنقل بين أعداد كبيرة من المعلومات بشتى الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية بلا هدف أو هدف عائم لا معالم ولا معايير ولا نهاية فيه إلا مواكبة ما يجري بلا فائدة تستحق إذا ما قورنت بالوعي بالذات والعائلة والمجتمع لتوفير ما يحتاجه من فعل لا متابعة وسبق فقط. وكذلك هناك صورة أخرى بأن يبحث أحدنا عن زيادة رصيده الثقافي بطرق جميع أبواب العلم، وكل ما يطرح من غثٍ وسمين الذي سيكون غثاء كغثاء السيل من معلومات مبعثرة والصحيح هو التركيز على مجالٍ واحد والتثقف عن جوانب أخرى. من الصور الخطرة والأسوأ هو نموذج المرئيات القصيرة «الفيديوهات - Videos» التي توفرها التطبيقات بدسها السم في العسل لإشباع ”عقلية القرد“ المُتفشية.. وهذه وسيلة تحتاج لفلتر عقلي وقاد على مدار 24 ساعة ولست أعلم كيف يُحصَّن العقل الباطن مع هذا الكم الهائل من الصور والأفكار التي غاية بعضها تدميرنا خصوصاً أطفالنا وجيلنا الصاعد! لا يراد من وصف بعض الحالات بأنها نتيجة لـ ”عقلية القرد“ الإهانة بالتشبيه بحيوان، إنما هو تقريب لصورة ذهنية من خلال صورة حسية رأيناها بالبصر بما أراه وأريده. علي كل حال، هذه الطريقة في التنقل بين وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها واقع وأظنه كلام تكرر كثيراً وأصبح روتيني ولعل من المبتلين به كاتب هذه السطور ولكن لا يعني ذلك الاسترسال مع هذه الحالة فالمراقبة والمحاسبة والمعاتبة قواعد أساسية أخلاقية في تربية النفس وتهذيبها سواء علينا كراشدين أو على من نعولهم/نرعاهم من القُصَّر حتى في المباحات فضلاً عن غيرها. هذه إشارة عن نظرية/مصطلح ”عقلية القرد“ والتفصيل على مقدار بحثك واهتمامك فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها.
وعلى غرار ذلك المصطلح ومن باب المجاراة وتوظيف نفس المبدأ، نطرح مصطلح/مفهوم ”عقلية الثعالب“ يصف حالة بأولئك الأذكياء أصحاب الذهن الوقاد ولكنهم وظفوه في معرفة آلية عمل كاميرات ”ساهر“ كنموذج لا ليسيروا على النظام ولكن ليجدوا طريقاً لمخالفة الهدف السامي الذي وضعت له من أجل تنظيم السير وحماية الأرواح والمركبات ليجني دقيقة أو جزءاً من دقيقة انتظار أو ما إلى ذلك حفاظاً على وقته الثمين الذي سيقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض التفاهات. أصحاب ”عقلية الثعالب“ تشربوا المكر في كل صغيرة وكبيرة حتى مع ذاتهم بالانجرار خلف حبائل النفس والشيطان ومكره حتى أصبحوا نسخة شيطانية بشرية. ومن أسوأ النماذج التي قد نقع فيها ”وما أبرئ نفسي“ هو توظيف المكر والخداع في الأعمال التي ندعي أنها لله عز وجل فعلينا إذا ما لمسنا ذلك منّا أو من المقابل أن نبتعد لأن حقيقة الأمر كما لخصه أحد فضلائنا دام عطاؤه «مضموناً» ”أي بيئة للعمل التطوعي فيها صراعات شخصية لا يوجد فيها من التقرب إلى الله تبارك وتعالى شيء“ وقد يكون ذلك بتوظيف شيء من ليِّ عنق النصوص الشريفة لتخدم هذا الصراع الشخصي. للأديب الأستاذ جابر الكاظمي نقد شعري جميل لهذه الفئة في قصيدتين أذكر أبيات من أحدثها حيث يقول:
ظـلـم الأوائـل مـا جمع ... غير المجازر والهلع
ظـلـم الأواخـر يختلف .. لابس جلابيب الورع
مـؤمـن تـشوفه ابظاهره .. وبالباطن اتموج الخدع
مـالـك الأشـتـر حَسَّبِت .. لنَّه ابن ملجم طلع
ابـدينك يبيع ويشتري.. بالدجل والغش والطمع
أفـعـاله مثل اللي اجه .. وصله الصبح بثمن ركع
عـاشـوا عـالـخـيـانـه ... ما حفظوا أمانه
كـل سـاعـه يـلفون ابشكل ... مثل الثعالب
ما أظنه علاجًا لمثل هذه الحالات هو العودة للوراء خطوة والنظر إلى المسألة بنظرة فوقية «Top View» لمعرفة ما هي الجذور التي دفعتك للانخراط في هذه العمل والتعامل بهذا السلوك؟ نعم، هذا صراع بين تحقيق الذات وإشباعها بكل صورها وبين الوقوف عند المبدأ الأول وهو العمل لله بغض النظر عمن سيظهر اسمه ومن سيكون في الظل. تحقيق الذات أمر مهم جداً حيث يُعرف أنه ”هو حاجة الفرد للتعبير عن ذاته بصورة مباشرة أو غير مباشرة والوصول إلى أقصى ما يمكن تحقيقه من إمكانات وقدرات بقصد إشباع حاجاته، وإعادة حالة الاتزان التي تساعده في استخدام تلك الإمكانات والقدرات في خدمة الفرد والمجتمع والقيام بأدواره ومسؤولياته وواجباته المعتادة [1] “ ويكون ذلك من خلال ”تحقيقه لاحتياجاته الشخصية والحياتية، وقد رتب ماسلو هذه الاحتياجات على شكل هرم يبدأ بتحقيق الفرد للاحتياجات الفسيولوجية مثل الأكل والشرب، ثم ينتقل الفرد إلى البحث عن الأمن والحماية، ثم يبحث عن الحب والانتماء؛ وعند تحقيق هذه الأمور يبدأ الفرد في احترام ذاته والنظر إلى نفسه بإيجابية، ومن خلال مرور الفرد بهذه المراحل وتحقيق هذه الاحتياجات يصل الفرد إلى ما يُسمى تحقيق الذات والتي تم توليدها من خلال تحقيقه للإمكانات التي لديه [2] “. هذه حاجات فطرية وضرورية للإنسان لكن يجب ألا تُقدم على رضا الله تبارك وتعالى الذي خلق الفطرة كما نتغلب على شهوتنا بترك الشراب والطعام الحرام نفس الحال بالنسبة لرغبات النفس. أي عند تزاحم الأمر بين تحقيق الذات ”دنيوياً“ وبين تحقيق الذات ”آخروياً“ علينا أن نختار طريق الآخرة فالنفس كما يجب تحقيقها ظاهرياً كذلك يجب تحقيقها داخلياً بتأديبها بآداب الإسلام المحمدي إن لم أكن مخطئا في هذا الربط.
أياً يكن، هذه فرصة لنشكر جميع الكوادر التي تخدم المجتمعات عموماً ومجالس أهل البيت خصوصاً الذين يطلق عليهم بحق ال ”جندي المجهول“ فجميع ما نراه من خدمات ومعونات ومحاضرات وأمسيات وحوارات قام على نجاحها كوادر لا يعرفهم الكثير الكثير ومن نعرفهم هم من في الصورة. فسلام على تلك النفوس الكبيرة التي أحبت الله وزهدت في حطام الدنيا يا ليتني أفوز بمثل صفاء نيتهم وسرائرهم.
بعض حالتنا ”العقلية/النفسية“ تحتاج إلى ساهر ”فكري/أخلاقي“ ينظم ”فكرها/أخلاقها“ ويصححها.
قال الإمام علي بن أبي طالب : ”يَا أَيُّهَا النَّاسُ اقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ نَصَحَكُمْ وَتَلَقَّوْهَا بِالطَّاعَةِ مِمَّنْ حَمَلَهَا إِلَيْكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْدَحْ مِنَ الْقُلُوبِ إِلَّا أَوْعَاهَا لِلْحِكْمَةِ وَمِنَ النَّاسِ إِلَّا أَسْرَعَهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِجَابَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجِهَادَ الْأَكْبَرَ جِهَادُ النَّفْسِ فَاشْتَغِلُوا بِجِهَادِ أَنْفُسِكُمْ تَسْعَدُوا وَارْفُضُوا الْقَالَ وَالْقِيلَ تَسْلَمُوا وَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ تَغْنَمُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً تَسْعَدُوا لَدَيْهِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ“