آخر تحديث: 16 / 10 / 2024م - 1:11 ص

في معوقات اليقظة العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

تأثرت حركة اليقظة العربية، بنتائج الحرب الكونية الأولى، وبشكل خاص اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917. فقد أسست سايكس بيكو لتقسيم بلاد الشام، ووضعها، تحت الهيمنة الفرنسية والبريطانية، وقد نظر لوعد بلفور، الذي هيأ لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين، كعنصر لجم حاسم لتحقيق الوحدة بين شطري المشرق والمغرب العربيين.

ابتدأت اليقظة العربية، كفاحها بشقين متوازيين: المطالبة بالاستقلال عن السلطنة العثمانية من جهة، وإحياء الفكر العربي والانفتاح على العلوم الإنسانية، من جهة أخرى. وبعد تكشف النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى، تحمل قادة حركة اليقظة، مسؤولية التصدي لتبعات سايكس - بيكو ووعد بلفور.

اعتبرت القومية العربية، عقيدة تحشيدية لتحقيق هذا الهدف، باعتبارها الهوية الجامعة لأفراد ينتمون إلى أرض واحدة، يجمعهم أنهم ناطقون بالعربية، وينتمون إلى جغرافيا وتاريخ مشترك، ويدين أغلبيتهم بعقيدة الإسلام.

نظر مشروع اليقظة للمجتمعات العربية، على أنها كسيحة وعاجزة عن الاضطلاع بمشاريع التنمية ونقل المجتمع العربي ليكون في مصاف الأمم الراقية، وأن تحقيق الوحدة هو المفتاح لمعالجة كل المشاكل. وسكن في اليقين أن النهوض يتحقق بالاندماج التام، لأن العرب يجمعهم التماثل في اللغة والثقافات والعادات والمصالح المشتركة.

وقد أثبت التطور التاريخي عدم دقة هذه النظرة، فالبلدان العربية، لم يتشكل معظمها بإرادات خارجية. فالكثير من هذه البلدان هي من صنع التاريخ، ومضى على بعضها، بسياقها الحالي، آلاف السنين، مثل مصر وتونس.

يضاف إلى ذلك أن التجارب التاريخية، أكدت أن الوحدات السياسية، تأتي تلبية لواقع موضوعي، وأن المجتمعات الإنسانية، لا تتماثل حتى وإن جمعتها لغات وثقافات مشتركة. وجود لغات وثقافات مشتركة، هي عامل مساعد، لقيام وحدات سياسية واقتصادية، ولكنها لا تحتم تحقيق ذلك. فقانون الوحدة هو التفاعل والتكامل وليس التماثل.

ينبغي النظر للدولة الوطنية، باعتبارها هوية جامعة، وليست مجرد هوية فرعية. إن ذلك يفترض فيها أن تنهض كدولة مستقلة بمجتمعاتها، على كافة الأصعدة. وأن تلبي حاجة مواطنيها من صحة وتعليم وسكن وأمن ورخاء، وتأمين مستلزمات الدفاع عن الوطن، وأجهزة عصرية. وإن الوحدة ضمن هذا السياق، تأتي تلبية للاحتياجات الوطنية، ومتطلبات النهوض بالمجتمعات العربية.

إن مقولة قوة الأمة في وحدتها، لا تعني بالضرورة، تحقيق وحدة اندماجية بين الأقطار العربية. فما تحتاجه الأمة، هو تلبية حاجات الناس ومتطلباتهم واستحقاقاتهم في الحرية والكرامة، والتنمية والنمو الاقتصادي.

إن التكامل العربي، يقتضي التنسيق بالقضايا المرتبطة بحاجات البشر. فيكون البدء بالوحدة الاقتصادية، وتوحيد الأنظمة الجمركية، والكهرباء، ومد السكك الحديدية، واستكمال ما بقي من خطوط المواصلات البرية والجوية. ويتم ذلك أيضاً، من خلال إحياء معاهدات واتفاقيات، وقعها القادة العرب، في شؤون الأمن والدفاع، وبقيت لعقود عدة دونما تفعيل، كمعاهدة الدفاع العربي المشترك والأمن القومي العربي الجماعي، والوحدة الاقتصادية والثقافية، وأن يتحقق تفعيل ذلك وفق سياقات وطنية وإرادة حرة ومستقلة، ومن غير تبعية للخارج.

هذا المنظور هو تطور نوعي جديد لمفهوم الهوية، لدى دعاة المشروع العربي النهضوي. وهو تطور يمثل استجابة للتطور التاريخي، ولنمو وعي شعوب المنطقة، بحقائق العصر، التي تتجه بثبات نحو اقتصادات الأبعاد الكبيرة، والكتل التاريخية. وهو وعي يضعنا على السكة الصحيحة، وفي المكان اللائق على خريطة التطور البشري، بما يحقق صبوات الجميع في مجتمع عربي قوي ومتطور، يكون الإنسان العربي عماده وركنه الأساس.

الانهيارات التي تشهدها البلدان العربية الآن، ليست قدراً مقدراً علينا. فالعرب ليسوا أمة خارج التاريخ، وكان لهم إسهاماتهم الحضارية. وقد امتدت إمبراطوريتهم، في فترة قياسية قصيرة لم يشهدها التاريخ قبلهم ولا بعدهم، فوصلت إلى السند شرقاً، وإسبانيا غرباً. ولم يبتعد الخليفة العباسي هارون الرشيد عن الحقيقة، حين خاطب غيمة: أمطري حيث شئت، فسيكون لنا فيك نصيب حيثما أمطرت.

سقطت دولة الخلاقة، وكان حالنا في ذلك حال معظم الإمبراطوريات التي قامت على وجه هذه البسيطة.

نحن أيضاً خاضعون لقوانين الدورة التاريخية، حيث النشوء والعمران والشيخوخة، وحيث كما يقول المتصوفة، ليس بعد الاكتمال سوى النقصان. سقطت الحضارة العربية، وتفككت دولة الخلافة إلى إمارات وممالك صغيرة، بعد هجوم التتار، وهيمنة الاستبداد العثماني.

لكن أمور الناس المعتادة، ظلت على ما هي عليه. الناس يأكلون مما ينتجون، يكدون ويتعبون، ويحافظون على شيء من الاستقلال الذاتي، حيث ظل العرب في غنى عن الخارج... يزرعون ويتاجرون وينتجون بحرف بدائية متواضعة لكنها، كافية لسد حاجاتهم.

تزامنت حركة اليقظة العربية، بحقائق موضوعية، أعاقت تحقيقها لأهدافها، وكان لهذه الحقائق انعكاساتها النفسية والسياسية والاقتصادية على الواقع العربي، وبخاصة في مراكز الإشعاع الحضاري. فاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي كان كشفاً جغرافياَ عظيماً، تسبب في انهيار الموانئ العربية، على الجزء العربي من حوض البحر الأبيض المتوسط.

وضاعف من هذه المعضلة تزامنها، بصعود كاسح للتصنيع الغربي، ما أدى لانهيار الصناعات المحلية، التي لم يعد بمقدورها التنافس مع المنتجات الصناعية الغربية، إن من حيث الكم أو النوع. انهارت الصناعات الحرفية، في البلدان العربية، التي انطلق منها مشروع اليقظة، كما انهارت من قبل موانئها البحرية. وهنا تأتي المحطة الثانية في انهيار مشروع النهضة.