آخر تحديث: 18 / 10 / 2024م - 12:02 ص

عن آليات التلقي للنصوص الشعبية

كاظم الخليفة * مجلة اليمامة

تخفض القصيدة الشعبية من منسوب المجاز إلى حده الأدنى، وتمارس بخفة الاشتغال على الصور الشعرية البسيطة لإبراز المعنى عند مستوى نظر المتلقي ووعيه اللحظي. لا تطيل - غالباً - أفق انتظاره وتعفيه من الدخول إلى غواية التأويل ولعبة البحث عن المعنى وقصدية الشاعر. فالأدب الشعبي أو الجماهيري في شرط”تزفيتان تودوروف”، الفيلسوف والناقد الفرنسي، هو الذي «يتماشى بطريقة مباشرة مع الحياة اليومية لمتلقيه»، مقارنة بالأدب النخبوي الذي يتوجه إلى «النقاد والكتاب والأساتذة الذين يهتمون بالانتصارات التقنية لمبدعيه». وبالتعريف السابق، نجد أن القصيدة“الفصحى”تتشارك مع القصيدة الشعبية في صفة“الجماهيرية”، وذلك عندما تلتزم الأولى بتقاليد الثانية، كقصائد نزار قباني، على سبيل المثال. وبما أننا في صدد الحديث فقط عن الأدب الشعبي، فسنحاول في هذه العجالة إضاءة بعض تقنيات القصيدة الشعبية في إيصال المعنى البسيط و”الطريف”لجمهورها وطرقها المبدعة في الأمثلة التالية.

“الصوت في حدود القصبة”:

«حبك حشرني حشّرَةْ القير باثنين..

الضغط ستة والتواير مصاليخ»

البيت الشعري الشعبي السابق ابن بيئته، وجميع مفرداته تنبع من اللهجة الشعبية الدارجة لكن مع مسحة حديثة لمفردات دخيلة على مجتمع ما قبل النفط:

القير = صندوق التروس لمغير سرعة السيارة اليدوي

باثنين = التحويل إلى الترس الثاني

الضغط ستة = هو مقياس جهد المحرك وسرعة دورانه «ستة آلاف دورة في الدقيقة»

التواير = دواليب العربة أو“الكفرات”

أما مفردتي“حشرني”و”مصاليخ”فهما من مفرداتنا العامية، حيث تعني الأولى مقدار التأزم والثانية الاهتراء والتمزق. والمعنى الذي قصده الشاعر يأتي في سياق الحديث عن لوعته بالعشق ومقدار تأزمه النفسي الذي بدا وكأنه مركبة تراوح في مكانها ولا تستطيع السير؛ الكفرات ممزقة وخالية تقريباً من الهواء، والترس الذي اختاره السائق غير مناسب لحركة الانطلاقة.. والمحصلة أن العربة لا تستطيع الحركة. فكذلك هو الشاعر في انسداد الأفق واستحالة إتمام مسيرة العشق إلى نهايتها المأمولة، والذي يشي بحدوث انفجارات داخلية لعواطفه.

هنا، نحن مارسنا عملية التفسير على البيت الشعري على ضوء استيعاب كلمات الشاعر ولم نحتج إلى الدخول في مغامرة التأويل وتحميل المعنى بأكثر من هذا الحد حسب إدراكنا لقصدية المؤلف.

“اشرب ما يكفي من العشق”:

«أشرب أريد أنساك

أسكر وأَذِكركْ..»

لن تستطيع بعد هذا النص المتفجر سوى ان تقول“أويليي”باللهجة العراقية. فما سيقوله الشاعر بعد ذلك، أو ماذا تتوقعه من تكملة لن تسعى إليه، وسوف تعاود لمرات قراءة هذا المقطع. وأطمئنك أن الشاعر بعد بيته الشعري الأول هذا، لم يستطع قول أي شيء له قيمة تذكر في باقي قصيدته. فقد أضطرب وارتبك ولم يستطع مجاراة قوته ومقدار تكثيفه وبريق ومضته في باقي قصيدته؛ فلنعد إلى قراءته من جديد.

فما يتصوره الشاعر عن العشق، سوى أنه مقذوفة نارية تصيب سويداء القلب تماماً، تتوهج بين الضلوع حتى لا فكاك من هجيرها المحرق. ومتى ما أراد تبريد أوارها بسكب الماء لإخماد اشتعاله، يزداد احتراقاً. يمكر الحب ويأخذه إلى ناحية لا يريدها؛ فعندما يغيب العقل تحضر المعشوقة وبقوة، وكأن العقل بحضوره التام يحجب قليلاً من توهجها.

شاعر آخر ولج العشق هذه المرة من باب الدهشة، وهو يعرف تماماً عثرات الطريق ومفازاته شديدة الغموض ومقدرته الهائلة على تغيير قواعد المنطق. فالعشق يستبطن اللامعقولية في جميع مراحله لذلك يصرخ وهو يعلم مصدر الجرح:

«عشقناكم عشق سكران

يشوف الدنيا مقلوبه».

فيشعر أنه قد أُغلق عليه في أحد متاهات الحب بدخوله مرحلة اللاعودة، فلا يستطيع الخروج وإن رغب. لقد فات الأوان بعد انغراس سهم“كيوبيد”ناحية القلب، فلا فكاك:

«عشقناكم عشق كافر

مات وفاتته التوبة».

فهل يريد الخروج حقاً، أم أنه يتغنى بعشقه وينتشي به؟

في هذا المستوى من لعبة استدراج المتلقي إلى التأويل، نجد أننا لم نطل الوقوف كثيراً عند استبطان المعنى، وأن الأثر الجمالي للنص قد انطبع بشكل سريع داخلنا. ذلك بالرغم من تشابه توظيف استعارة“السُكر”مع الأدبيات الصوفية التي تبعدها عن المعنى الحسي المباشر للمفردة، وتصف لحظات الانفعال الروحي وحالات الوجد.

آلة“السمسمية”وتثوير الألم:

«على الويل ويلاه.. يا سمسمه يعني لمّه..

عذابي هلسمسمة..

طالب عليه،“المربعة”يعني لمّه

طالب عليه، امي وأبوي وعزوتي..

وطالب عليه انجوم السما يعني لمّه.. عذابي هلسمسه».

كلمات بسيطة، بل هي تمتمات صوفية مبهمة لا يمكن القبض على أي معنى في مفرداتها.. سوى ما تعنيه من ألم يتداعى ويتكثف في أوتارها «آلة السمسمية الموسيقية» حيث تتداعى في ذاكرة الشاعر ما تعنيه هذه الآلة من حضور واجتماع باحبابه.

لكن عندما نقرأها أو نستمع إلى كلماتها المغناة في ظروف نفسية معينة، فقد تكون هذه الكلمات ملهمة جداً.. ثم نخرج بما يشبه هذه القراءة التأويلية:

استنهاض للعشق وبعثه بمحرك الألم.. إرباكه، ثم ملاعبته!؟ كدائرة صوفية لا تسمح للآهات بالخروج عن ربقة الحلقة، بل تهدهدها وترجعها للأجساد منهكة لتهدأ وتنام. تفريغ حيوي لشحنات اللوعة المجهدة والضارة بالعشق. ذلك ما تعنيه آلة“السمسمية”الموسيقية في الوجدان البشري منذ اختراع الفراعنة لها بوترياتها البسيطة، والتي لا تسمح بالانتقال من مقام إلى آخر حتى يُعاد ضبطها من جديد، أي أن الشاعر لا يستطيع أن ينوع في مشاعره واستبدال حبيبته بأخرى.

مغامرتنا التأويلية السابقة، انبنت على مفهوم يفترض حضور آلة السمسمية التي هي بطبيعتها مركزية في استبطاننا للنص، وتنهض بجميع المعاني التي أطرناها به. قد تصيب المعنى، وقد تجانبه؛ فيكون تأويلنا مجرد إسقاط انفعالي لا يتبناه النص ويتبرأ منه.

أخيراً، هذا هو الفرق بين التفسير والتأويل في ممارسته البسيطة على الشعر الشعبي. فبالتفسير، يحاول المتلقي أن يصل إلى قصد كاتب النص، أما التأويل فهو مقدار ما يضيفه المتلقي على النص تبعاً لثقافته وميوله النفسية واحتياجاته الروحية. وفي العادة تستدعي ممارسة التأويل على النص الشعبي الحذر من الافراط بإسقاط معان لا يقوى النص على النهوض بها من قبل المتلقي لمخالفتها قواعده وطبيعة بنيته.