آخر تحديث: 6 / 10 / 2024م - 1:38 م

السُّؤال المعرِفي.. أُحجِية النُّهوض العَربي «1»

محمد الحميدي

”لماذَا تأخَّر المسلِمُون؟“ ”ماذَا خَسِر العالمُ بانحطاطِ المسلمِين؟“ ما أسبابُ تراجُع المسلمِين؟ أينَ يكمنُ الخللُ في العقلِ العَربي؟ كيفَ يمكنُ النُّهوض وانتِشَال المسلمِين من تأخُّرهم؟ والكَثير من الأسئِلة الشَّبيهة، التِي حَاول المهتمُّون بالحضَارة الإسلاميَّة الإجَابة عليها، مُقارنين بينَها وبينَ غيرِها، أو مُنفردِين بتِعدَاد أسبَاب سقُوطها ومُحاولة إيجَاد عِلاج لها، أو مُقترحِين حلُولاً وتوصِيات بشَأن العَودة والنُّهوض من جدِيد، أو مُقيمِين مراكزَ أبحَاث ودِراسَات تتعمَّق المسأَلة؛ بُغية إنجَاز مشارِيع فكريَّة تُحفِّز على تجاوُزها، حتَّى تنوَّعت المشارِيع وتعدَّدت الأسمَاء، فضمَّت الكَثير من المهتمِّين بالإجَابة على أسئِلة النُّهوض والسُّقوط، لكنَّ العَرب والمسلمِين ظلُّوا على حَالهم، لا يتقدَّمون إلى الحضَارة، ولا يمسِكُون بمفاتِيح العلُوم، وكأنَّ الأمرَ لا يعنِيهم!

السُّقوط الكَبير

لا يمكنُ لأمَّة أن تسقُط من عرشِ الحضَارة إلَّا بأسبابٍ قاهِرَة؛ إمَّا من داخلِها وإمَّا من خارجِها، وتتعدَّد الأسبَاب الداخليَّة ما بينَ التَّصارُع وعَدَم الاستِقرار والانكفَاء عن العَالم والبُعد عن التَّفاعُل معَه، مِثلما تتعدَّد الأسبَاب الخارجيَّة ما بينَ الانشِغال بالحرُوب والصِّراع على الحدُود أو بما يحدُث في البُلدان القرِيبة والبعِيدة، فإذا اجتمعَت الأسبَاب الداخليَّة والخارجيَّة أدَّت لسقُوطها، ولم تكُن قادِرة على النُّهوض إلَّا بعِلاج أسبَاب تراجُعها، وهوَ ما حصَل معَ الحضَارة الإسلاميَّة، التِي سقطَت وتهاوَت ولا زالَت غَير قادِرة على النُّهوض، رُغم مُحاولات بعثِها وإحيائِها.

الصِّراعات الداخليَّة بينَ الدُّول الإسلاميَّة، وانتِقَالها من المذهبيَّة إلى السياسيَّة، كَما في صِراع الفاطميِّين والأيوبيِّين في مِصر، أو البويهيِّين والسَّلاجِقة في العِراق، أو الأدَارِسة والأُمويِّين في المغرِب، وهيَ دُول وإِمارات قامَت وسقطَت في فَترات قرِيبة من بعضِها، وتمثَّل صِراعها الكَبير في الاستِيلاء على الأرضِ وزِيادَة رُقعة الدَّولة، مُعتمِدة على الشَّحن الطَّائفي والمذهبِي، فكلُّ واحِدة اتَّبعت مذهباً دينيًّا مُختلِفاً عن الأُخرى، وانتهَت الصِّراعات بتقاسُم البِلاد وحَصر السُّلطة بيَد مجمُوعة صَغِيرة، اهتمَّت بتكرِيس نفُوذها على حِساب العِلم والثَّقافة، وإنْ حاولَت الظُّهور بمظهَرٍ يُخالف ذلِك، فالمدَّة الزمنيَّة القصِيرة لوجُودها؛ لم تكُن لِتُساعِدها في إرسَاء واستِمرار أُسُس التُّطور والتقدُّم.

يحتلُّ التَّعليم أهميَّة قُصوى في أيِّ نهُوضٍ مُحتمَل، فلم يكُن غريباً على المسلمِين العنايةُ به وفتحُ الآفاقِ أمامَه؛ لذَا تسلَّموا مِشعَل الحضَارة وارتقَوا بها، وحِينما أهملُوا التَّعليم تراجعُوا وتأخَّرُوا وسَبقتهُم الأُمُم، ولمَّا انكَسرت قوَّتهم وتلاشَت دولتُهم تكرَّس التَّخلف، وباتَ عادَة من عاداتِهم وطرِيقة من طُرُق معيشتِهم، لهذَا حِينما أرَاد ”محمَّد عَلي باشَا“ النُّهوض بمِصر اتَّجه إلى التَّعليم وابتعَث أبناءَها إلى أُوروبا؛ للنَّهل من علُوم ومعارِف العَصر ومُستجدَّات الأنظِمة والقَوانين، ولمَّا عادُوا بدأَت عمليَّة النُّهوض، فأُقِيمت المدارِس والمعاهِد، وتمَّ الاهتِمَام بالتُّراث العِلمي والأدَبي، وهُنا حدثَت حركَة معرفيَّة واسِعة شمِلَت مُختلَف المجَالات.

لم يكُن العِلمُ في يومٍ ما بمعزلٍ عن القوَّة والسِّلاح، فهُما جَناحا الحضارةِ وبها ينتشِران، والأممُ التِي تتوقَّف عن امتلاكِ أسبابِ القوَّة، تُماثِل الأممُ التِي تتوقَّف عن الأخذِ بأسبَاب العِلم، حيثُ سيغدُو مصِيرهما التَّراجُع والسُّقوط، فإذَا اجتمعَت الأسبَاب في أمَّة غدَا مُصابها عظيماً وعِلاجها صعباً، وهذَا ما حدَث للعَرب والمسلمِين في سَنوات تخلُّفهم، ف ”نابليُون“ عِندما وَطِئَت رِجلُه مِصر وانتزعَها من الممالِيك، جلَب معَه أمرَان؛ سِلاح المدفعيَّة الفتَّاك، وبِعثة علميَّة تستكشِف البَلد وتُعلِّم النَّاس معارِف العَصر؛ إذ أخذَت تجرِي أمامَهم تجارِب كيميائيَّة، تُنتِج انفِجَارات وأبخِرَة مُلوَّنة، وهوَ ما نُظر إليه كنُوع من السِّحر؛ ما يؤكِّد بُعدهم الكَبير عن الحضَارة، وأن بينَهم وبينَها مسَافة شاسِعة.

لكنَّهم عادُوا، واستطاعُوا بِناءَ جيشٍ عصرِي، ونظامٍ عِلمي معرِفي مَتِين، فالبعَثات العلميَّة قادَت النُّهوض، والجيشُ حمَاها من السُّقوط، وظلَّت المتغيِّرات الدَّولية تُلقي بظِلالها على سِياستها، إذ لم يكُن من السَّهل على الدَّولة العثمانيَّة قبُول استِقلالها، كَما أنَّ الدُّول والممالِك الأوروبيَّة كَانت لها أطمَاع تِجاهها، لكنَّهم صمدُوا، واستطاعُوا البَقاء أقوِياء لفَترة زمنيَّة طوِيلة، فتمكَّنوا من بِناء نِظام مُعتمِد على المُواءَمة بينَ التَّأثيرات الدَّولية، والاهتِمَام بالجوانِب التَّنموية، وهوَ ما أسفَر عن استِمرار النُّهوض، رُغم مواجَهة مُشكلات طارِئة؛ من قَبيل مُلاءَمة المعارِف المجلُوبة من الخارِج للثَّقافة المحليَّة والمعرِفة الدينيَّة، حيثُ كثيراً ما كَانت تحصَل صِدامات وصِراعات بينَ أتباعِهما.

الصِّراع المرِير

قوَّة الدَّولة ورسوخُ أنظِمتها وقوانينِها إضَافة إلى الحاجةِ الملحَّة للتَّحدِيث؛ أفرزَت نهضَة بعدَ رحيلِ نابليُون، إذ ترافَق تحدِيث العلُوم والمعارِف معَ تحدِيث أجهِزة الدَّولة وأنظِمة حُكمها، يُضاف لذلِك تكوِينها لجَيش قوِي قادِر على حِماية حدُودها؛ ما منَع التَّهديدات الدَّولية والمشكِلات الماديَّة من أنْ تقَع على تُرابها، فامتلكَت زِمام أمرِها، وباتَت قادِرة على إدارَة شُؤونها، وهوَ أمرٌ منحَها تفوُّقاً سياسيًّا وهدوءاً داخليًّا، أتاحَ لها أن تتوجَّه ناحِية التَّنمية والتَّطور، حيثُ الاستِقرار ركيزَة أساسيَّة للاستِفَادة من العلُوم والمعارِف، وقَد بانَت بوادِر النُّهوض واتَّضحت معالمُه في ثقافَة المجتمَع، عَبر انتِقَال طبقاتِه من الأميَّة والجَهل إلى العِلم والمعرِفة.

تمرُّ الأنظمةُ السياسيَّة بمراحلِ ضعفٍ تؤثِّر عليها وعلى مجتمعاتِها؛ لهذَا سيتأثَّر النُّهوض تبعاً لدرجَة الضَّعف الحاصِلة، فإذَا كَانت النَّهضة مستمرَّة وبناؤُها مَتِين؛ سيكُون التأثُّر بسيطاً، أمَّا إذَا كَانت متوقِّفة وبناؤُها ضعِيف؛ ستكُون معرَّضة لخطَر التَّراجُع والارتِكاس، وهذَا حَال الدَّولة المصريَّة التِي شهِدت فصُولاً من القوَّة والازدِهار، فاستطاعَت فَرض نِظامها السِّياسي والثَّقافي على الدَّاخل والخارِج، وتمَّ الاعتِراف بها قوَّة قادِرة على الدِّفاع عن نفسِها وشعبِها، ولها الحقُّ في استِغلال موارِدها ومداخِيلها، لكنْ حِين أصابَها الدَّاء وانتقلَت إليها العَدوى وبدأَت في الانهِيَار؛ انعكَس ذلِك على واقِعها الثَّقافي، حيثُ أخذَت تضعُف شيئاً فشيئاً، فلا جدِيد على مُستوَى المعرِفة، ولا تحدِيث في الأنظِمة والقوانِين.

انهيارُ الدَّولة المصريَّة ترافقَ معَ انهيارِ الدَّولة العثمانيَّة، وسقُوط البُلدان العربيَّة في قبضَة الاستِعمار، ففقدَت النَّهضة أهمَّ عواملِها وهوَ الاستِقرار؛ ما اضطرَّها إلى الالتِجاء للدِّين والثَّقافة، فأعادَت بعثَ فصُولٍ من مجدِ العَرب، بدأَت بمحاكَاة الجَاحِظ وابنِ المقفَّع، والذَّهبي والشَّافعي، والمتنبِّي والمعرِّي وابنِ الرُّومي، وابنِ هِشَام وابنِ مالِك والكسائِي، وأمثَالهم من العُلَماء البارزِين؛ ما تسبَّب في إعاقَة النُّهوض وإعادَة النَّظر إلى الخَلف، حيثُ ستُقاس وتُقارن المعارِف والعلُوم بالماضِي، باعتِبَاره الأَصل الذِي يجِب اتِّباعه؛ ما يعنِي تِكرار أسبَاب التَّراجُع، وكأنَّ الزَّمن يُعيد نفسَه ولا يتعلَّم من أخطائِه.

العودةُ إلى الماضِي والاتِّكاء على منجزاتِه عَمِل على تعطِيل العَقل، وهوَ مشرُوع الدكتُور محمَّد عابِد الجابرِي، الدَّاعي إلى إعادَة ”تكوِين العَقل العَربي“، إذ يرَى أنَّه تمَّ اختِطَافه وباتَ أسِير المناهِج والموضُوعات المكرَّرة، حتَّى فقَد ارتباطَه بالعَصر، لهذَا ينبغِي تحريرُه من أسرِ ”البَيان والعِرفان والبُرهان“، وهيَ الاتِّجاهات المؤثِّرة في السَّابقين من اللغويِّين والفلاسِفة والمتديِّنين، ومَن سَار على طريقتِهم من المتصوِّفة والمعتزِلة والملاحِدة، فيمضِي متتبِّعاً الخطُوط العامَّة للاتِّجاهات الثَّلاثة، مبيِّناً تأثِيرها على الثَّقافة، وارتباطَها بأسبَاب بقَاء العَرب مُتخلِّفين، وغَير قادِرين على الاندِماج في الحضَارة والتَّفاعُل معَها.

البعدُ عن الحضارةِ والبقاءُ على هامشِها، بدعوَى الحفاظِ على الهُويَّة والدِّين، وعدَم قبُول منجزاتِها كَونها تُخالِف المورُوث، ولم يَرِد ذِكرُها في القرآن، فهيَ أسبَاب تتعلَّق بالمشاعِر لا الحقائِق، حيثُ الشُّعور وحدَه من يُصوِّر للإنسَان أنَّه واقِع تحتَ طائِلَة المُؤامَرة، وأنَّ العَالم يُريد أن يفتِك به وينتزِعَه من أرضِه وتاريخِه، وهذَا ما أثبتَت التَّجربة المصريَّة خطأَه من خِلَال نُهوضِها، وهوَ ما حَاول عبدُ الإلهِ بِلقزِيز إيضاحَه في مشرُوعه الكَبير، وخُصوصاً كتابَه ”نقدُ التُّراث“؛ إذ يرَى أنَّ التَّخلُّف ليسَ قدَر العَرب وإنَّما استِسلام منهم، ويستطِيعُون تجاوُزَه متَى توفَّرت أسبَاب الأمنِ والتَّعليم والاتِّحاد وتأمِين الهُويَّة، وهذَا ما يقُود إلى طَرح تساؤُلٍ حَول الأسبَاب الفعليَّة للتَّخلُّف وكيفيَّة مُجاوزتِها!

السُّؤال المعرِفي

أسبابُ التَّخلُّف عدِيدَة، غالبُها يدورُ في فلَك الاستسلامِ للقدَر وعدَم الرَّغبة في الخرُوج عنه، بما يشملُ عدَم القُدرة والإمكانيَّة على الخرُوج، فبسبَب اعتِيَادهم البَقاء في وَضع الجمُود والتَّحجُّر، تكوَّنت لدَيهم قناعَة راسِخة باستِحَالة مُجاوزَة وضعِهم، إذ يشعرُون أنَّهم لا يستطِيعُون الانضِمام لحضَارة؛ تنظُر تجاهَهم نظرَة خشيَة وخَوف، وينظرُون تجاهَها نظرَة ترقُّب وحذَر، وهذَا ما جعَل الحقائِق تختفِي وتحلَّ المشاعِر مكَانها، لتنتقِل المُشكلَة من الخارِج إلى الدَّاخل، ويغدُو الانهِزَام نفسيًّا قبلَ أن يكُون من الأعدَاء؛ ما يعنِي مزيداً من الضَّغط باتِّجاه الاكتِفَاء بما في اليَد، وعدَم استِبدَال الواقِع، وهيَ الذَّرائِع المُعتادَة فيما يتعلَّق بالتَّخلُّف والتَّراجُع، والرَّغبة في الابتِعَاد عن الحضَارة ورفضِ التَّساكُن معَ مُنجزاتِها.

علاجُ الدَّاخل أهمُّ من علاجِ الخارِج، والخوفُ من الآخَر أولَى بالعلاجِ من أمراضِ الجسَد، وأوَّل الأمرَاض وأكثرُها فتكاً نظريَّة المُؤامَرة، التِي تغلغَلت في الأذهَان واخترقَت الأفكَار، وشكَّلت لنفسِها نسقاً ثقافيًّا، مالَ نحوَه كَثير من العَرب والمسلمِين، الذِين نظرُوا إلى الأُمُم الأُخرى، باعتِبَارهم أعدَاء يريدُون الفَتك بهم، والاستِيلاء على ما لدَيهم، وهيَ نظرَة نابِعة من صمِيم التوجُّهات الدِّينية، استجلبَها الإنسَان حِينما أرَاد التَّمسُّك بهُويَّته والمُحافظَة عليها، حتَّى وإنْ لم يكُن لذلِك أسبَاب منطقيَّة، كَما هوَ حَال مُواجهة الحضَارة الغربيَّة، إذ ابتعَد عنها ورفَض مُنجزاتِها المعرفيَّة والرُّوحية؛ لاعتِقَاده أنَّها موجَّهة ضدَّ دِينه وقِيمَه وثقافتِه، فاكتفَى بمُنجزاتِها الماديَّة؛ لأنَّها تُسهِّل حياتَه وتُسرِّع أعمالَه.

العلمُ المقبولُ والعلمُ المرفُوض؛ تقسيمٌ غيرُ معلنٍ يحملُه عقلُ المسلِم، حينَ يتعاملُ معَ الحضارةِ والمنجزِ الغَربي، فهوَ في حياتِه الماديَّة يستفِيد من مُخترعاتِها، لكنَّه في حياتِه المعرفيَّة يتجَاهل مناهِجها وطرائِقها في الشَّك والتَّجريب والاستِقراء والاستِنتاج، فيغدُو كَمن يأخُذ بنصِف الكَأس، ولا يستفِيد من النِّصف الآخَر؛ لهذَا لا يتمكَّن من الارتِوَاء بالماءِ والماءُ بينَ يدَيه، ولا يستطِيع مُواصلَة الطَّريق نتيجَة الإنهَاك والتَّعب الشَّديد، فيظلُّ عَطِشاً إلى المعرِفة وراغباً في الاستِفادة منها، لكنَّه لا يستطِيع بسبِب المشاعِر النَّفسية والموانِع الذِّهنية، لذَا يكتفِي باستِعمال ما يأتِيه من مُنجزاتٍ ومُخترعَات، دُون أن يُكلِّف نفسَه عَناء معرِفة كيفيَّة عملِها، وممَّا تتكوَّن، وكَيف تستطِيع أداءَ العَمل المنُوط بها، وهوَ جهلٌ كبيرٌ في المعرِفة.

الجهلُ المعرِفي يشملُ مُعظمَ المنجزاتِ العلميَّة والتِّقنية؛ حيثُ يكتفِي المسلِمُون باستِعمالها ولا يتساءَلون عن أسبَابها وكيفيَّاتها وعلاقاتِها وتأثِيراتها، وهيَ أسئِلة يُفترض أن تحضُر في مُواجهَة كلِّ مُنجَز، لكن بسَبب ابتعادِهم عن الحضَارة، وإهمالِهم للعَقل والتَّفكير؛ ظلُّوا أسرَى مشاعرِهم، حتَّى أصبحُوا غارقِين في جهلِهم وعدَم إدراكِهم لأبعادِها؛ ما أخرجَهم من مشارِيعها وجعلِهم غَير مؤثِّرين في تقدُّمها، وهيَ النَّتيجة التِي انتهَت إليها حياتُهم الفكريَّة والعقليَّة، فباتُوا غَير مرئِيِّين ولا يُمكن مشاهدتُهم، حِينما يتمُّ الحدِيث عن العِلم والمعرِفة والتَّطوُّر والتَّقدُّم.

العلومُ والمعارفُ تتكوَّن من جانبَين؛ هُما المنجزُ والمنهجُ المُوصِل إليه، وأهميَّة المنهجِ تفوقُ المُنجَز؛ لأنَّها السَّبب في وجُوده وظهُوره، والعَرب في سَابق أزمنتِهم ومعَ ابتِدَاء نُهوضِهم؛ اعتمدُوا المناهِج العلميَّة فأبدعُوا وأنجزُوا، واليَوم يحتاجُون استِعَادة لحظتِهم الزَّمنية الفارِقة؛ المتمثِّلة في إعَادة طَرح وصِياغة تساؤُلاتهم، إذ لا يكفِي أن يكُونوا مُستهلِكين للمُنجزَات الماديَّة، بل عليهم التَّساؤُل عن كيفيَّاتها وعلاقاتِها وتأثِيراتها، فهذَا هوَ السَّبيل لعودتِهم ومُشاركتِهم في تطوُّر الحضَارة واستِمرار تقدُّمها.

ختاماً

خلفَ النُّهوض العَربي سِرٌّ مُدهِش، باءَت محَاولاتُ كَشفِه بالفَشل، حيثُ العربُ لا زالُوا خاملِين، رُغم ماضِيهم المُشرِق وتُراثِهم المُهم، الذِي أشرَق في زمَن سَابق بوصفِه قمَّة المُنجَز الإنسَاني، لكنَّه تضاءَل واختفَى وما عَاد يُذكر إلا عرَضاً، والسَّبب امتِلَاء العقُول بنظريَّة المُؤامَرة! التِي تشعِرُهم بالتَّهديد وتمنعُهم العَمل، وهوَ ما يُمكن مشاهدتُه لدَى المُهاجِرين العَرب، فحِين تحرَّروا من فِكرة المُؤامَرة شاركُوا في صِناعة الحضَارة؛ ما يؤكِّد أنَّ الإشكَال في النَّفس وليسَ خارِجها، وأنَّ العَقل حِين يتحرَّر من القيُود المُكبِّلة قادِر على طَرح الأسئِلة المُناسِبة، وهذَا ما مارسَه السَّابقون فأبدعُوا وأنجزُوا وقادُوا العَالم.