آخر تحديث: 6 / 10 / 2024م - 11:42 ص

مدن سعودية.. بأحاسيس الشعراء

ياسر آل غريب *

تتطلب القصائد الوطنية حضورا شاملا انطلاقا من الحدود الجغرافية والمرويات التاريخية، بإحساس عام مشترك مزود بالقيم العليا، وقد يكون في بعض الأحيان بهواجس فردية، كأن يكتب الشاعر عن مدينة معينة أو يعود إلى أحضان قريته الأولى، يمكنني أن أطلق عليها كتابة وطنية بتوقيع خاص.

في الشعر السعودي عدة نماذج في التغني بالمدن، وأول ما يقفز في ذهني قصيدة «جدة» للشاعر حمزة شحاتة التي انطلق فيها من البحر العلامة الأبرز في هذه البقعة متنقلا بين عوالمها السحرية حيث ارتباطه الوثيق بها؛ فهي تمثل له فتنة الحياة ومدار الذكريات والكون الناطق بالمعجزات، وما تتركه من أثر في الوجدان بنسجيها الاجتماعي المتعدد:

النُّهى بين شاطئيك غريقُ والهوى فيك حالمٌ ما يفيقُ
ورؤى الحبِّ في رحابك شتَّى يستفز الأسير منها الطليقُ

ومعانيكِ في النفوس الصديا تِ إلى ريِّها المنيع رحيقُ
إيه يا فتنةَ الحياة لصبِّ عهدُه في هواكِ عهدٌ وثيقُ

وللشاعر غازي القصيبي قصيدة «أنتِ الرياض» نشرت في ديوان يحمل نفس العنوان، في السبعينات الميلادية، استطاع بها أن يوحد بين الإنسان والمكان، في كل الأحوال والظروف، وكأنهما شيء واحد فلا فرق بين المعشوقة والأرض حيث تنمحي الفروقات، أو لنقل أن لهذه القصيدة وجهين: غزلي ووطني في لحظة واحدة، بما تستبطنه من فكرة مركزية تسيطر على وجدان الشاعر، حتى إذا غابت الرياض في وقت الغربة فإنها تتجلى في عيون الحبيبة، مما يعني أن هذا الحب سرمدي لا حد له:

وفاتنةٌ أنت مثل الرياض
ترقّ ملامحها في المطر

وقاسيةٌ أنت مثل الرياض
تعذب عشاقَها بالضجر

ونائيةٌ أنت مثل الرياض
يطول إليها.. إليك.. السفر

أما الشاعر عبدالله الصيخان فله قصيدة «الغناء على أبواب تيماء» - وقد سُمِّيَ الديوان باسمها أيضا - وقف فيها وقفة وجودية أمام هذه المنطقة الأثرية التي تفوح من أحجارها رائحة التاريخ.

وتتجلى صورة الزمن الأول في مياه بئرها. إننا قبالة الشاعر الذي يكرر سؤاله: وتيماء كيف؟ مستفهما عن أخبارها في ظل التحولات الزمنية التي تغير حياة الإنسان. ولهذه القصيدة ثلاثة أبعاد تتكون من رحيل الحبيبة واشتياق الشاعر السائل والمكان الأثير الذي يضمهما ذات عناق مترع بالإنسانية.

إذ ترحلين
تستفيقُ القرى في الصباح
وترحل في قلب هذا الطريق
وتيماءُ كيف؟
ألا تعرفين ال يجيء
تغير ما في الفؤاد
فهذي القرى أنكرتني
وهداج يأخذ شكل المحارةْ
وهداج يركض في النخل والقادم المستحيل
وتيماء.. كيف؟

وإذا اتجهنا شرق البلاد سنجد الشاعر عدنان العوامي معبرا عن القطيف مسقط رأسه والبيئة التي نشأ وترعرع فيها، بقصائد عديدة تشكل مساحة كبيرة من ديوانيه: «شاطئ اليباب» و«ينابيع الظمأ»، وها هو في رائعته «وقفة على أطلال خولة» يبدو امتدادا للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، يستشعر قيمة المكان ومتغيرات العصر التي تطرأ عليه كالزحف نحو المدنية الحديثة بمفاعيل الطفرة الاقتصادية:

سلاماً، سلاماً مَنازلَ خَوله
سلام الخليل تذكَّر خلَّه

تذكَّر مدرج أحبابه
ضِفافاً ومشتل ضوءٍ ونخله

وملهى صَباً سوسنيَّ الأديم
تطوف المواسم بالعشق حوله

تذكَّر سِيفاً، ورفَّةَ قِلعٍ
ونجمةَ صيفٍ تغازل تلَّه

ما هذه إلا نماذج عن التعبير عن المدن، تشترك جميعها في الارتباط الوثيق بين الأرض والأنثى، لم تنطلق من كونها مناظر وصفية فقط بل تتعدى ذلك لتكون حالات إنسانية تبرز الجانب الفطريّ عند البشرية، كذلك المحافظة على إبراز الرمز التاريخي، وتظل حقيبة الشعر السعودي مليئة بما سطره الشعراء عن مناطقهم انتماء وفخرا بها.